علاّمة دمشق في صورة جديدة له قبل الوفاة
تقول العرب: “الحَذَرُ أشدّ من الوقيعة”، وقد دام الحذَرُ المضني نحو سنتين بأيامهما ولياليهما المليئة بالمعاناة والضيق والصبر والعمل المرهق، ثم بالفرج وتنفّس الصُّعَداء، فالأمل الذي تشرق معه الشمس قليلاً، لكنها لا تلبث أن تغيب، باختلاطٍ هنا أو هناك، في جسمٍ أضناه الهمّ الوطني والعلمي وتقدّم العمر، وعند الإشراق يعود حبيبنا إبراهيم حقي، علّامة دمشق وأحد أهم علمائها عبر تاريخها، إلى ألَقِهِ وروعته وصفائه وبهائه، وخططه في إكمال واجبه المعرفي، فإذا به يصدِر كتاباً أو اثنين بين عام وعام، وبعض كتبه موسوعات تعجز هيئات عن إصدارها، فيما الحبيب والمنقذ (الدكتور منقذ)، الابن البار، والطبيب الإنسان (الذي يكبرني بقليل)، وخير من خلّف الوالد إبراهيم، وخير من رأيتُ في برّ الوالد، ساهرٌ لا تغمضُ عيناه، يكاد لا ينام، وقد تحوّل إلى ممرّض راهب، يقوم بكل ما يقوم به ممرّض مخلص خبير، يعلّم الممرّضين حوله ويتابعهم من الألف إلى الياء بريف عينيه، فيفقد نحو نصف وزنه مع الأيام، لكنه لا يفقد الصبر ولا الأمل (بمعونة أخته البارّة د. نُبل حقي) ولا الشغف بمتابعة حلم الوالد بمزيد من الإصدارات، فإذا بنا نفاجأ بحلّة رائعة كأجمل ما يكون الإصدار، وأغنى ما تكون المعلومات، وأشهى ما تكون الوجبات، ثم… ثم يتوقف أخيراً ذلك الروح الوثّاب الساعي دائما نحو المعالي، ويصعد أخيراً إلى بارئه مساء الأحد 24 أيلول 2023، ونتلقى الخبر بكل الأسى، وكل الحزن، ونحن نتوقّعه ونصلّي إلى الرحمن أن يرأف بعبده وأهله وبنا، ولكن كما قال شاعرنا الجاهلي أوس بن حجر:
أيتها النفس أجملي جَزَعا إنّ الذي تحذرين قد وقعا
قرنٌ ونيف من النضال.. لقد أسعدني زماني بالتعرّف إلى حبيبنا الراحل الأستاذ الدكتور إبراهيم حقي (1920- 2023) في وقت مبكّر قبل نحو عقدين من الزمان، في هيئة الموسوعة العربية بدمشق، في منطقة الروضة، يوم كان الأستاذ في عزّ نضجه؛ ويوم كان المرحوم الأستاذ عدنان تكريتي رئيساً للقسم الطبي من الموسوعة. وقتها لم أكن أعرف عنه الكثير، سوى أنه أستاذ قدير في طب التوليد وأمراض النساء، مع أنه من رعيل المؤسسين، وسبب جهلي هو أن الأستاذ ابتعد قليلا قبل أن نحظى بشرف تعليمه لنا، فقد درسنا مادّته عام 1982 على يد الأستاذ أحمد دهمان، وكان الأستاذان إبراهيم حقي وصادق فرعون (رحمهما الله) قد توقفا عن تدريس طلاب الطب.
وقتها أيضاً، لم تكن لديّ فكرة عن مدى انغماس أستاذنا في عالم التأليف والأدب، لكنّي لاحظتُ، عندما أهديتُه بعض كتبي (في أثناء زياراتي الدمشقية)، قراءته النقدية الدقيقة لها، وإرسالها لي بخط يده الجميل جداً أو منضّدةً على الحاسوب إلى عنواني في العين، بعد وقت قصير من عودتي إليها، مما ذكرني بما كان يفعله الأديب الكبير والنطاسي الشهير عبد السلام العجيلي، وكم تعلّمت من هذين الكبيرين الدؤوبين المتواضعين، مثلما تعلمت من الأستاذين سامي القباني وعدنان تكريتي في مرحلة أبكر، رحمهم الله جميعاً.
ومع بدء إصدار الأستاذ حقي كتبه بعد تقاعده (التي تشرّفت بالكتابة عنها كلّها في حياته)، وتعرّفي إلى الإنسان الكبير داخله أثناء زياراتي لبلدي، وكلّه تواضعٌ ورصانةٌ وحدّة ذكاءٍ ولينُ جانبٍ وظَرْف وروحٌ ساخرٌ محب للنكتة، عرفت كم هو واسع العلم والمعرفة، وكم هو حكيم وجاد، حتى تمنيت لو كنت تلميذه في الطب أرافقه في حلّه وترحاله، أتعلم منه ما لم يعلمنا إياه أحد من قبل، وكان جديراً أن نتعلمه (وأثبت هنا صفات الدقة العلمية والدأب والأخلاق الفاضلة والتواضع)، إذن لكنا في نعيم ونحن نتابع الرسالة السامية التي بدأها وأرسى أسسها في حياته العملية (مستشفيات دار التوليد الحكومية، المستشفى الإفرنسي في القصّاع، مستشفى دار الشفاء في العَدوي الذي أسهم في تأسيسه صرحاً طبياً عظيماً وكان رئيسا له، وبالطبع عيادته الخاصة)، والفكرية بما أصدره من كتب علمية (فن التوليد، معجم مصطلحات التوليد وأمراض النساء…) وأدبية (أدركوا الدعائم: اللغة، الأخلاق، القوة، الجزيرة الباكية، هذا هو الإسلام..)؛ وموسوعات (دمشق في ثمانين عاما، سيرة مواطن دمشقي في القرن العشرين)، لتكتشف أن المرحوم حقي طاقة هائلة تذكر بابن النفيس الدمشقي وابن أبي أصيبعة، وأن لديه روحاً ساخراً تذكّر بالمازني والمدفعي وزكريا تامر؛ ولو أنّ الأستاذ عرض نفسه كاتباً في وقت مبكر، لنافس أكبر الكتاب، كتبتُ ذلك في حياته، وأؤكده بعد مماته للذين لا يتذكرون عظماءهم إلا بعد الوفاة، وهنا ألفِتُ النظر إلى الموهبة الفذة لأستاذنا الراحل في تكريم نفسه في حياته بما عمله وما أصدره، لعله يتمثل قول ابن أبي سلمى (ومن لا يُكرِّمْ نفسه لا يكرَّمِ)، وكأنه كان يعرف مبكراً جدا بأن الله سخره لتدوين تاريخ ثرّ، لاسيما لدمشق وسورية، فما ترك ورقة أو مستندا إلا واحتفظ به، ووثّقه في كتبه فائقة الأناقة؛ مما يجعلها شديدة التميّز مضمونا وشكلا.
إبراهيم حقي الأب الحنون.. فيما أسلفتُ الكثيرُ من جمال أخلاق الراحل حقّي وعلمه، وأضيف من الشعر أبياتاً (وكان الراحل شاعراً أيضاً)، إذ تشرّفت بزيارته في منزله الدمشقي العامر مرّات (ودائماً بحضور الابن البار الدكتور منقذ)، كلما عدت من سفر، أقبّل يده الطاهرة وأنهل من بحره، وفي الأعياد الكبيرة حيث يجتمع عنده كبار الأطباء المشاهير والأساتذة؛ كون الأستاذ حقي عميدهم، كما جمعتنا بين فرصة وأخرى موائد عامرة اجتمع فيها الأحباب، أو كنت فيها وزوجتي التي تعرفُ الأستاذ وتُجِلّه، وكانت رفيقتي دائماً له أيام مرضه الطويلة، التي لم يبخل فيها حبيبنا علينا من وقته ولا أبوّته ولا توجيهاته على الرغم من أجواء المرض الصعبة جداً أحيانا، وذات الخصوصية البالغة.
وفي أيام صحته، كم فاجأني الأستاذ باتصال دولي يكون فيه أوّل المباركين بعيد فطر أو أضحى، حيث يكون سبّاقاً إلى التهنئة بمجرّد ثبات الإعلان، مما جعلني عبداً لأخلاقه العالية في حياته، ويجعلني عبداً لذكراه الطيبة ما حييت. ولعل أبلغَ ما أثّر بي وقوفُه (وولده) معي يوم شدّتي قبل العمل الجراحي القلبي وأثناءه (24 آب 2021) وبعده؛ حيث كان دائم التواصل هاتفياً معي ثم مع زوجتي في أبو ظبي أثناء العملية، وبعدها. أتذكّر بتأثّرٍ بالغ يوم أخبرتني الممرّضة الفلبينية، وقد بدأتُ أقوى قليلاً وأخرج من حالة الألم في اليوم الثالث للعملية، وهي تحاول تذكر اسم د. منقذ (الصعب عليها لفظه)، بأنّ هناك من اتصل بي من سورية إلى المستشفى يسأل (لعلّكم تدركون صعوبة الاتصال بمستشفى)، فعرفتُ من تقصد، واغرورقت عيناي بالدموع، كما الآن.
كذا فليجلّ الخطب.. وبعد حقّي آمل ألا نبكي طويلا.. في شباب الراحل إبراهيم حقي وشيخوخته الجميلة عشنا وأقراننا أياما ذهبية بالفعل في دراستنا الطب. وفي العقد الأخير من حياة آخر الفرسان الكبار، أو ربما أبكر بقليل، رحنا نتراجع مع الشدائد العظيمة التي حلّت بالفيحاء والوطن.
في وطننا عدد كبير من الأطباء والأساتذة والكتّاب، قد لا يلفِت بعضهم إيجابياً نظر أحد، لكن النوع الفريد للراحل إبراهيم حقي، تجبر كلّ من يعرفه على الوقوف احتراماً له، حتى وإن اختلف معه بالرأي (وكانت بعض آراء الأستاذ صريحةً وقاسيةً تشبه المبضع الحادّ الذي استخدمه في استئصال الأورام الخبيثة)، وهذه الصفات من علم وأدب ومكارم أخلاق وجدّ وترتيب ودأب، يصعب برأيي تكرارُها، خاصة مع تغير الزمان، وضعف البيئة الحاضنة.
لا عجب إذن أننا سوف نبكي عليه كثيراً وطويلاً، هو بكاء على شخص عزيز، وعلى مرحلةٍ بتنا نحلم بالعودة إليها، في الزمن الصعب، دون أن نفقد الأمل، فـ (من خلّف ما مات) كما يقول المثل، والبطون ولّادة. وإنني لا أجد في الختام أبلغ من بيت أبي تمام القائل:
كَذا فَليَجِلَّ الخَطبُ وَليَفدَحِ الأَمرُ فَلَيسَ لِعَينٍ لَم يَفِض ماؤُها عُذرُ
هذا إذا كانت العين تدرك ما تبكي لأجله.
تعازينا الحارة لعائلة الفقيد الصغيرة (أنجاله وأهله) والكبيرة (مجتمع الطب والأدب) ولكم جميعاً.
دمتم بخير.
د. غالب خلايلي
العين في 26 أيلول 2023
كتابة لي سابقة عن الراحل الأستاذ إبراهيم حقي:
http://taminwamasaref.com/ibrahim-hakki/
فيلم تسجيلي عن الراحل إبراهيم حقي:
https://youtu.be/kKNVjbihzE8?si=nmCreb05lc4YSQBF
إبراهيم حقي في موسوعة التاريخ السوري المعاصر
الأستاذ الدكتور إبراهيم حقي في أسطر
- من مواليد 1920.
- اختصاصي توليد وأمراض النساء من جامعتي دمشق وباريس.
- أستاذ في كلية الطب وعميدها (1971-1973)، عمل أستاذاً وطبيباً مولداً 60 عاماً.
- رئيس قسم التوليد 1962- 1982
- نقيب أطباء دمشق 1971-1973
- رئيس الجمعية السورية للمولدين والنسائيين دورات متفرقة (1971-1999).
- رئيس اتحاد جمعيات اختصاصيي التوليد وأمراض النساء العربية 1999-2001
- أحد مؤسسي المجلس العربي للاختصاصات الطبية (البورد العربي) ورئيس قسم التوليد فيه 1980-1983
- خبير في الموسوعة العربية ثم الطبية 1984-2011
- رئيس الموسوعة الطبية العربية، دمشق (2011-2017)
- توفاه الله في دمشق يوم 24 أيلول 2023 بعد صراع طويل مع المرض.
من مؤلفـاتـه الطبية:
- الصحة المدرسية (مع الدكتورين سهيل بدورة وجودت الإمام) 1955
- تصوير الرحم والملحقات 1959
- الجهاز التناسلي في المرأة: تشريحه وغريزته 1960
- أمراض جهاز المرأة التناسلي (مع الدكتورين جعفر غيبة ومحمد حسواني) 1981.
- فن التوليد (جزآن) مع الدكتور صادق فرعون 1983
- أمراض النساء (ثلاثة أجزاء) 1983-1989
- معجم مصطلحات التوليد وأمراض النساء بثلاث لغات (عربي- فرنسي- إنكليزي) 2010
من مؤلفـاتـه الاجتماعية المنوعة:
- هذا هو الإسلام فأين المسلمون؟ 2003
- هذا هو الإسلام، وهؤلاء هم المسلمون 2011
- أدركوا الدعائم (سلسلة من ثلاثة أجزاء: اللغة، الأخلاق، القوة) 2012
- موسوعة (دمشق في ثمانين عاما) 2018
- الجزيرة الباكية (محافظة الحسكة في أربعينيات القرن العشرين) 2019
- قصة القصة ومجموعة قصص حقيقية 2019
- تقدم البشر 2020
- موسوعة (سيرة مواطن دمشقي في القرن العشرين) 2021
- رحلة الشتاء والصيف 2022
- مقالات طبية اجتماعية 2023