الصورة لا تحتاج الى تعليق
التجميل جميل ومطلوب، لكن بالمعقول والمستطب، وليس بالتجارة والشطارة. هذا المقال بصيغته الساخرة موجّه إلى كلا طرفي العلاقة (التجارية)، طلاب المستحيل، وأساتذته.
د. غالب خلايلي
لا أدلّ على أنّ “الله جميلٌ يحبّ الجمال” من “خلقِه الإنسانَ في أحسن تقويم”، ناهيك عن جمالياتٍ بديعةٍ لا تُحصى. ويبدو لي، حسب اجتهادي وتأمّلي في دكاكين التجميل كثيرة النجوم، أن هذه هي وجهة نظر السيل الجارف من الأطباء الذين فرّغوا أنفسهم لهذا الهدف (لاسيما اختصاصات الجلدية والنسائية والأسنان)، وكذا جحافل التمريض والصالونات النسائية، وكلّ من يجد في نفسه الصلاحية بعدما (حوى المالَ كيسُه فتمرّد)1 على صنعته الأصلية، وحتى لو كان نجاراً أمّياً أو سمكرياً جاهلاً أو مليّس حيطان..، ومضى يستثمر مجمّعا طبياً أو مستشفى)، فهذا الجيش المجاهد العُرَمْرم رأى في التجميل دجاجاً يبيض ألماساً، فراح يعبث بخلق الله، بل يشوّه بعضه نهائياً، إلا ما ندر.
أما الطُرُق فيكاد يعجز عنها قاموس، من تبيّض الجلود وحقنها، إلى قصّ الأنوف وجلخها، إلى نجر الأسنان ووضع لاصق مضيء عليها، إلى تشكيل زوايا الفكين، إلى نفخ الخدود ورسم الذقن (وهي غير تحديد اللحية)، إلى رفع الحواجب والعيون، بل وحتى تشكيل المؤخّرات (دون تفاصيل محرجة)، وسمكرة الأطراف وحقنها بسموم تشل العضلات (فتجعل السحنات صنميةً جامدة)، أو شدّها بخيوط وتلوينها؛ مع تصغير أو تكبير، وقصّ أو إضافة، فإذا بالمرء غير مرء؛ والمرأة غير مرأة، وإذا بهم نسخٌ متشابهة، لا يستطيعون فتح أفواههم المتورّمة، ولا حتى قرط فستقة، وإذا تمكنوا من فتحها أضاءت أسنانهم مثل نيونات الدعاية (حذار الاقتراب والشم)، واذا حاولوا الابتسام كادت القطب تنفتق، فكيف هو الضحك الكارثيّ؟
ولما كان الأمر مغرياً كذلك، راح كلّ من يستطيع خوض غمار (التجميل)، ولو انسلّ من ثقب قفل الباب، يتحوّل إلى مزوّر العفو (مجمّل)، وراح كل من دَرَّس أولادَه الطُبَّ عنوةً (مهنةً لقصّ الذهب!)، يدفعهم إلى الاختصاصات المذكورة سابقاً، حتى إذا فشل أحباؤنا في خوض غمار بحر من هذه البحار، لعلوّ الموج وزحمة الطلب، اضطروا إلى السباحة نحو حقول الطب الأخرى، وهم يحوقِلون، فيما يصابون وأهلوهم بالكآبة، إذ خسروا معركة جني الألماس، حلم العابثين والاتكاليين المتكاثرين في هذا العصر.
الحقيقة أنني، من منطلق إنساني بحت يعالج الاكتئاب، وجدتُ لهؤلاء حلاً يكفيهم ويرضيهم، ويعيدهم إلى درب الغواية، ألا وهو أن تتحوّل كل كليات الطب باختصاصاتها المختلفة إلى اختصاصات تجميلية، ومن ثم يتحوّل اسم (كليات الطب) إلى (كليات التجميل الطبي)، وتلحق بعدئذ بالبنوك والمصارف.
يا سلام!.. رائع! ولا يزعل أحد، حتى وإن اختصّ بالغدد الصم، إذ يمكنه أن يقنع كل من يزوره (حتى من أجل الإمساك) أن تُحفر جمجمته بحثاً عن الغدة الصنوبرية الأصغر من حبّة الصنوبر، أو عن الغدة النخامية في قاع الجمجمة (وهي بحجم حِمّصة كبيرة أو فولة) من أجل إضفاء لمسات تجميلية، نفخاً أو نجراً أو حقناً حسب المقتضى، ولا تسل عن سهولة تجميل الغدة الدرقية في مقدّمة العنق، وربما شدها بخيوط كيلا تترهّل هرموناتها. وفي الداء السكري، خبز أطباء الغدد، حلاوةٌ لا تحتاج إلى مزيد، اللهم سوى إقناع المريض بالدخول إلى معثكلته (البنكرياس) من أجل تجميلها، لعل شلّها بالبوتكس يحسّن إفراز قاهر السكّر (الإنسولين)، ويضفي السكينة على باقي الأحشاء وقد انتفخت معثكلتها وتغندرت.
وإذا ما اختصّت زميلةٌ بأمراض الرئة يمكنها نُصح مرضاها بتنفيخ الحويصلات الرئوية بمزيد من الأرجلة (أرجيلة صباحاً ومساء حتى التسرطن)، أو التدخين العادي أو الإلكتروني Vaping حتى الحصول على نتائج مشابهة، ولن تجد الزميلةُ صعوبةً ولا حرجاً في تلك النصائح لمجتمع خائرٍ نفسياً يعشق التدخين منذ الولادة، ولو كان مصاباً بالربو الشديد أو قصور القلب.
أما إذا اختصّت بأمراض الهضم والمناظير، فسوف تهفو إليها مِعَدُ الكبار وتطير، لتسألها عن كيفية التحجيم والتصغير، فتنصحهم خِفيةً بحَقْنِ البوتكس المثير، أو بنفخ (البوالين) عظيمة التأثير، وكلها، إن لم تضرّهم ضرراً بالغاً، لا تفيد، ناهيك عن حُقَنٍ جديدة استُطّبت للداء السكّري بشروط (لخطورة تأثيراتها الجانبية)، فحرفها عبيد المال إلى التنحيف والتخسيس، وجعلوها صديقة النساء (المليئات) وموضع تباهيهنّ في الاستقبالات، وإن كلفت شهرياً نحو ألفي دولار (دولار ينطح دولار)، وأنت تطحّ وتنطح الحيطان، وما لك يا أخي، أليس “جحا أَولى بلحم ثوره“؟ والمالك أولى بمُلكه؟
وإذا ما اختص زميلٌ في طبّ الأعصاب يمكنه أن يقنع مرضاه، خاصة من كانوا بلا دماغ فعّال، بتجميل أدمغتهم وأعصابهم بمزيد من (البغ ماك والمايونيز، خمس مرات يوميا مثلا) مع المياه الغازية المحلاة المركزة، ومشروبات الطاقة، والتدخين الكثيف. عندها يفعل الداء السكري مفعوله، وكذا الانتفاخ الرئوي، فيُشارِك طبيبُ الأعصاب كعكتَه التأمينيةَ زملاءَه أطباءَ الغدد والتنفس والقلب..، والأفضل أن يتم ذلك في مستشفى يجيز التنظير والتصوير والتحليل بلا داعٍ، وكذا العلاج النفسي والفيزيائي بلا استطباب، حتى يعلن المريض الإفلاس أو تقطع شركات التأمين خدماتها عن الناس. وإن كان المريض زائد النشاط، وكان عقله موجوعاً على طول الخط، فما أكثر المركّنات والمهدّئات والمخدّرات والحشيش (تنتشر اليوم كالنار في الهشيم) التي تجمّل كل شيء في أدمغة المرضى، مثلما تجمّل حياة أطباء النفس، وشركات الأدوية، فتدور عجلات الإنتاج، ويزدهر الاقتصاد بعد ضخ الدماء (الزكيّة) فيه.
ويا أيها الأحباء، لست محتاجاً لتعديد الاختصاصات التي سوف تصبح تجميلية كلها، فالمبدأ واحد، والنتيجة واحدة، وهي أنها تستطيع تحويل الشمبانزي إلى غادة هيفاء (المعذرة لعدم ذكر أسماء زائفات السينما والميديا اللاتي لم نعد نميّز واحدةً منهن)، فطبّ القلب سوف يقلب المريض رأساً على عقب، وطب الجراحة لن يترك زائدة إلا ويستأصلها (ناهيك عن عمليات قص المعدة وتجريف الشحوم)، وطب المفاصل لن يترك مفصلا لا يحقنه بالكورتيزون وغيره، فإذا بمريض (الروماتزم) المُقعد يقفز ويرقص التانجو أو حتى (البريك دانس)، وطب الأنف والأذن لن يترك أنفاً إلا ويتداخل عليه، أو لوزة ضامرةً إلا وينكشها ويستأصلها، فيصبح جوف الفم أوسع وأجمل، ويتناغم في نقص مناعته مع جيرانه الأسنان المنجورة مسحوبة الأعصاب أو المزروعة. طب العيون لن يزعّل أحداً أيضاً، فبعد بدعة حقن القزحيات بالألوان (وما أخطرها) لعل بدعة التحويل (أي صناعة الحَوَل) تنتشر، مع معرفتنا المسبقة بجمال (حولة الحسن) التي تجعل الناس حائرين في تفسير نظرات (الحسناوات) الجديدات واتجاهاتها الحقيقية، ولا نعجب هنا من فتنٍ تسببّها أخطاء البصر وعمى القلوب.
وهكذا أحبائي، وأياً يكن الاختصاص، سوف يكون (التجـ…..ـليط) أول أهدافه وآخرها، دون أن يقول أحد للناس نصف كلمة فيما يختص بالعناية بالغذاء والرياضة والقراءة والنوم وشرب الماء، كيلا تَحُول هذه العادات البالية دون تدفّق المال إلى جيوب (رجال) الأعمال.
أقسم أيها الأصدقاء، أن الوسائط الاجتماعية ذبحتنا من الوريد إلى الوريد، وأدخلتنا عصرَ التفاهة، حتى صار المكافح الشريف مثار سخرية وتهكّم، وأن مهنةَ الطبّ، غير البعيدة اليوم عن (الميديا)، وحتى من غير التجميل السيريالي (2) الساخر الذي حدّثتكم عنه، صارت مهنةً (مشموسة) بسبب تحوّل الهدف من خدمة المريض إلى نفخ جيوب المستثمرين والجشعين (دعونا الآن من جيوش الصالونات والمتطفلين)، إذ إن هؤلاء جميعاً نسُوا أهم شيء يجب تجميله.. ألا وهو الأخلاق!.
العين في 1 تشرين الأول 2023
هوامش:
1-من قصيدة (الطين) الشهيرة للشاعر المهجري إيليا أبو ماضي:
نسي الطين ساعةً أنه طيـــنٌ حقيرٌ فصـال تيهاً وعربدْ
وكسا الخزّ جسمَه فتباهى وحوى المالَ كيسُه فتمرّدْ
2-السريالية (ما فوق الواقعية) Surrealismمن الفرنسية Surréalisme وهي كلمتان: فوق sur وواقعية realism وهي حركة ثقافية في الفن الحديث والأدب تهدف إلى التعبير عن العقل الباطن بصورة يعوزها النظام والمنطق. يعد سلفادور دالي أهم أعلام المدرسة السريالية وفناني القرن العشرين، وقد تميّز بأعماله الفنية التي تصدم المُشاهد بموضوعها وتشكيلاتها وغرابتها، وكذلك بشخصيته وتعليقاته وكتاباته غير المألوفة التي تصل حد اللامعقول، حيث يختلط الجنون بالعبقرية.