الكوابيس المرعبة
د.غالب خلايلي
ذكرتُ في مقال سابق (أيار 2023) قصّة حلم متكرّر مزعج يتعلق بالخوف من الفشل في العمل، على الرغم من تحقّق كل شروط النجاح، لكنه التعلّق بأكسجين الحياة التي لا تتعب من إطلاق أدخنتها المُعكّرة.
وفي هذا المقال أذكر بضعة أحلام تنطلق عنوةً من المخزون المؤثّر في الذاكرة كلما ساوَرَنا قلقٌ ما (وما أكثر ما يساورُنا)، وتلك الأحلام تبدي أنها مرايانا، إذ إننا (جميعاً) لا ننعم بالاطمئنان الكامل في حياتنا، خلاف شعوب تبدو آمنة مطمئة، بحياة مستقرة وقوانين عادلة، وكم لفت نظري ذكرُ عدد من الأصحاب أنهم يتعرّضون لـ (الكوابيس) ذاتها.
***
وأول حلم يعود إلى امتحانات الثانوية العامة، إذ أرى نفسي وقد حضرتُ متأخراً بعد نهاية الامتحان، أو في اليوم التالي، وقد فات الفوت. هنا تعود الذاكرة إلى الشهادة السورية القديمة المهمّة (المعروفة بالبكالوريا)، والتي كانت تحدّياً كبيراً جداً يحدّد المصير، فإما (حياةٌ تسرّ)، وإما (مماتٌ يغيظ)، يؤثّر في الطالب كل حياته، إن لم ينعم الله عليه بحرفةٍ تُكرمه (وأغلب الحرفيين يتوجّهون إلى حِرَفِهم باكراً دون دراسة، وقد صار الزمان زمانهم!). نعم، فالناجح يدرس الفرع الذي يحب، وطبيعي أن تصطبغَ حياته كلّها بما يدرسه، مع أن كثيرين يعملون بغير اختصاصاتهم، مثل مهندس يعمل في الموسيقى أو العطور، أو طبيب يعمل في العقارات أو الأدوية أو يتفرّغ للأدب…
أذكر هنا أن (بكالوريا) بلادنا التي خاضها جيل آبائنا وأساتذتنا (كما ذكر المرحوم العلامة الأستاذ إبراهيم حقّي في كتابَيْه الموسوعَيْين) كانت أصعب بكثير، فيما صارت البكالوريا المعاصرة أسهل، وإن بدت أصعب مع وعورة الحياة.
ومن الحلم الأول ينبع الثاني الذي أرى نفسي فيه طالباً متغيباً في مادة معينة (كالرياضيات)، وأن الزمن سبقني، فبات مستحيلاً استيعابُ المادة المتراكمة، فأدخل في حيص بيص، ولا أدري لماذا يلاحقني هذا الكابوس، لعلّه بسبب الكمّ الكبير الذي كنّا ندرسه، والخوف من التقصير.
في الكابوس الثالث أرى أنني عدتُ إلى عملي السابق في مستشفى العين الحكومي الذي عملتُ فيه بعد تخرجي عقداً من الزمن (1988-1998)، وإذ ذاك أشعر بالاختناق مثل مريض الربو حتى أستيقظ، فأكتشف أنني تركتُه منذ زمن، راجياً ألا يتكرّر الكابوس. على أن سرّ تكراره يعود إلى الظروف الاستثنائية: الدوام الطويل (85 ساعة وسطياً في الأسبوع)، والعمل الصعب في مناوبات قريبة (كل يومين أحياناً) مليئة بالمخاطر، مما يضغط الأعصاب أي انضغاط. أذكر أنني لم أعد أطيق سماع رنين أي هاتف زمناً طويلاً، ولا صوت جهاز النداء (البيجر) الذي يزعق بصوت يوقظ المسبوت، ولو وضع تحت سبع مخدات، فما بالك بمن كانت أعصابُه متحفزّةً وعيناه لا تغمضنان طوال الليل؟ هذا، مع أن المستشفى أمّن لي دخلاً وسكناً جيدين، وتطوّر من الناحية العلمية بشكلٍ يرضي الطموح مع تحوّله إلى مستشفىً تعليمي زاخر بكِبار الأساتذة الأجانب، ناهيك عن رعايته لكل الناس، فلم يكن أحد يخشى زيارة الطبيب.
يبقى جديراً بالذكر أن تجربتي خلال ذلك العقد المبكر من حياتي المهنية نجحت نجاحاً باهراً في أمرٍ واحد (عدا اكتسابي مهارات بحثية وعملية) ألا وهو استبعاد كل أولادي لفكرة دراسة الطبّ.
أما الحلم الرابع المحيّر فأرى نفسي فيه عائداً إلى (مستشفى الأطفال الجامعي) بدمشق، حيث قضيتُ أعوام الاختصاص (1984- 1988)، ولا أدري سرّاً واضحاً له، خاصّة أنني لم أزرِ المستشفى بعد تخرّجي سوى مرّات نادرة (هل هو الحنين إلى رحم الأم؟). مرّات رأيت نفسي طالباً أجلس مع زملاء أصغرَ غرباء عني! أجري مسرعاً في ردهات المستشفى فلا أعرف أحداً! أصعد الطوابق المختلفة (بما فيها صالة الطعام، وغرف النوم) فأصل إلى غرفتي، أو أرى الطرق قد اختلفت أو انسدّت، وعليّ العودة إلى طرق جانبية عجيبة أو تحت الأرض.
وهنا لا بد من إضاءة على هذا المستشفى الفريد في وقته، بطوابقه الستة (قبل توسّعه)، ومئات أسرّته، والذي انجذبتُ إليه بقوة، إذ أحببتُ فيه – وأنا طالب طبّ – رونقه ونظامه الصارم، كأنه القلعة العسكرية، بأساتذته الكبار الأشداء، ومشرفيه، والزملاء الأكبر المتقمّصين شخصياتِ معلّميهم. السنة الأولى فيه على الخصوص صعبة جداً، وتترك بصماتِها العميقة في الخرّيج إلى الأبد، لكنها تصنع منه (رغم بعض الهنات) طبيباً مقداماً واثقاً بنفسه.
أما لماذا كان علينا أن نعاني إلى هذا الحدّ المؤثر في ذاكرة العمر (ومثلنا زملاء كثر في العالم بأسره)، فسؤال يحتمل الكثير من الإجابات، لكنها لا تحمل إلا المعاناة للأطباء والمرضى.
***
ذكريات كثيرة بحلوها ومرّها يمكن سردُها في هذا المقام، منها أن بعض الأحلام تحوّلت حديثاً إلى هواجس إلكترونية معقدة تجاري العصر الحديث، العصر الذي لم يناسب مزاجي لحظة، لا لأن التقنيات غير مفيدة، بل لأنّ بعض أهلها دون المستوى، ولأن كثيراً من مطبّقيها تجاوزوا الإنسانية درجات، لكنّني تقيّدت بمغزى أحلام (كوابيس) تكرّرت خلال عقود، هي مراياي الداخلية المظلمة، وفي الوقت نفسه أسقطتُ رؤىً عجيبة بعدد أصابع اليد الواحدة، لم تتكرر، تحقّق معظمها بعد وقتٍ قصير، فكانت سبباً للسرور أو الألم، لعلّي أبثّ لواعجَها لكم في قابل الأيام التي أرجو أن تخلو من شتى أنواع الكوابيس.
العين في 15 أيلول 2023