د. الياس ميشال الشويري
شهدت الساحة المالية اللبنانية تطورًا بارزًا أعاد تسليط الضوء على أزمة النظام المصرفي العميقة، وذلك بإعادة انتخاب سليم صفير لرئاسة جمعية المصارف اللبنانية للمرة الثالثة على التوالي. هذا الحدث لم يكن مجرد استحقاق داخلي للجمعية، بل حمل في طياته رسائل سياسية واقتصادية متعددة، عكست مدى تعقيد المشهد المصرفي في لبنان، وأثارت موجة من الجدل حول مستقبل هذا القطاع الذي يُعتبر العمود الفقري للاقتصاد اللبناني.
يأتي هذا القرار في ظل أزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة، حيث يعاني اللبنانيون منذ العام 2019 انهيار العملة الوطنية، وقيود مشددة على الودائع المصرفية، وتراجع الثقة التام في المؤسسات المالية. ومع ذلك، اختارت المصارف اللبنانية الإبقاء على النهج ذاته الذي كان أحد الأسباب الرئيسية في تفاقم الأزمة، ما يؤكد أن القوى المالية لا تزال تهيمن على القرار المصرفي، وترفض أي تغيير جوهري قد يُحمّلها جزءًا من مسؤولية الانهيار.
السؤال المحوري الذي يفرض نفسه: هل تعكس إعادة انتخاب صفير رغبة المصارف في مواجهة التحديات وإيجاد حلول للأزمة، أم أنها تأكيد على استمرار المنظومة المصرفية القديمة التي تتحصّن خلف نفوذها وترفض أي محاسبة أو إصلاح؟
من جهة أخرى، تدّعي السلطات اللبنانية (الفاسدة بامتياز) سعيها إلى إصلاح النظام المصرفي وإعادة هيكلته بهدف استعادة الثقة المحلية والدولية. لكن إعادة انتخاب صفير تضع هذه الادعاءات موضع شك كبير، إذ تعكس أن الإصلاحات المزعومة لا تزال حبرًا على ورق، وأن إرادة التغيير الحقيقي تصطدم بجدار المصالح المصرفية الراسخة.
إن هذا التطوّر يعيد طرح الأسئلة حول قدرة الدولة على فرض إصلاحات حقيقية، ومدى استعداد المصارف للقبول بحلول عادلة توزّع الخسائر بشكل منصف، بدلًا من الاستمرار في تحميل المودعين الجزء الأكبر من التداعيات. ومع استمرار الجمود السياسي والاقتصادي، يبقى القطاع المصرفي في قلب العاصفة، بين مطالبات شعبية بإصلاح جذري، وضغوط دولية لهيكلة شاملة، وإصرار داخلي على التمسّك بالسلطة المالية كما كانت قبل الأزمة.
فهل ستكون هذه الخطوة بدايةً لمزيد من التعقيد في الأزمة المصرفية، أم أن المصارف قادرة على تقديم حلول تعيد الثقة المفقودة؟
- دلالات إعادة انتخاب سليم صفير
جاءت إعادة انتخاب سليم صفير لرئاسة جمعية المصارف اللبنانية للمرة الثالثة على التوالي في مرحلة تاريخية مفصلية، حيث يمر القطاع المصرفي بأزمة غير مسبوقة، ويواجه ضغوطًا داخلية وخارجية لإجراء إصلاحات جذرية. غير أن إعادة انتخابه لم تكن مجرّد إجراء داخلي، بل حملت في طيّاتها رسائل واضحة حول توجهات المصارف اللبنانية، ومدى استعدادها للتعامل مع التحديات الحالية.
–استمرارية النهج التقليدي. يُعد سليم صفير من أبرز رموز القطاع المصرفي التقليدي، حيث لعب دورًا رئيسيًا في السياسات المصرفية التي سبقت الانهيار المالي، ولم يُعرف عنه تأييد أي تغييرات جذرية قد تؤثّر على بنية القطاع المصرفي القائمة. إعادة انتخابه تُشكّل إشارة واضحة إلى أن المصارف مستمرة في التمسّك بنفس النهج الذي أوصل لبنان إلى هذه الأزمة، وهو ما يؤكد عدم وجود نيّة حقيقية لإعادة النظر في دورها ومسؤولياتها.
هذا القرار يعكس عدم استعداد المصارف للاعتراف بدورها في الانهيار المالي، إذ ما زالت تعمل على حماية مصالحها ونفوذها بدلًا من تبنّي إصلاحات جوهرية. كما أن الإصرار على إعادة انتخاب شخصية مصرفية محسوبة على المنظومة التقليدية، يُبرز رفض المصارف لأي محاولات لتغيير السياسات المالية، ما يعني استمرار الجمود في الحلول المطروحة للأزمة. أما انعكاسات هذا النهج التقليدي، فهي:
أ-استمرار غياب الشفافية والمحاسبة داخل القطاع المصرفي.
ب-رفض المصارف تحمّل أي مسؤولية عن السياسات المالية التي أدّت إلى خسائر المودعين.
ج-تعزيز الشعور بأن المصارف تسعى لحماية مصالح أصحاب النفوذ المالي والسياسي بدلًا من تحقيق مصلحة عامة.
–رسالة سياسية في مواجهة التغيير. تزامنت إعادة انتخاب صفير مع ضغوط سياسية وشعبية متزايدة لإجراء إصلاحات جذرية في القطاع المصرفي، خصوصًا بعد الانهيار الاقتصادي الذي أدّى إلى خسائر فادحة للمودعين وأثار موجة غضب واسعة ضد المصارف. ورغم ذلك، فإن المصارف اختارت الإبقاء على قيادتها التقليدية، ما يعكس تمسكها الشديد بزمام الأمور، وعدم استعدادها للخضوع لأي تغييرات قد تضّر بمصالحها.
هذه الخطوة تحمل رسائل سياسية واضحة، أبرزها أن المصارف لا تزال قادرة على فرض إرادتها رغم كل المحاولات الرامية إلى تقليص نفوذها. فهي لم تستجب للمطالب الداخلية أو الضغوط الخارجية الداعية إلى إعادة هيكلة النظام المصرفي، بل قامت بإعادة تأكيد هيمنتها على القرار المالي في البلاد. ومن دلالات هذه الرسالة:
أ-تحدٍ واضح للمطالب الشعبية التي تنادي بمحاسبة المسؤولين عن الأزمة المالية.
ب-تأكيد أن القطاع المصرفي لا يزال بعيدًا عن أي مسار إصلاحي جدّي، وأنه يعمل على حماية مصالحه بدلًا من البحث عن حلول للمودعين.
ج-تعزيز النفوذ المصرفي في مواجهة محاولات الإصلاح الحكومية والدولية، ما يعقّد أي خطة للتعافي المالي.
–تحدّي الحكومة المنتظرة برئاسة القاضي نّواف سلام في تنفيذ خطط التعافي الاقتصادي. حاولت (؟) الحكومة اللبنانية الحالية برئاسة نجيب ميقاتي، رغم افتقارها لثقة المودعين والمجتمع الدولي، منذ سنوات تقديم مقترحات لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، والتي تشمل إعادة توزيع الخسائر بين المصارف، البنك المركزي، الدولة، والمودعين. غير أن المصارف بقيادة سليم صفير رفضت هذه المقترحات، وأصرّت على حماية رؤوس أموالها وتحميل المودعين العبء الأكبر من الخسائر.
إعادة انتخاب صفير تُشير إلى أن المصارف ما زالت غير مستعدة للمشاركة في أي حلول عادلة للأزمة، وهو ما يُشكّل تحديًا كبيرًا للحكومة المنتظرة برئاسة القاضي نوّاف سلام، خاصة في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي. فالصندوق يشترط تنفيذ إصلاحات جذرية تشمل إعادة هيكلة المصارف، ووضع خطة واضحة لتعويض المودعين، وهو ما ترفضه المصارف بشدة. ومن العقبات التي تفرضها المصارف على خطّة التعافي:
أ-رفض تحمّل أي خسائر مباشرة ناتجة عن الانهيار المالي.
ب-الإصرار على تحميل المودعين الجزء الأكبر من الخسائر، رغم مسؤولية المصارف المباشرة عن الأزمة.
ج-تعقيد المفاوضات مع الجهّات الدولية، خاصة صندوق النقد الدولي، بسبب عدم تقديم إصلاحات حقيقية في القطاع المصرفي.
د-إطالة أمد الأزمة المالية من خلال المماطلة ورفض أي حلول عادلة تعيد توزيع الخسائر بشكل متوازن.
–خلاصة دلالات إعادة الانتخاب. تشير إعادة انتخاب سليم صفير إلى أن المصارف اللبنانية لا تزال متمسكة بنهجها القديم، وترفض أي تغييرات جوهرية قد تمّس مصالحها. كما تعكس هذه الخطوة رفضًا واضحًا للضغوط الداخلية والخارجية للإصلاح المصرفي، واستمرارًا لنهج التصعيد مع الحكومة المنتظرة برئاسة القاضي نوّاف سلام في ملّف التعافي الاقتصادي.
في ظلّ هذه المعطيات، يبدو أن الأزمة المالية اللبنانية ذاهبة نحو مزيد من التعقيد، حيث تصّر المصارف على حماية مصالحها، بينما يعاني المودعون من قيود مجحفة على أموالهم. ومع تصاعد الضغوط الدولية لتنفيذ إصلاحات، يبقى السؤال: إلى متى ستتمكن المصارف من تأجيل المحاسبة والإصلاح؟
- أثر هذه الخطوة على الإصلاحات المصرفية
إعادة انتخاب سليم صفير على رأس جمعية المصارف اللبنانية ليست مجرّد خطوة إدارية، بل هي مؤشّر سلبي على مستقبل الإصلاحات المصرفية في لبنان. ففي وقت يواجه فيه القطاع المالي ضغوطًا هائلة لإجراء تغييرات جذرية، تعكس هذه الخطوة إصرار المصارف على مقاومة أي إصلاح حقيقي. وهذا لا يؤثّر فقط على استعادة أموال المودعين، بل يضع عراقيل أمام أي خطّة للتعافي المالي، ويزيد من تعقيد علاقة لبنان مع المجتمع الدولي والمؤسسات المالية.
–فشل إصلاح النظام المصرفي. لطالما وعدت الحكومات اللبنانية المتعاقبة بإصلاح النظام المصرفي ومعالجة تبعات الانهيار المالي، لكن هذه الوعود بقيت مجرد خطابات فارغة دون أي إجراءات ملموسة. جاءت إعادة انتخاب سليم صفير لتؤكّد أن هذه الإصلاحات لا تزال بعيدة المنال، إن لم تكن مستحيلة في ظل استمرار نفس الشخصيات التي كانت جزءًا من المشكلة في مواقع القرار. ومن دلالات استمرار الفشل في الإصلاح المصرفي:
أ-غياب أي نية جدية لمعالجة الأزمة المالية من جذورها.
ب-استمرار السياسات المصرفية التي تقوم على حماية مصالح البنوك على حساب المودعين.
ج-تكرار نفس الأخطاء التي أدّت إلى الانهيار المالي، بدلاً من البحث عن حلول مستدامة.
د-تعطيل أي إصلاحات تشريعية ضرورية لإعادة هيكلة القطاع المصرفي.
في ظلّ هذا الواقع، يبقى الحديث عن إصلاحات مصرفية مجرّد شعارات للاستهلاك الإعلامي، في حين أن الخطوات الفعلية لا تزال تدور في الحلقة المفرغة ذاتها، ما يعزّز الأزمة ويفاقم معاناة المودعين الذين فقدوا أموالهم دون أي أفق لاستعادتها.
–عرقلة إعادة هيكلة القطاع المصرفي. يُعتبر إصلاح القطاع المصرفي وإعادة هيكلته من أهم الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي والجهّات الدولية المانحة لأي مساعدة للبنان. فالمصارف اللبنانية تواجه خسائر ضخمة تُقدّر بعشرات المليارات من الدولارات، وكان من المفترض أن يتّم توزيع هذه الخسائر بطريقة عادلة بين الدولة والمصارف والمودعين. إلا أن موقف المصارف، بقيادة سليم صفير، يُعرقل أي خطة إصلاحية حقيقية، حيث تصّر هذه المصارف على:
أ-تحميل الدولة المسؤولية الكاملة عن الخسائر المالية، في محاولة للتنصّل من أي مسؤولية.
ب-رفض أي حلول تفرض خسائر مباشرة على رؤوس أموال المصارف أو كبار المساهمين فيها.
ج-التمسّك بالنظام المصرفي الحالي، رغم فقدانه للسيولة والثقة المحلية والدولية.
هذه العوامل تجعل من إعادة هيكلة المصارف مهمة شبه مستحيلة، حيث تسعى البنوك إلى عرقلة أي إصلاحات قد تضّر بمصالحها، ممّا يؤدّي إلى إطالة أمد الأزمة وتعميق معاناة الاقتصاد اللبناني ككّل.
–تراجع ثقة المودعين والمجتمع الدولي. من أبرز تداعيات إعادة انتخاب سليم صفير هو تآكل ما تبقّى من ثقة المودعين والمجتمع الدولي بالقطاع المصرفي اللبناني. فالمودعون، الذين فقدوا مليارات الدولارات نتيجة الإجراءات غير القانونية التي اتخذتها المصارف، كانوا يأملون في تغييرات جذرية تعيد إليهم بعضًا من حقوقهم. إلا أن هذه الخطوة أكدت لهم أن المصارف مستمرة في نهجها القائم على حماية كبار النافذين على حساب حقوقهم. أما آثار ذلك على المودعين:
أ-استمرار انعدام الثقة في المصارف وعدم استعدادهم لإعادة إيداع أموالهم فيها.
ب-ارتفاع معدلات تهريب الأموال خارج لبنان، سواء عبر السوق السوداء أو القنوات غير الرسمية.
ج-تزايد الضغوط الاجتماعية نتيجة فقدان شريحة واسعة من اللبنانيين لمدخراتهم.
أما على المستوى الدولي، فإن هذه الخطوة تعزّز مخاوف الجهات المانحة وصندوق النقد الدولي من عدم قدرة لبنان على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. وهذا قد يؤدّي إلى:
أ-تعطيل أي مساعدات دولية يمكن أن تساعد في تخفيف الأزمة المالية.
ب-إضعاف موقف لبنان في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، حيث ستبدو الحكومة المنتظرة برئاسة القاضي نوّاف سلام غير قادرة على فرض إصلاحات على المصارف.
ج- زيادة عزلة لبنان اقتصاديًا، ما يجعل التعافي المالي أكثر صعوبة وتعقيدًا.
خلاصة أثر إعادة الانتخاب على الإصلاحات المصرفية. تشكّل إعادة انتخاب سليم صفير ضربة قوية لكل الجهود الرامية إلى إصلاح القطاع المصرفي، حيث تؤكّد أن المصارف لا تزال متمسكة بمصالحها الضيقة على حساب المودعين والاقتصاد اللبناني ككّل. ومع استمرار هذه العقلية، يبدو أن أي أمل في استعادة أموال المودعين أو تنفيذ إصلاحات حقيقية سيبقى بعيد المنال، بينما يتفاقم الوضع الاقتصادي ويتعاظم التحدّي أمام أي محاولة لإنقاذ البلاد من أزمتها المالية الحادة.
- المصارف والعهد – مواجهة مستمرة
منذ بداية الأزمة المالية في 2019، برزت العلاقة بين السلطة السياسية والمصارف كأحد المحاور الأساسية التي تحدّد مسار الإصلاحات في لبنان. فبينما تعهدت السلطة الحاكمة (الفاسدة بامتياز) بإجراء تغييرات جذرية في النظام المالي، فإن الواقع يعكس عجزها عن مواجهة نفوذ المصارف، التي لا تزال قادرة على فرض أجندتها الاقتصادية وتفادي أي إصلاحات تُضّر بمصالحها. إعادة انتخاب سليم صفير على رأس جمعية المصارف تؤكّد استمرار هذه المواجهة غير المتكافئة، حيث يبدو أن القطاع المصرفي لا يزال الطرف الأقوى، رغم فشله في حماية أموال المودعين وإدارة الأزمة.
–إحراج للعهد الحالي أمام الرأي العام. منذ اندلاع الأزمة، قدمت السلطة الحاكمة، وعلى رأسها العهد السياسي الفاسد، وعودًا كثيرة بإجراء إصلاحات اقتصادية ومصرفية شاملة، إلا أن معظم هذه الوعود بقيت حبراً على ورق. وكان الرهان الأساسي يتمثّل في إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتحميل المصارف جزءًا من الخسائر، لكن إعادة انتخاب سليم صفير تعكس فشل (أو عدم رغبة) السلطة (الفاسدة بامتياز) في تحقيق هذا الهدف. ومن دلالات إحراج العهد الجديد أمام اللبنانيين:
أ-فشل الحكومة المنتظرة برئاسة القاضي نواف سلام في فرض أي تغيير على المصارف سيعكس ضعف القرار السياسي ويشكّل ضربة مؤلمة للعهد الجديد (المعوّل عليه كثيراً) برئاسة العماد جوزيف عون.
ب-استمرار هيمنة القطاع المصرفي على المشهد الاقتصادي، رغم مسؤوليته عن الأزمة المالية.
ج-انعدام الثقة الشعبية بالسلطة، التي تبدو عاجزة (أو راغبة) عن تنفيذ أي وعود إصلاحية.
د-تعزيز صورة الدولة كطرف متواطئ مع المصارف بدلاً من أن تكون قوة إصلاحية.
في ظل هذا الواقع، فإن اللبنانيين الذين فقدوا مدخراتهم ولم يحصلوا على أي تعويض أو حل لأزمتهم يرون في إعادة انتخاب صفير دليلًا إضافيًا على أن المنظومة السياسية (الفاسدة بامتياز) لا تزال رهينة المصارف، وأن الحديث عن محاسبة المسؤولين عن الأزمة مجرّد مناورة سياسية لتخفيف الغضب الشعبي.
–إضعاف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. يشترط صندوق النقد الدولي تنفيذ إصلاحات مالية حقيقية تشمل إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتحميل المصارف جزءًا من الخسائر، إضافة إلى اعتماد خطّة تعافٍ واضحة تضمن استعادة أموال المودعين تدريجيًا. إلا أن استمرار قيادة المصارف الرافضة لأي تنازلات، يعقّد مسار المفاوضات مع الصندوق، ممّا يضع لبنان في مأزق اقتصادي أعمق. فكيف تؤثّر إعادة انتخاب صفير على المفاوضات مع صندوق النقد؟
أ-تؤكّد أن المصارف اللبنانية ترفض الشروط الأساسية لصندوق النقد، ما يعقّد إمكانية التوصّل إلى اتفاق.
ب-تُظهر ضعف السلطة السياسية (أو الأرجح عدم رغبتها) في فرض الإصلاحات المطلوبة، مما يُفقدها المصداقية أمام الجهات المانحة.
ج-تزيد من مخاوف الدول الداعمة للبنان، والتي تراقب مدى التزام الحكومة المنتظرة برئاسة القاضي نوّاف سلام بالإصلاحات قبل تقديم أي مساعدات.
د-تساهم في إطالة أمد الأزمة الاقتصادية، حيث سيبقى لبنان عاجزًا عن تأمين دعم مالي خارجي دون إصلاحات حقيقية.
يُدرك صندوق النقد أن المصارف اللبنانية ترفض أي حل يُجبرها على تحمّل جزء من الخسائر، لكن بقاء هذه القيادة المصرفية نفسها يعني أن لبنان لا يزال يراوح مكانه، ممّا قد يدفع الصندوق إلى التشدّد أكثر في شروطه أو حتى وقف المفاوضات تمامًا.
–تعزيز سلطة المصارف على القرار الاقتصادي. رغم الأزمة العميقة التي يمّر بها لبنان، لا تزال المصارف اللبنانية تُمسك بمفاصل القرار المالي والاقتصادي، بل وتفرض شروطها على أي خطة إصلاحية. إعادة انتخاب سليم صفير تعني أن هذه الهيمنة لن تتراجع، بل ستزداد قوة، ممّا يُضعف أي محاولة لاستعادة التوازن بين المصارف والدولة. ومن مظاهر سيطرة المصارف على القرار الاقتصادي:
أ-تعطيل أي قرارات تُحمّل المصارف جزءًا من الخسائر.
ب-استمرار حجب أموال المودعين والتلاعب بها من خلال سياسات غير شفافة.
ج-رفض أي إصلاحات تشريعية قد تُعيد هيكلة القطاع المصرفي.
د-التأثير على السياسات المالية للدولة، خاصة في ما يتعلّق بتوزيع الخسائر وخطط الإنقاذ.
رغم أن القطاع المصرفي هو أحد الأسباب الرئيسية للأزمة، فإنه لا يزال يُمارس نفوذه السياسي والاقتصادي، وكأن شيئًا لم يتغير. وهذا يعني أن أي حكومة قادمة ستجد نفسها أمام واقع مشابه، حيث تبقى المصارف هي الجهة المتحكمة بالقرار المالي في البلاد، ممّا يضعف فرص أي تحول اقتصادي حقيقي.
-خلاصة المواجهة بين المصارف والعهد. تعكس إعادة انتخاب سليم صفير استمرار الهيمنة المصرفية على المشهدين الاقتصادي والسياسي في لبنان، في وقت كان من المفترض أن يشهد القطاع المصرفي إصلاحات جذرية. بدلاً من أن تتخّذ الحكومة الحالية برئاسة نجيب ميقاتي، التي تفتقر إلى ثقة المودعين والمجتمع الدولي، خطوات حاسمة لتقييد نفوذ المصارف، أظهرت التطوّرات أنها لم تكن يوماً راغبة في فرض تغييرات فعلية، ممّا أضعف موقفها أمام اللبنانيين من جهة، والمجتمع الدولي من جهة أخرى.
في ظل هذا الواقع، يبدو أن الأزمة الاقتصادية مرشحة للاستمرار لسنوات، حيث تبقى الدولة رهينة المصارف، والمودعون دون أي أفق لاستعادة أموالهم، والمفاوضات مع صندوق النقد معلقة بسبب تعنّت المصارف وغياب الإرادة السياسية الحقيقية للإصلاح.
- التداعيات المستقبلية لإعادة انتخاب صفير
إعادة انتخاب سليم صفير ليست مجرّد قرار داخلي يخّص جمعية المصارف، بل تحمل انعكاسات كبيرة على مستقبل القطاع المصرفي والاقتصاد اللبناني ككّل. فاستمرار النهج نفسه يعزّز المخاوف من تفاقم الأزمة المالية، ويُضعف ثقة المودعين والمجتمع الدولي بقدرة المصارف على تصحيح المسار. وبالنظر إلى الوضع الراهن، يمكن توقع ثلاثة تداعيات رئيسية: استمرار تآكل الودائع، تصاعد النقمة الشعبية، وتصاعد الضغوط السياسية والدولية على القطاع المصرفي.
–استمرار تآكل الودائع. من دون أي إصلاحات جوهرية أو تغيير في سياسات المصارف، سيستمّر تآكل أموال المودعين، ممّا يزيد من معاناتهم ويفاقم حالة عدم الاستقرار المالي في البلاد. منذ بداية الأزمة في 2019، اتبعت المصارف اللبنانية إجراءات تعسفية أدّت إلى خسائر فادحة للمودعين، ولم تُظهر أي نية فعلية لتغيير هذا النهج. إعادة انتخاب سليم صفير تعني أن هذه السياسات ستستمر، وربما تتفاقم مع مرور الوقت. مظاهر استمرار تآكل الودائع:
–الإبقاء على القيود المصرفية: استمرار سياسة السحوبات القسرية، ومنع المودعين من الحصول على ودائعهم بالدولار.
أ-دفع الودائع بسعر صرف منخفض: اعتماد سياسات “الهيركات” المقنّع عبر إجبار المودعين على سحب أموالهم بالليرة اللبنانية بأسعار صرف غير عادلة.
ب-تعثّر المصارف واستمرار العجز عن السداد: مع غياب خطّة واضحة لحل الأزمة، ستظل المصارف عاجزة عن إعادة أموال المودعين أو حتى استعادة ثقتهم.
ج-تدهور قيمة الودائع بالدولار المحجوزة: مع استمرار تدهور سعر الصرف، تتراجع القيمة الفعلية للودائع المقيدة في المصارف، ممّا يُفاقم الخسائر.
في ظل غياب إجراءات جذرية لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، فإن أموال المودعين ستظل معرضة لمزيد من الانهيار والتآكل، وهو ما يعمّق الأزمة المالية ويؤخّر أي إمكانية للتعافي الاقتصادي.
–تصاعد النقمة الشعبية. إعادة انتخاب سليم صفير لا تمثّل فقط استمرار نهج المصارف المتعنّت، بل تحمل رسالة استفزازية للمودعين الذين فقدوا أموالهم ويشعرون بأن النظام المصرفي ما زال يعمل ضد مصالحهم. هذا الأمر من شأنه أن يُعيد إشعال الغضب الشعبي، وقد يدفع باتجاه تحركات احتجاجية جديدة ضد المصارف والحكومة المنتظرة برئاسة القاضي نوّاف سلام. فلماذا قد تتصاعد الاحتجاجات؟
أ-فشل كل الحلول لاستعادة أموال المودعين: بعد أربع سنوات من الأزمة، لا تزال أموال الناس محتجزة دون أي خطة واضحة للتعويض.
ب-إصرار المصارف على تحميل المودعين الخسائر: بدلاً من تحمّل جزء من المسؤولية، تستمّر المصارف في فرض إجراءات تعسفية تزيد من معاناة المواطنين.
ج-استمرار انهيار الليرة اللبنانية: مع كل تراجع إضافي في سعر الصرف، تتآكل قيمة الودائع بشكل أكبر، ممّا يخلق حالة من السخط الشعبي.
د-ارتفاع مستوى الفقر والبطالة: مع غياب أي حل اقتصادي حقيقي، يزداد الضغط المعيشي على المواطنين، ممّا قد يُشعل شرارة احتجاجات واسعة. ومن سيناريوهات تصاعد الغضب الشعبي:
أ-زيادة التحركات الاحتجاجية أمام المصارف في مختلف المناطق اللبنانية.
ب-تصاعد أعمال الشغب والتخريب ضد المصارف، كما حصل في عدة مناسبات سابقة.
ج-زيادة عدد المودعين الذين يلجأون إلى القضاء أو إلى أساليب الضغط المباشر لاسترداد أموالهم.
د-توسيع الاحتجاجات لتشمل مطالب سياسية واقتصادية أوسع، ما قد يؤدّي إلى حالة عدم استقرار أمني.
في ظل هذه الأوضاع، فإن لبنان قد يكون مقبلاً على موجة جديدة من التوترات الاجتماعية، خاصة مع استمرار سياسات المصارف المجحفة بحق المودعين.
–تصاعد الضغوط السياسية والدولية
إعادة انتخاب سليم صفير قد تُفسّر على المستوى الدولي على أنها إشارة سلبية بأن لبنان غير جاد في تنفيذ الإصلاحات المالية المطلوبة. فالمجتمع الدولي، وخاصة الجهات المانحة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي، كان واضحًا في مطالبه بضرورة إصلاح القطاع المصرفي كشرط أساسي لأي مساعدات مالية. استمرار النهج الحالي سيؤدّي إلى زيادة الضغوط الدولية على المصارف والسلطة السياسية في لبنان. فكيف يمكن أن تتصاعد الضغوط الدولية؟
أ-تجميد المساعدات الدولية: أي اتفاق مع صندوق النقد أو أي دولة مانحة سيكون مشروطًا بتغييرات جذرية في القطاع المصرفي، وهو ما قد لا يتحقّق مع بقاء القيادة المصرفية الحالية.
-ب-فرض عقوبات على شخصيات مصرفية: قد تتجه بعض الدول الغربية إلى فرض عقوبات على شخصيات مصرفية متهمة بعرقلة الإصلاحات.
ج-تعليق مفاوضات صندوق النقد: في حال استمرار رفض المصارف تحمل جزء من الخسائر، قد يرفض صندوق النقد استكمال التفاوض مع لبنان.
د-زيادة الضغوط من الجهّات الدائنة: المصارف اللبنانية مدينة لمستثمرين أجانب، وقد يتزايد الضغط القانوني والدبلوماسي عليها لاستعادة أموالهم. أما التداعيات الاقتصادية المتوقعة:
أ-زيادة عزلة لبنان المالية، ممّا يقلّل من فرص الحصول على أي دعم خارجي.
ب-استمرار انهيار الاقتصاد نتيجة فقدان أي فرصة لإعادة الثقة بالقطاع المصرفي.
ج-إضعاف قدرة لبنان على الاستيراد بسبب تراجع الاحتياطات الأجنبية وغياب أي حلول للقطاع المصرفي.
د-تفكّك العلاقات المصرفية مع المؤسسات المالية العالمية، ما يزيد من صعوبة تنفيذ أي عمليات مالية خارجية.
إذا استمرت المصارف اللبنانية في رفض الحلول المطروحة، فقد تجد نفسها أمام مواجهة مباشرة مع المجتمع الدولي، ومع السلطات النقدية والمالية العالمية، ممّا قد يزيد من خطورة الوضع الاقتصادي العام في لبنان.
خلاصة التداعيات المستقبلية: ان إعادة انتخاب سليم صفير لا تمثّل مجرّد استمرارية لقيادة جمعية المصارف، بل هي دليل على أن المصارف اللبنانية لا تزال ترفض أي إصلاح حقيقي. التداعيات المستقبلية لهذه الخطوة خطيرة على المودعين، والوضع الاجتماعي، والاقتصاد الوطني ككّل. فمن جهة، سيستمّر تآكل الودائع مع تراجع قدرة المصارف على السداد، ومن جهة أخرى، قد نشهد تصاعدًا في الغضب الشعبي الذي قد يُترجم إلى احتجاجات أوسع.
أما على المستوى الدولي، فإن هذه الخطوة قد تزيد من الضغوط الخارجية على المصارف والسلطة السياسية، ممّا قد يعقّد مسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ويؤدّي إلى عزلة مالية أكبر للبنان.
في ظل هذا المشهد القاتم، يبدو أن الأزمة المالية ستبقى مستمرة لسنوات، ما لم تحدث إصلاحات جذرية وحقيقية تعيد بناء الثقة بالقطاع المصرفي وتُحقّق عدالة توزيع الخسائر بين الدولة والمصارف والمودعين.
- الخاتمة
إعادة انتخاب سليم صفير لرئاسة جمعية المصارف اللبنانية للمرّة الثالثة تأتي كرسالة واضحة عن استمرار هيمنة النظام المصرفي على الاقتصاد اللبناني، رغم مرور أكثر من أربع سنوات على الانهيار المالي الكبير. هذه الخطوة تؤكّد أن النظام المصرفي اللبناني لا يزال متمسكًا بسياساته التقليدية، ويرفض أي محاولة حقيقية لإصلاح نفسه. لا شك أن المصارف اللبنانية قد تضررت بشدّة بسبب الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد، إلا أن رفضها الدائم لتحمّل المسؤولية في تحمّل جزء من الخسائر يعكس مدى تمسكها بمصالحها الخاصة، متجاهلةً معاناة المودعين والأزمات الاقتصادية التي تعصف بالبلاد.
هذا الواقع يعكس ضعف السلطة السياسية التي فشلت (أو لم ترغب) في فرض الإصلاحات المطلوبة، بل ولم تتمكّن حتى من كسر هيمنة المصارف، وهو ما يجعل أي حديث عن إصلاحات اقتصادية جذرية في المستقبل أمرًا غير مرجح. بل على العكس، فإن استمرار القيادة المصرفية نفسها قد يثير التساؤلات حول صدقية السلطات اللبنانية (الفاسدة بامتياز) في إجراء الإصلاحات التي من شأنها أن تنقذ لبنان من أزمته الاقتصادية.
إن المودعين الذين فقدوا أموالهم كانوا يأملون في أن تكون هذه الفترة فرصة لإعادة بناء الثقة بالنظام المصرفي، لكن استمرار نفس الوجوه التي كانت جزءًا من الأزمة يضع الكثير من علامات الاستفهام حول إمكانية الخروج من هذه الأزمة. إن حماية المصارف لمصالحها على حساب المواطنين أصبح عائقًا حقيقيًا أمام أي إمكانية للتعافي الاقتصادي، ويُظهر أن الطبقة الحاكمة (الفاسدة بامتياز) في لبنان، سواء كانت سياسية أو مصرفية، لم تستفد من الدروس المستفادة من الأزمة.
إن استمرارية هذا النهج قد تؤدّي إلى مزيد من التآكل في ثقة المودعين والمجتمع الدولي بقدرة لبنان على إجراء إصلاحات جادة. كما أن غضب الشارع اللبناني مرشّح للزيادة في ظل هذا الجمود، وقد نشهد تصعيدًا في الاحتجاجات الشعبية، والتي قد تُهدّد الاستقرار الأمني في البلاد.
في الختام، فإن إعادة انتخاب سليم صفير تمثّل في جوهرها استمرار للأزمة، وتمثّل إعلانًا عن تمسّك المصارف بمصالحها الشخصية على حساب مصير الشعب اللبناني. ومن هنا، تبرز الحاجة الملحة إلى إصلاحات جذرية وحقيقية في النظام المصرفي، والتي يجب أن تبدأ بتغيير القيادة المصرفية وتحميلها مسؤولية الخسائر، وتحقيق العدالة للمودعين، لكي يكون هناك أمل حقيقي في استعادة الاستقرار المالي والاقتصادي في لبنان