هل هناك عودة الى الكمامة
د.غالب خلايلي
عدتُ من العيادة ظهر الإثنين الرابع من أيلول 2023، وعندي شعورٌ بانسداد بسيط في الأنف الأيسر، يسمح بالكاد بتهوية الجيب الجبهي فوقه؛ ليفتح بقليل من الضغط.
مثل هذا الأمر البسيط غير معتاد، مما جعلني أقول، بعدما تذكرتُ بضع نخزات سعال عند التنفس العميق: يا ستّار! أكَمَنَ لي المرض من تلك العجوز الأسترالية التي ما توقّف سعالها وراءنا في آخر رحلة طيران، أم تلقّفتُه من بعض مرضاي، والمرض يحوط بي من كل جانب؟
يبدو أن موسم الأمراض المدرسية بدأ مبكراً وعنيفاً هذا العام بعد الافتتاح في أواخر آب، إذ عاد معظم الناس من إجازاتهم في مختلف أرجاء العالم، حاملين معهم ذكرياتهم الطيبة، وربما غير الطيبة، كما حملوا معهم بالتأكيد كل فيروسات الطائرات المزدحمة، ومنها الحُمَة التاجية في آخر طبعة أعلن عنها في التاسع من آب 2023 (Eris المتحوّرة عن الأوميكرون) والمنتشرة في بريطانيا وأميركا، وكذا Pirola الأحدث، ولا شك أنّهما انتشرتا اليوم في معظم الدول.
هادَنني المرض وهادَنْتُه يومين حتى ظهر الأربعاء 6 أيلول، حيث بدأ الارتعاش المزعج والألم الممضّ في العضلات، وبدأ تعكير الحياة.
حبة الآيبوبروفن الساحرة كانت الحلّ، تحسّنت على إثرها وتغديت بشهية ممتازة، ثم نمتُ ساعةً رأيت خلالها أحلاماً مضطربة وأهلاساً من توابع السفر، لأفيق على حمّى وألم معمّم، وإفرازات أنفية صفراء كثيفة، وصداع، وهنا أخذت حبتيّ باراسيتامول؛ وتناولت كأس شاي مع الحليب. غير أن مرور ساعة (مع حمّام ساخن رأيته ضرورة رغم حمى الجو) لم يحسّنا من الأمر شيئاً، فقررت البدء بالمضاد الحيوي مرغماً.
لا أدري كيف لبستُ ثيابي؛ ولا كيف وصلتُ العيادة (وقد جاء موعدها). شعرتُ أن مكيّف السيارة ينفخ ناراً، وأني وإيّاه نتبارى في نفخ النار.
على باب العيادة وجدت مريضين: طفل في التاسعة يشكو سعالاً منذ عشرة أيام، ورضيعة مسكينة في شهرها السادس تجلس في حضن والدتها على الدرج، تعاني الحمى لأربعة أيام؛ وتعاني التهاب أذن يمنى. أما الثالث الذي استعجلني هاتفيا بصوته الأجشّ فلم يأتِ ولم يعتذر، مع ظنٍّ بعيدٍ مني أن صوتيَ الأخنّ أخافه، فيما ظنّي الأقربُ عجلتُه المألوفة عند كثيرين، ولمَ لا بوجود من يتلقّف المرضى على مدار الساعة بشراهة، ما دامت بطاقاتهم التأمينية معزّزة؟
المؤسف أن مَرَضي تطوّر بالتدريج خلال يومين، علما أن كلّ شيء كان تحت السيطرة مع الغذاء الطبيعي وبعض الثوم وزيت الزيتون والميرمية والزعتر وقليل من الآيبوبروفن، لكني كنتُ شبه موقنٍ (حسب خبرتي السابقة، وآخرها قبل أحدَ عشرَ شهرا) من أن المرض اللعين ذا الأشواك القنفذية يتربّص بي؛ ويستغل ثغرةً نفسيّة ما (وما أكثر الثغرات في الأيام السابقة) حتى ينقضّ عليّ.
***
حدّثتكم آنفاً كثيراً عن المرض، لكن خذوا بعض الثغرات اليومية التي أمرّ بها وأمثالي الذين صاروا، مع الأسف، نوادرَ، ولا شك في أنها تؤثر فينا أخيراً مهما كنا أقوياء، لأنّنا بشرٌ من روح وأعصابٍ لا من حديد (ستانلس ستيل).
أذكر، مثلاً، أنني اتصلتُ بصاحبٍ لي أسأله سؤالاً يخصّ صديقاً ابتلاه الله من سابع سماوات الصفاء، مما جعله لا ينام الليل. صاحبي لم يردّ إلا في وقت متأخر لم يعدْ ينفع معه الرد (دعك الآن من المتلقّين الصامتين في المراسلات). زبون (X) وعد منذ أيام بتحويل المبلغ المستحقّ عليه لكنه لم يفِ، وهذه عادةٌ عنده حتى أذكّرَه. أقول: لعله متخبّط بالمرض فأعذره. آخر (Y) يستكثر عليّ تعبي وقد أنِس الأخذَ، ليمضي آكلاً حقي بلا رجعة. غيره أتعب أعصابي من كثرة ما كذب عليّ بإملاقه، وكنت أشفق على ولده المسكين حتى كبر، وعندها طلبت أن يراجع غيري. لكن الحمد لله أن هؤلاء ندرة؛ أما الكثرة الغالبة فهي من الطيبين الذين يقدّرون بياض الشعر وخبرة السنين؛ أقدّم لهم خبرتي الخالصة دون تعقيد ولا (مطمطة). سيدة تسألني عن المواعيد، ولم يعجبها لا الصباح ولا الظهر ولا المساء. كانت ترغب بالعصر، قمّة الحمّى. ومتصل يسأل عن وجود (التأمين) عندي، ليغلقَ السمّاعة بكل صلفٍ عندما يعرف غيابه، ومتصلة تريد تقريراً لولدها الذي يعاني مشكلة ما وأزعجها قولي: ليس اختصاصي، لذا أحتاج إلى تقرير موثوق حتى أتمكن من خدمتها، ووعدت بالقدوم ولم تأت. وأخرى لا أدري من هي، حصلت على رقمي الخاص، وحبستني ربع ساعة أمام باب البيت في استشارة لطفلٍ لم أعاينه، والجو نار حتى وأنا في السيارة، وبالطبع لم تأتِ لاحقاً. و(أحمق) مزاحم في القيادة لا يريد أن يفسح مجالاً كي أنعطف يميناً، فأجبرني على المواصلة في غير اتجاه، وآخر (أشدّ حمقاً) يقود حافلة ضخمة، ينطلق من الموقف بسرعة صاروخية وينحرف يساراً، وأنا أجاهد للفرار منه. ومجهولة تتصل تسأل عن حليب للخدّج وهي ما زالت في المستشفى، وتستطيع سؤال طبيبها العارف بحالة ولدها. وسيدة طلبت مني طلبا يخصّ أولادها، وعندما تأمّن في اليوم التالي لم ترد على الهاتف حتى بعد أسبوع. وعاشرة! طلبت لقاحات وعندما تأمنت لم تأتِ لتأخذها. وأصدقكم القول: هذه القصص، بالمنوال نفسه أو (النّول إذا شئتم الغَزْل) هي أمور اعتدت عليها، ولا سبيل سوى تجاهلها، لكن القطرة تفلق صخرة أحياناً كما يقال، فما بالك بأخبار أشدّ قليلا، أبسطها مفاجأتي بإغلاق بطاقتي البنكية في الوقت الذي كنت فيه منهكاً تماماً وعلى شفا النوم؛ فأخذت نحو ساعة من الوقت العزيز حتى استطعتُ حل المشكلة، علماً أن موظف البنك المناوب كان في غاية اللطف والصبر.
هذا وذاك بعض من مواويل كل يوم؛ ناهيك عن مناكفات اجتماعية من قريبٍ جداً (وما أشدّ أذاها) أو بعيد، أو (حشريّة) أواجهها بين يوم ويوم، يريد معذِّبوها دسَّ أنوفهم بين البصلة وقشرتها، وكذا عن تحديات (مهنية) طالما تحدثت عن تعقيداتها التي قد أستطيع تمريرها أو أعجز، فأمرض بسببها.
***
فجر الخميس 7 أيلول أفقتُ على أهلاسٍ جديدة تشبه أهلاس ظهر الأمس، ولا معنى لها سوى حالتي المرضية، فقررتُ الاستيقاظ بدلاً من النوم المزعج، وشرب كأس من الحليب الحار، علّني أستطيع النوم من جديد (مع حبّة مسكّنة)، استعداداً لجولة أخرى في صباح العيادة، وكان أن غفوت من الإنهاك، ثم أفقت بعد ساعة ونصف؛ فشربت الشاي مع الحليب، واستحممت بالماء الساخن الذي أعانني على نفض دماغي وتنظيف جيوبي (الأنفية طبعا). بعدها توجهت إلى العيادة بذهن صافٍ لرؤية المريضة الوحيدة ذاك الصباح. كانت تئن ووجهها أحمر كالورد من الحمّى والسعال. وما إن انتهى الوقت حتى كنت قد تعبت، فذهبت إلى البيت، وبعد غداء مع سيدة المنزل وولدها (ولدي) القادم مع زوجته من وراء البحار، تناولتُ حبة مسكنةً أخرى ونمت هنيئا هذه المرة، لأستيقظ في المساء فأجد أن العدوى قد سرت إلى سيدتي الأولى، فما كان مني إلا أن بدأت علاجها على الفور؛ فأمامها في اليومين القادمين مناسبتان اجتماعيتان مهمتان، ناهيك عن أنها لولب البيت و(الدينامو) فيه.
صباح الجمعة 8 أيلول، استيقظتُ في السادسة و النصف وأنا أشعر بالبرد تسلّل إلى أعضائي. عاودت النوم بعد أن تغطيت؛ لكن الصداع أعادني إلى اليقظة، فقمت أزاول مهمات العناية بأنفي المحتقن (استنشاق بخار ساخن مع مادة عطرية نفاذة) وشرب مشروب ساخن، وحمّام.
وريثما تهدأ الحال، وينضج الفول على النار (الأكلة التي اشتقنا إليها) بانتظار استيقاظ من في البيت؛ رحتُ أطالع معنى ايريس Eris الهاجمة علينا بلا رحمة، فوجدت أنها القنفذ hedgehog في اللاتينية، الأقرب شبها بفيروس كورونا ذي الأشواك المرعبة (بروتينها الشوكي)، الوسيلة التي يغزو بها الخلايا البشرية. وجدت أيضاً أنه أحد أعضاء المجموعة الشمسية؛ واسم يوناني يشير إلى إلهة الصراع والخلاف اليونانية. هذا على ما يبدو هو الذي أعجب خبراء الصحة (وفقًا لموقع Yale Medicine) فأطلقوه بشكل غير رسمي على المتحوّر الجديد؛ ذاكرين أنه أكثر قابلية للانتقال من سلالات كوفيد 19 السابقة، دون خلافٍ كبير في الأعراض. يذكر الموقع نفسه أيضاً متحوراً جديداً أسموه Pirola له أربع وثلاثون طفرة في بروتينه الشوكي، علماً أن للاسم معاني متعددة اخترت أسهلها وهو الكويكب داكن اللون.
مساء الجمعة كنتُ أفضلَ نوعاً ما مما كنتُ عليه، فيما عانت سيدة البيت من حمّى شديدة (تحسّنت بحمد الله في الليل)، فيما انتشر المرض إلى أعضاء آخرين رغم الانتباه.
وما بين خلافٍ له إلهةُ صراعٍ تحلّ النزاعات (ولعلها تنشرها!)، وقنفذٍ مشوّك أو كويكب ينشران الفتن المرعبة، وتساؤلات بعودة الأقنعة، وربما لقاحات ومعالجات أحدث وأكثر ربحية، كان لا بدّ من متابعة المشوار العلاجي مع غياب أي “تأمين”؛ إلا اللطف الإلهي، و”مجلتنا المحبوبة” وصاحبها الأمين، حماه الله وإيانا وإياكم، آمين.
العين
السبت 9 أيلول 2023
ملاحظة من المحرر:
ما أصابك أصابني، ولكني لم ألجأ الى الشاي بالحليب ولا الى مضاد التهابي بل الى ربع بصلة بيضاء “سجنتها” في فمي وأنا مقفل الشفتَيْن، ما دفع المكوّنات الشافية الى تنظيف الأنف عند خروجها منه، كما البلعوم والمريء بوصول تلك المكونات اليهما. وقد كانت النتائج الى حدّ كبير مرضية، فجرّبها. وكان طبيب مصري (نسيت اسمه)، قد نصح بها في حديث أجرته معه صحافية ونُشر على موقع “الفايسبوك”.