التباهي بالسيارة الفارهة و…الأموال
بدأت عادة التفاخر بالمقتنيات في بلادنا متأخّرة، عند حديثي النعمة، ومحبّي المظاهر، ممن يرون الدنيا رحلة خسارات متتابعة، وترافقت تلك الظواهر الطارئة باستشراء حمّى الاستهلاك، وبتراجع كبير في قيم المجتمع.
د. غالب خلايلي
يوم كان كان أولادي صغاراً (مع بداية الألفيّة الجديدة)، كانوا يطالبونني بسيارة فارهةٍ يتباهون بها أمام زملائهم.
لم تكن السيارات الفارهة من أولوياتي، فهناك أولويات أهمّ حرصت عليها، أولها التعليم (وهو بالمناسبة مكلفٌ في المراحل الأولى، ليتحول إلى مكلف جداً في الجامعة، إذ يكاد يكون الأغلى في العالم مقارنة ببيروت ولندن وأستراليا)، وثانيها تأمين بيت في الوطن، وهو في دمشق قبل الحرب من الأغلى عالمياً، دعك الآن من نوائب الدهر.
على أنني ملكت – بحمد الله – أكثر من سيارة جيدة، منها سيارة لومينا جديدة أميركية الأصل أسترالية الصنع (ولها قصة تستأهل مقالاً منفرداً)، لكن الأولاد رغبوا في الأغلى والأفخم.
كنتُ عصيّاً – وما زلت – على مثل هذا التفكير، فلست أنا من ينافس فلاناً أو علاناً ممّن ساعتُهم قد تساوي سنتي أو حتى عمري كاملاً. كلنا، وفي كل وقت، نعيش في عالم متخم بالأغنياء الذين لا تمكن منافستهم، ولا ضرورة لذلك أصلاً. لكل امرئ قناعتُه ومقامُه في الدنيا، ولا أرى مقامي بسيارة، ولو أن مواقفَ كثيرة – مع متواضعي العقول أو فاقديها – جعلتني أحسُّ لو أن سيارةً أفخمَ كانت معي لكانت أفضلَ للمناطحة والمبارزة، وكانت تلك شطحةً جاهلةً جاهليةً عابرةً من قبيل قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وهذه الجاهلية معروفة عندنا، ومن أسفٍ أنها تتزايد، مع تناقصٍ عقليّ خطير، رغم كل المآسي.
إن عدداً ممّن يتعامل معي يمتلك سياراتٍ أغلى، بالقدرة أو حتى بالدَّين، ويشعر بالزهو إزاء ذلك، ممّا يريحني بحقّ، لأنّ هذا الشعور يحسّن نفسيّته، وربما يغذّي غروره الطارئ أو المتأصّل، ولا يضيرني ولا يسوؤني قيد أنملة. أنا أحبُّ من بين سيّارات البيت (التي تكاثرت بحكم تخرّج الأولاد، وضرورتها لعملهم في البيئة الحارة، مع صعوبة المواصلات العامة) سيّارةً صارت – قياساً لما هو سائد – عملة نادرة، سيارة (يسمّونها الشبح) أعتقد أن شركتها المصنعة ندمت على تصنيعها، وأنا أعتني بها كما يجب، كما هو شائع في البلاد التي لا ترحب بثقافة ( أو قل: حمّى) الاستهلاك. والحق إنها جميلة وقوية ومصمّمة بتأنٍّ، ولا عيب فيها سوى أنّ أولادي يستحون بمثلها. ومع هذا أراها كالذهب العتيق الذي لا يفقد قيمته مع الزمن، ولا يقدّرُه عادةً غير أهله.
والسؤال المنطقي هو: هل يعمل المرء (لا سيما خارج بلده) من أجل التبذير (دعك الآن من عوادي الزمن غير المخطط لها)، ثم يقعد ملوماً محسوراً؟
ولأن الحَجَرَ في أرضه قنطار، كما يقول المثل، فإن المغالي في غربته (المؤقتة عادةً) خاسر، إلا إذا عدّ الدنيا رحلةَ خسارات متتابعة، وعليه أن يعيش كل الرفاهية والانفلات طيلة الوقت، ولو بالدَّين! مع أنني لا أعلم شخصاً ينام مرتاحاً وهو مدينٌ، إلا إذا كان بليد الإحساس، ووجد من يُعطيه (أو ينصب عليه) عندما يحتاج.
يبدو أن هذا طبع بشر، ولا علاقة له بصروف الدهر ومفاجآته المنكرة، والتي لا يمكن أن تكون قانوناً.
واليوم، كبر معظم أولادي، وتطوّر تفكير من تخرّج منهم كثيراً، لكنهم ما زالوا يرون أناساً لا يتفاخرون إلا بمقتنياتهم الغالية، ومنها السيارات (وهذا منطقيّ عند من ليس لديه شيء آخر يتباهى به، كالعلم والموهبة الفنية والجمال لاسيما الداخلي..) إذ تغيّر الناس والعالم أيضاً، وصار التبارز المادي وعرضُ العضلات في شراء المقتنيات المحرّض عليه بوسائط التواصل كبيراً، بل كافراً، لأنه يؤذي الآخرين من غير القادرين، المزدادين باضطراد، وقد يؤذي أهله عندما يكون على حساب أمورٍ ضرورية، أو رهنَ القروض.
ومع ذلك – ولا أدّعي الزهد – أحتفظ بالسيارة التي ذكرتها، كي أقمعَ نفسي عن غيِّها فلا تشعر بالكِبْر الذي بات يملأ الدنيا، وكيلا يكبر رأس أولادي قبل أن تمتلئَ عقولُهم بما هو مفيد. ولعلّ قولَ أبي الأسود الدؤلي يصدق في هذا المقام:
ابدأ بنفسِك فانهَها عن غيّها
فإذا انتهتْ عنه فأنت حكيم
نعم، ليس هناك ما هو أجمل من الحكمة في هذا العالم الأحمق المتصارع. ولهذا فإن الأشياء الغالية ليست مجال تباهٍ عندي، ولم تكن كذلك في يوم من الأيام، إذ لم يغير المال نظرتي إلى الحياة، فبقيتُ أنا نفسي صاحب القرار ذاتِه، مع قليلٍ في جيبي أو كثير، مقتنعاً بقوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً).
لقد فضّلتُ في كثيرٍ من الأوقات غيري على نفسي، ورأيتُ المبذّرين إخوانَ الشياطين، ولهذا ما أحببتُ البذخَ يوماً إلا في تحصيل العلم، وكم تسوؤني رؤية أناس يبذخون مالهم أو مال غيرهم في مساربَ تافهةٍ مغيظة، ويسألون: هل من مزيد؟
أشعر بالحزن أيضاً على أناس أضاعوا عمرهم وهم يتفاخرون بما اقتنَوا، فأسرفوا وطَغَوا، وبذخوا في حفلات، وبدلوا أثاثاً جيداً، ورموا طعاماً شهياً كان يمكن أكلُه أو التبرّع به، وما أعطوا قرشاً لفقير، ولا علّموا ولداً كما يشتهي عاقلٌ، ثم دارت دورة الزمان عليهم، فإذا بهم يتمنون بعضا من نعيم فرطوا به.
كم هو شعور العائل سيئ حينما يقف عاجزاً أمام الحاجات المهمّة لنجاح عائلته، لا سيما التعليم، فيما كان يفاخر بأحذية وسترات وبناطيل، وكذا كانت الأم تتباهى بفساتين وجزادين ونظارات و… بوتكس، سعرها الشيء الفلاني، وانسَ حال المعوزين الذين يرون كلّ شيء رفاهاً، بما في ذلك التداوي والتعليم.
وكم هو شعوري سيئ أيضاً بأهلٍ علّموا أولادهم التفاخر بالسيارات و(الماركات) عموماً، ولا مانع لديهم أن يدفعوا مبالغ كبيرة ثمناً لها، ثم يقطعون أيديهم إذا تطلّبَ الأمرُ مساعدةَ محتاج، أو شراءَ كتاب مفيد، أو دفعَ مبلغ لمدرّس كي يرتقي الأولاد في علمٍ أو موهبة، تنفعهم في أوقات الشدة.
أشعر بالخجل وأنا أقتني بعض أشياء مكلفة، لا لأنني لا أستحقّها، بل لأنها ليست موضع فخر، في فقر يزيد وعوز يشيع وجوع يستشري، فقيمة المرء تأتي من حكمته وحبه للناس والخير، وقدرته على تقديم العون أي عون لهم (علمي، أو عملي، أو مادي، أو حتى كلمة طيبة).
إن مصدر الشعور بالخجل عندي هو أن كثيرين يستحقون تلك الأشياء، لكنهم لا يقدرون على اقتنائها، وكثيرين يمتلكونها وهم ليسوا في مقامها.
ولعل في قول الشاعر أبي ذؤيب الهذلي ما يشفي غليل بعض الناس ممّن يهتمون بحقيقة الأشياء لا بمظهرها:
والنفسُ راغبةٌ إذا رغّبتها وإذا تردُّ إلى قليلٍ تقنع
فهل يقنع الناس بالقليل؟ لا يبدو ذلك.
انظروا حولكم، ما أكثر التراب!.