احتفالات عيد رأس السنة
د.غالب خلايلي
نهاية عام وبداية آخر تمثلان لحظة مفصلية (اصطلاحية) مهمّة. فمن جهةٍ أجد فيها فرصةً لمراجعة النفس والتأمل، والوقوف على بعض (الأطلال)، عندما أنظر حولي فلا أجد (رغم بعض الأشياء الجميلة) أكثر من البكائيات على عام مضى، وعقدٍ قضى. و(اللطيف) هنا هو أن أواخر كل عام تصادف عطلة مدرسية طويلة يتوافر لي فيها وقتٌ حُرّ مع غياب الأهالي وأطفالهم في إجازات يبتعدون فيها نحو البقاع الباردة (بلدان الثلج)، أو المحلية (الصحرواية)، فيما يجوبُ من تبقّى بجيوب فارغة الأسواق، أو يجلس لمراقبة (الشاشات)، بكل ما فيها من متناقضات، من اكتئاب الجحور، إلى “ايفرست” الحبور.
1-بين الميلاد ورأس السنة غوغل يمنّ عليّ بضيف بريطاني. وللعم غوغل، لا نضبت أمواج “واي فايه”، فوائدُ لم أدرِ ببعضها لولا حذاقة أصغر أبنائي الذي رضع حليب الشابكة مع حليب الأم. وهو، لما رأى هجمة هوامير الطب على الوسائط الاجتماعية وسطوتهم على (السوق) فما تركوا بيضة ولا تقشيرة، خشي أن “يخرج أبوه – رغم خبرته وشهرته – من المولد بلا حمّص”، مما ما زال ضرورياً لـ “مُسبّحة” الأولاد و”تسقيتهم” حتى يتخرّجوا وتصبحَ معدهم قادرة على “المناسف”، فكان أن أصرّ على إدراج عيادتي في الشبكة. وبسبب هذه الحكمة المبكرة، يزورني بين ميلاد وآخر أطفال أوربيون أتوا إلى المرابع الدافئة، فإذا بفيروساتنا تغزوهم، وإذا بهم بعد (غوغلة) بسيطة، يصلون العيادة في وقت قياسي دون أن يضيعوا مثل السائلين مرات عن العنوان و(التعريفة) ثم لا يأتون.
ها هو ذا (ميلو) الأشقر الصغير شاحبٌ متألم صامتٌ يجلس ووالديه قربي. وبلكنة بريطانية راقيةٍ هادئة (خلاف اللكنة الأميركية القاسية) تشرح الأم ما حدث، فيما يجلس الأب صامتاً مثل معظم الآباء. هنا تذكرت غابرييل وأهله اللطفاء على الطائرة الكندية، وعادت إلى ذاكرتي أيام جميلة بين لندن وتورنتو.
2-السبت الأخير من العام.. شوقٌ وشوك. قررتُ أخذ عطلة للتوجه إلى ركن هادئ في دبي، التي لا بد أن تكون أكثر صخباً وازدحاماً اليوم. كانت دعوة كريمة إلى غداء بمناسبة قدوم عدد من الأحباب من أماكن بعيدة. فكّرت أن العطلة بعد ظهر السبت مناسِبة مع قلة المرضى، وصعوبة تكرار المناسَبة. قاد ابني الصغير السيارة، وكان كل شيء ظريفاً وهادئاً في الطريق الدولية الفسيحة بين العين ودبي، لولا رعونة سائق اقترب بسيارته ذات اللوحة الصفراء كثيراً من سيارتنا مما أشعل بطني فجأة، كأنّ حزمة شوك نشبت أشواكها فيه، وما عانيت هذا الشعور المزري من قبل إلا يوم أصبت بمرض قبل نحو عامين، دام عندي مع سوء المزاج الحاد فوق الأسبوع. وعلى الرغم من كرم الضيافة وحفاوة اللقاء بضيوف يشبهوننا، بقي الانقباض الجديد أكثر من ساعتين، ثم ما لبث أن زال مع قدوم الكنافة النابلسية الشهية، التقليد الذي لا بد منه، ويا خجلي ممن أصابتهم شأفة الفقر والجوع والمرض.
عدنا في الليل قبل هبوط الضباب المخيف، والعود أحمد، لكن كم فوجئت في صباح الأحد بعدد المكالمات الفائتة في العيادة. ترى هل يستشعر إخوتي المرضى غيابي فيمرضون كلّهم دفعة واحدة؟
3-الأحد الأخير من العام.. سكون وكرنفال. هدوء شديد في المكان يشبه بالشكل صباحاتِ رمضان الكريم عقب السهر الطويل. الدنيا نصف مشمسة ونصف غائمة، وما هذا بمعتادٍ في بلاد تسطع فيها الشمس بجرأة زائدة في كل وقت. وحتى الشارع ذو هدوء مريب، كما لو كان قبل العاصفة. السيارات التي كانت تملأ أماكن الاصطفاف أيام الآحاد (لأنّها مجانية) شبه غائبة عن المكان، والماشون ندرة كأنّ على رؤوسهم الطير، ولولا جاري الخياط البنغالي، الذي استغلّ مالك محله الآيل للسقوط هدوء السوق، فراح ينفضه بطَرْقٍ غير رتيب ولا مموسق على الطوب المتهالك، لما سمعت صوتاً آخر.
هاتف العيادة لم يرنّ إلا مرّة في الصباح ، وكانت المتصلة أمّاً زارتني بالأمس مستجيبة لطلبي، على غير عادة من أطلب منهم الاتصال، فما بقي سوى أن أتسلّى بترتيب شؤون عيادتي، والاطلاع على رسائل الأصدقاء، بما في أكثرها من رتابة (صباح الخير) كل مطلع شمس دون كلل، أو تلك الأقل رتابة والأكثر تشويقاً رغم ما يشوبُها من الألم، في وقت من أصعب الأوقات، غير مهملٍ الرد على أي رسالة مهما كانت رتابتها، ولا عصر الدماغ لابتداع كلمات تعطي رسالتي نكهة مختلفة عن السائد أرجو بها الخير لأحبابي، فتنهمر ردود، فيما يستعصي بعضٌ يكاد يكون هو ذاته المستعصي في كل مناسبة، ولا حاجة لفهم السبب، فالناس حالات، وفهم كل الناس غاية لن تدرك.
ها قد انتهى وقت (سجني الطوعي) في الدوام الذي أفرضه على نفسي درءاً لأي حجة من قبيل (حضرنا ولم نجدكم)، وتوجهت إلى السوق المركزي القريب، فإذا هو كرنفال فيه أشكال وألوان من الناس والسيارات، والخضار والفواكه والأسماك، كأنّني في غير المكان وغير الزمان اللذين حدثتكم عنهما قبل قليل. وهل من عجب؟ إنه اليوم الأخير من العام، والمصادف ليوم عطلة، ونهاية شهر (تنزل به الرواتب)، فلا بد إذاً من التسوّق، خاصة أن نهاية اليوم هي رأس السنة، ولا بد عند الأغلبية من الاحتفال، بدءاً بما لذ وطاب من أصناف عند البعض، وانتهاء بأقل القليل من الكستناء والبطاطا الحلوة والذرة تشوى على جمر متقّد يشيع أمره في هذه الأيام. وفي الليل خرجت أتمشى مع قريب لي في جو بارد بالنسبة اليّ، وحار بالنسبة له، وما علمنا بالساعة الثانية عشرة، ونحن منهمكان بالتحدث، إلا من ألعاب نارية هنا وهناك.
4-اليوم الأول من العام استراحة محارب.. وقوس قزح في المنام. آليتُ على نفسي منذ زمنٍ طويل أن أعطل في المناسبات المختلفة ولاسيما اليوم الأول من العام، مع أنني لست من محبّي السهر حتى في الظروف الطبيعية، يكفيني الهدوء العائلي بمن اجتمع من الأولاد الذين ابتعد أغلبهم في ديار الأرض. أما سبب التعطيل فهو ضرورة الراحة، مع ندرة من يتصل أو يأتي العيادة في الصباح، مما يضفي جواً من الكآبة حيث الكل نائم وأنا جالسٌ في انتظار المجهول، هذا الذي قد لا يخطر على باله الاتصال إلا آخر الدوام وهو يتثاءب من سهرة البارحة، فيما أكاد أغمض عيني وقتها وأستلقي على سرير المرضى من التعب.
لا أخفيكم أن كلّ الرسائل النصية المصافحة للوجه في الصباح الجديد هي (فواتير) الاتصالات وصندوق البريد وما شابه مما يستوجب هزّ الأكتاف، ومع ذلك كان يوماً عائلياً بامتياز حتى جن الليل.
وفي المنام، رأيت فيما رأيت زائراً غريب الشكل جاحظ العينين يدّعي زيارة ودية، بدليل أنه لم يترك صغيرة ولا كبيرة شخصية أو عائلية أو عامة إلا ودسّ أنفه بها وشمشمها، فإذا بوجهه يتلون بمختلف ألوان قوس قزح، تبعاً لتلوّن سريرته، لعله كان يود أن يرى عُرياً وفشلاً كي يتم سروره بالعام الجديد، وأحمد الله أن طيف زائر الليل تبخّر أمامي فجأة، وزال كابوس النوم.
وبانتظار حلم اليقظة المُشتهى من أغلب العباد أرجو لكم عاماً سعيداً دافئاً في الشتاء وبارداً في الصيف، ودمتم باطمئنان وصحة وبحبوحة عيش.
العين 3 كانون الثاني 2024
د.غالب خلايلي