يهددون الحياة.. ذئاب لا تنام
د. غالب خلايلي
بين ليلة وضحاها (ووباء وآخر)، انتقل العالم نقلة هائلة إلى حياة لا تشبه ما قبلها.
نعم، تحوّل الواقع الملموس بكل دقائقه إلى افتراضي خفيّ، يصعب إلا على خبراء التقنية والقراصنة فهمَه والتعاملَ معه، ولا أبالغ بالقول: إن التفاصيل التقنية باتت أهمّ من البشرية، وباتت الحياة حرباً شرسة لا تهدأ بين تقنيين وقراصنة.
أقول ذلك وأنا أشعر كل يوم أن التقنيات في عملي الطبي أضحت أهمّ مني، وكذا وأنا أتلقّى كل يوم رسائل تصيد إلكتروني لا تهدأ بعد أن كان بريدي نائماً تماماً، لا توقظه مطلعَ كل شهر إلا الفواتير.
وأنا على العموم حذِر، ولكن من مأمني أُتيتُ، فكان أن وقعتُ ذات غفلةٍ في الفخ، ونجح المقرصن في إيقاف وطيسي الوطنيّ (الواتس آب) وقرصنة بطاقتي المصرفية، فوقعتُ بين حظين: حسن وربما سيئ.
حُسن الحظ كان بأن بقي حساب المصرف سالماً بعدما انتبه ابني المُبَرْمَج إلكترونياً أكثر من أي شيء آخر. انتبه مبكّراً إلى الفخ بعدما أخبرته برسالة له (وكان هو الطُّعم في الرسالة الموجّهة إليّ باسم شرطة المرور، والأبناء هم نقاط ضعف آبائهم)، فيما كان المقرصِن (الذي استخدم رقماً تركياً) على ما يبدو نائماً، مما سمح بإلغاء بطاقتي خلال ساعات نومه أو لهوه ببطاقات كثيرة قرصنها تلك الليلة. والطريف أنني بقيت نحو أسبوعين حتى حصلت على بديل لبطاقتي (غير المهمة كثيراً في الوقت الحاضر، إذ يمكنني التعامل بالدفع المباشر في معظم الأمور)، مع أن البنك “لحشة حجر” مني كما يقال، ولا تفصل بيننا سوى بضعة أمتار، لكن التسليم ما عاد سهلاً، تبعاً لقواعد الاشتباك الجديدة، وأعني تحوّل تسليم الإرساليات بأشكالها إلى شركات النقل المتعاظم وجودها، بدليل أنك تجد درّاجاتها في الطرقات في كل الأوقات، وما أكثر ما تتسبب بحوادث مرورية قاسية، وما أكثر ما تؤخر الشحنات لعدم توافق توقيتك مع توقيتها.

هناك شيء مضحك بحق أود ذكره لكم: ففي ذات يوم قريب كنت أنتظر إرسالية مهمّة من شركة الاتصالات المفروضة في عيادتي، وفي الوقت المحدد تماماً رنّ هاتفي. أخبرني المتحدث أنه ينتظرني أسفل العيادة. وعندما نزلتُ وجدت ثلاث دراجات، فأومأت إلى أقربها أنني الشخص المطلوب، ففتح صندوقه وسلّمني كيساً حاراً، طالباً دفع ما يعادل خمسة عشر دولاراً. قلت: لعل الاتصالات تحصل سهماً من قيمة الإرسالية. المهمّ دفعتها وصعدت بالكيس إلى العيادة، فإذا هو وجبة دجاج مظبي وأرز مندي، مما أدهشني كثيراً، وجعلني أفكّر أن ولدي الذي اتفق أنه سيأتي إلى العيادة وقتها كي يضبط أمراً تقنيا فيها هو طالبها، لكن الدهشة زادت عندما اتصل الناقل الحقيقي (الواقف أمام سيارته في الجهة المقابلة) وقد رآني تأخرت، فنزلت إليه واستلمت طلبي الحقيقي، أما الوجبة، التي صارت من نصيب ولدي، فلم نعلم من طالبها الأصلي الذي سوف يلعن كل من حوله وهو ينتظر في الزحام.

أعود إلى قصتي الأولى وسوء الحظ (أو هكذا سمّيته) وكان بإلغاء وطيسي! هكذا برد فجأة، فتوقف التواصل مع عدد من الزملاء الكرام، وإن كان المتفاعلون منهم دون أصابع اليد الواحدة، مع إضافة أصابع اليد الأخرى لجماعة من يصبّح بالخير بشكل شبه يومي، وهؤلاء (المتفاعلون والمصبّحون) أنا حريص عليهم جميعاً، في زمن باتت فيه القطيعة قانوناً (بالصمت أو التجاهل أو الانشغال أو الابتلاء أو حتى عدم رؤية الرسائل)، مما يقطع شرياناً حيوياً عندي، ويجعله ينزف بلا توقف، حتى أوقفَه بنفسي، بملقط النسيان عند اليأس، أو بمفاغرة شريانية قد تكون الرسائل الإلكترونية، تلك التي خفّتِ الحماسة إليها كثيراً، وخفَتَ بريقها عند معظم الناس، اللهم إلا في المعاملات الرسمية التي نغرق بسيل جارف منها لا يرحم، وكأن المرسلَ يُلقي بها عن كاهله كلّ مسؤولية عندما يستمر بالتنبيه، حتى يصل المرء إلى ما وصل إليه الراعي في قصتة الشهيرة مع الذئب.

بقي أن أقول للمتفاعلين من القراء الكرام: الرجاء الانتباه إلى فوعة القراصنة من ذئاب وثعالب وضباع أرى أنها توحشّت أكثر مما يجب، إذ اكتسبت صفات جديدة، فما عادت تصطاد لتأكل عندما تجوع فحسب.
دمتم بخير.
العين في 19 نيسان 2025