الدكتور صبري القباني في عيادته في الروب الأبيض
“طبيبك”، المجلّة الصحّية والعلمية العريقة التي أُسّست قبل ٦٧ عاماً، تعود للصدور إلكترونياً في وقت قريب، الارجح في الأول من كانون الثاني (يناير) 2024، بهمّة أطباء وصحافيين وإداريين رافقوا مسيرتها، لا منذ تأسيسها في العام 1956، وإنما قبل عقدَيْن أو ثلاثة، محافظين على مبادئ مؤسس النهج الذي رسمه لها في العناوين العريضة، هو الدكتور الشهير صبري القباني، إذ أنّ معظم من واكب هذه المجلّة إنتقلوا الى دار الحقّ ومن بقي منهم، وعددهم لا يتجاوز عدد اصابع اليد الواحدة، باتوا ينشدون الراحة والسكينة وقد اتعبتهم السنوات في مسك المبضع أو لصق السمّاعة الطبّية بالأذن، أو امتشاق القلم الذي كان الوسيلة الوحيدة للكتابة والتنّعم برائحة الحبر.
صحيح أن “طبيبك” 2024 ستكون مختلفة عن “طبيبك” 1956 وما تلاه من أعوام على التأسيس. إلّا أنّ العناوين العريضة لهذه المجلّة العريقة الاولى من نوعها في الوطن العربي، ستبقى صلة الوصل بين “القادة الجدد” وبين “القادة المؤسّسين” ومنها: الإلتزام بمعايير الأخلاق والصدق في نقل الأخبار وفي تنويعها وفي المحافظة على تقاليد عربية مقدّسة كان الدكتور صبري ومن بعده نجله الدكتور سامي، رائد ومؤسس جراحة القلب المفتوح في سوريا، أشد الحرص على تعزيزها وترسيخها، مع أن اعتماد سياسة “الصحافة الصفراء”، كان سهلاً في الماضي وحتى الأمس القريب، ولكن هذا الحرص المقدّس كان دائماً الطاغي في عمل صحفي متميّز بموضوعاته وأسلوبه وسهولة إدراك المعرفة الصحية التي كانت ولاتزال أعمدة هذا المشروع الطبّي الصحفي الذي لا يشبه أي مشروع آخر!
ولأن إدخال دمّ جديد الى أي مؤسسة يبقى حاجة ملحّة لا مفرّ منها، بخاصة مع التطّور الهائل الحاصل في الطب بكل فروعه، كما في العلوم، كما في التكنولوجيا، فإن المشرف العام على هذا المشروع، إنتدب كريمته الآنسة ماري هدايا المتخصصة في علوم المختبر ونجله طوني حامل شهادة في الإقتصاد والتجارة، ليكونا هذا الدم الجديد الى جانب مخضرمين ابرزهم إثنان: د. غالب خلايلي الذي عرف المرحومَيْن، المؤسس ونجله عن كثب، وتعاون معهما في المشورة والكتابة، وفضلو هدايا الذي تولّى إدارة تحرير المجلّة وواكبها أكثر من عشرين عاماً في ظروف لم تكن سهلة بسبب الحرب التي شهدها لبنان منذ العام 1975 حيث كانت تصدر المجلّة، وما تلاها من ازمات اقتصادية وأحداث أمنية وجوائح فيروسية أبرزها كوفيد 19، وجميعها لا يزال يجرجر ذيوله حتى الساعة.
“طبيبك”، اذاً، تعود الى قرّائها ومحبّيها بالصيغة الالكترونية، وبحلّة يفرضها التصميم الرقمي الحديث، وبمادّة مواكبة لكل جديد، صحياً وعلمياً، على أمل أن يأتي يوم، وقد لا يكون قريباً، تصدر فيه المجلّة ورقياً كالسابق، وتعود الى رفوف المكتبات العامة والخاصة تتصدّرها وتُحفظ فيها مرجعاً طبياً لا يمكن الاستغناء عنه.
وثمة تفاصيل أخرى، نوافيكم بها تباعاً…
فضلو هدايا
المقال المرفق هو للدكتور غالب الخلايلي المشرف الطبي على المجلّة، وقد أحبّ أن يستعيد به بعض الذكريات الحلوة والمرّة قبل ثماني سنين من الغياب … القسري!
طبيبك: ثماني سنوات من الغياب
بقلم د. غالب خلايلي
خبرٌ مفرحٌ دون شكّ، وسطَ كمّ هائل من الأخبار المقلقة، أن تبزغ شمس (طبيبك، صبري القباني) بعد نحو عقدٍ من الغياب، ولو في البداية إلكترونياً، الأمر الذي اعتدنا عليه بعد سنتيّ (كوفيد) التاسع عشر، وبعد عهدٍ من أفول نجم الإصدارات الورقية الذي أغلقت معه كثير من الصحف والمجلات أبوابها وحتى شبابيكها، إذ ضنّ المُعلِن – الذي تتهاوى سِلعُه – عن الإعلان، وتحوّل بعضٌ إلى الوسائط الحديثة (مع أنها أغلى، لكنها قِبلة ناس هذا العصر)، وأحجم القرّاء المبتلون (ودولهم) بغير داء مادّي وأمني عن شراء الصحف والمجلات أو الاشتراك بها، ناهيك حتى عن القراءة وقد انشغلوا بتدبير شؤون حياتهم، فـ (ما بقي في الميدان غير حديدان) من أمثال الصحفي العريق العنيد (فضلو هدايا) ومحبّي زمانه من الكتّاب والقرّاء الذين لا يتراجعون بسهولة، ولو أن الظروف أحياناً أقوى من إرادة الأبطال المخضرمين، كما حدث عصر الرابع من آب 2020 المشؤوم، حيث كانت (طبيبك) على أهبة الصدور، فطغى الدّمار والغبار المشعّ على جلّ بيروت والمنطقة، ولم تستفقْ لؤلؤة الشرق من صدمتها إلا وكان كل شيء قد فقد بريقه وغلا ثمنه مع ضياع المدّخرات في أمورٍ وأمور يعرفها الجميع، ولا فائدة من الغوص في مستنقعاتها.
كان آخر ظهور لمجلّة طبيبك في الشهر الخامس 2015 (العدد 674) في الوقت الذي شحّ فيه الضخ مع تصلّب شرايين عدد لا بأس به من الدول العربية وفقر دم شعوبها، وفي ذلك العدد ظهر المقال الأخير للأستاذ سامي القباني بعنوان (القاعدة الذهبية)، وما لبث بعدها أن اختفى الفرسان الكبار واحداً وراء الآخر، ممّن أغنَوا طبيبك وكان ممكناً أن يستمروا في إغنائها، إذ رحل كبير الفرسان الأستاذ سامي القباني في 22 كانون الثاني 2017، ورحل بعده الأستاذ صادق فرعون في 6 أيلول 2017، ورحل أخيراً الأستاذ إبراهيم حقي في 24 أيلول 2023، وكان قد وعدنا بإغناء المجلة بما يراه مناسباً، مثلما اختفى عدد من فرسانها قبل ذلك (الدكتور غسان حتاحت عام 2006، الدكتور عبد السلام العجيلي 5 نيسان 2006، الكاتب وليد مدفعي 18 تشرين الثاني 2008، الأستاذ عدنان تكريتي 8 أيار 2011)، وربما آخرون لا أدري عنهم شيئاً.
لكل هذه الظروف، وفي هذا التوقيت الحرج، أكاد لا أصدّق أن مجلة طبيبك سوف تعاود الظهور، لولا إيماني بعزيمة الأستاذ فضلو هدايا وتصميمه وحبّه المطلق للحقيقة ولهذه المجلة، وأنني سأكون المشرف الطبّي على المجلة، فهذه مسؤولية علمية وأخلاقية كبيرة أرجو أنني سأتمكن من حملها في زمن أصبحت فيه المعلومات متاحةً بتفاصيل مملة عند العم غوغل وغيره، لكن يبقى من واجب الزملاء المتنوّرين في الاختصاصات المختلفة نخلُ هذه المعلومات وتقديم الصحيح والمفيد منها، فلا يضيع القارئ في البحث عن الإبرة في كومة القش، أو البحث عن فطيم في سوق الغنم، أذكر ذلك لأنني أرى في الممارسة أهلاً لم يناموا الليل، إذ أصيبوا بالذعر وهم يقرؤون تفاصيل لا تخصّهم، لكنهم يُسقطون كل ما يقرؤونه على أحوالهم أو أحوال أعزائهم.
ويصبح الواجب أصعب قليلا أو كثيراً مع سطوة (المستثمرين) في عالم الطب الذين يفرضون على الزملاء ما لا يجب فرضه من التحاليل والإجراءات التي تزيد الدخل، ومن ذلك اللعب على شركات التأمين بوضع تشاخيص غير موجودة حقيقة، أو حتى قيام بعض الزملاء بذلك دون جبر، ناهيك عن سطوة شركات الأدوية على كثير من العاملين في الوسط الطبي.
من هنا فإن الأمانة مطلوبة في عملنا مثلما هي مطلوبة في أي عمل آخر، وقد سبق أن قلت لزميل كريم: “إن القابض على شرف مهنته اليوم كالقابض على الجمر“، ولا شك أن هؤلاء الشرفاء موجودون بيننا اليوم، ومن الواجب أن يتم تقديمهم إلى الناس، وسوف يكونون سعداء بالتأكيد وهم يقومون بواجبهم الأخلاقي والإنساني.
في الختام أرجو الله أن يوفق الأستاذ فضلو هدايا وأفراد عائلته في القيام بهذه المهمة الجليلة، وأن يعاد إحياء تراث المؤسس الأول الدكتور صبري القباني ونجله الدكتور سامي، رحمهما الله، يحدونا الأمل أيضاً بسطوع نجم جديد من العائلة الكريمة التي تحمل بلا شك مورّثات النجابة.
ويبقى تشجيعكم أيها القراء الأعزاء في الزمن الصعب ودعاؤكم.
العين في 8 تشرين الثاني 2023