“طبيبك” تعود الى الصدور بداية 2024 الكترونياً بعدما تعذّر إصدارها ورقياً، كما كان الحال في السابق، لأسباب لا تُخفى على متابعي الشأنين الإقتصادي والإعلامي. الدكتور غالب خلايلي الذي سيتولى الإشراف على الجانب الطبي في “الحلّة الجديدة” للمجلة التي استعان بها القراء العرب منذ ستينيات القرن الماضي للتعرّف الى الأمراض والوقاية منها ومتابعة شؤون الغذاء وشجون الدواء وكيف نبني جسماً سليماً وعقلاً حكيماً، أحب أن يستعيد بعض المحطات في مسيرة هذه المجلة بحوارات كان يجريها مع نجل المؤسس الدكتور سامي القباني الذي تسلّم الراية من بعد والده د. صبري، ومضى يتمّم الرسالة… رسالة التوعية الصحية التي باتت اليوم هدفاً تصبو اليه المنتديات الطبية والعلمية في العالم أجمع. فإلى هذا المقال الذي يروي فصلاً في تاريخ مجلة كانت ولا تزال تتصدّر بمجموعاتها رفوف المكتبات العامة والخاصة.
*****
كتب د.غالب خلايلي
مجلة (طبيبك) العريقة هي في الأصل ابنة أرض الفينيق.
هذا ما رغب به مؤسّسها الدكتور صبري القباني عام 1956 (وكان ذلك قبل ولادتي بأربع سنوات)، عندما أصدرها في بيروت بسبب ما كان في الشام وقتها من عدم استقرار سياسي.
وفي عهد ولده الأستاذ الدكتور سامي القباني (بدءاً من عام 1973) انتقلت إلى دمشق أثناء الحرب اللبنانية، لتعودَ ثانية إلى حضنها البيروتي أثناء الحرب في سورية بدءاً من 2011، لتصبح بعد وقت قصير أمانةً بأيدي رجلين عرفاها حقّ المعرفة هما: الأستاذ فضلو هدايا، مدير تحريرها لسنوات طويلة، وأخوه المهندس الياس هدايا الذي تولّى الإشراف على أمورها التقنية والتنسيقية دون أن يخطر ببالهما لحظةً أن المجلة ستتوقف في أيار 2015، لأسبابٍ قاهرة، أشرحها في الأسطر التالية، التي نكتشف فيها الأسلوب الحكيم للأستاذ الدكتور سامي القباني، رحمه الله، والذي كان يمتعنا به في مقالاته الافتتاحية.
ففي رسالة مني إليه في 1 تشرين الثاني 2013، كتبتُ أطمئن عليه، فرد عليّ في اليوم التالي: “عزيزي غالب: أنت بالتأكيد أفضل مني في الإبقاء على عروة الصداقة قائمة بين الأصحاب، فقد كنت أنوي التعليق على آخر صورة أرسلتَها، وكيف أننا لا نحسنُ – نحن العرب – استخدام مثل هذه اللقطات في البلاد الغربية لشرح قضيتنا. اطمئنَّ غالب، فصديقك سامي ما يزال هو هو، فيما عدا الأسى الذي يعصر قلبه لما يجري في بلادنا، والذي جعله أكثر صمتاً وشحّاً في التواصل مع أصدقائه من عادته (التي لم تكن لائقة بالأساس). أرجو أن تبقي على الطريق بيننا سالكة (ولو أنها تقريباً وحيدة الاتجاه)، فأنا أحبّ أن أطالع ما ترسله، ولو أني قد أخالفك الرأي أحياناً. أدعو الله أن لا يطول الأمد قبل أن يتاح لنا أن نلتقي “وندردش” من جديد”.
ولما أخبرت الأستاذ أنّني التلميذ الذي يتعلّم دائماً ممّن هو أكثر حكمة وتجربة، أجاب في اليوم التالي (3 تشرين الثاني 2013): “أشاركك الشعور أن صداقتنا من القوة بحيث لا يمكن أن تعكّرها الأحداث اليومية، وأردف: فاتني أن أذكر شيئا عن وضع المجلة المالي، الذي يمكن أن تتوقعه بعد انخفاض التوزيع في سورية (البلد الذي يعتبر ركيزتنا) إلى أقل من الخُمس، وانحدار الإعلانات إلى السُدس، وانخفاض قيمة الليرة السورية الى حوالي الرُّبع[1]، واضطرارنا، بعد احتراق المطبعة الهاشمية، للطباعة في بيروت بكلفة أكبر بـ 20%. إننا نطبع ونوزّع بخسارة واضحة، وانا أسعى (مع الأستاذ فضلو هدايا الذي يُسهم في المصاريف) أن أبقي المجلّة على قيد الحياة حتى يأتيَنا فرج، إما بتحسّن الوضع السوري، أو بالحصول على إعلانات جديدة، لكن هذه المحاولة/ المغامرة لا يمكن أن تبقى زمناً طويلاً، وسنعيد تقييم الأمور في نهاية العام. كل هذا لا يعني أننا غير مدينين لك لمؤازرتك ودعمك المتواصل بالمقالات والأجوبة”.
وفي 3 كانون الأول ديسمبر 2013 كتب الأستاذ سامي: “أكتب إليك راجياً السعي – بقدر ما يسمح لك وقتك – بمساعدة مجلتنا التي تمر حاليا بأوضاع صعبة فرضتْها الأزمة الحالية، وذلك إما بتأمين مصدر إعلاني، أو – وهو الأنسب – إيجاد جهة صحية أو إعلامية تتبنى المجلة، وتستخدمها كواسطة لترويج مؤسّستها. أعلم أن هذا الطلب من الصعوبة بمكان، ولكن علينا المحاولة، ونترك الباقي الى مدبّر الكون”.

وفي رسالة يوم 23 أيار 2014، أرسلتُ مقالاً إلى الأستاذ سامي فجاءني رده: “سأحوّل الموضوع للأستاذ فضلو. لعله من الأفضل أن تعرفَ أنه لم يعدْ لي من الوجهة المالية والإدارية علاقة بـ “طبيبك”، ولو أني سأتابع الكتابة فيها قدر استطاعتي، فما زلتُ أعتبرها تراثاً أسّسه والدي يجب الحفاظ عليه. دعا لهذا القرار عدم استطاعتي الاستمرار على النحو الذي كنا ننهجه بعد المصيبة التي حلّت بسورية، والتي كانت توفر للمجلة الدعم الأساسي مالياً. ومن حسن الحظ أن المالكين الجدد للإمتياز ومعهما فضلو والياس هدايا، يعرفان المجلة منذ زمن بعيد، ويقدّران دورها، وسيسعيان للمحافظة عليها، ولا بد أنك تعلم أن هذا الأمر لن يبدل من طبيعة علاقتنا المتينة شيئاً”.
أجبت: علاقتي بك يا سيدي هي علاقة تلميذ محبّ، وأستاذ معطاء، علاقة ابن بار وأب كريم، علاقة كاتب صغير وجد من يفهمه يوم كان في مرحلة الصعود وأعطاه الفرصة، علاقة صديق بصديق جليل، وكل أمنيتي أن يجمعنا الله ثانية في الفيحاء الحبيبة.
فردّ الأستاذ سامي بتواضع شديد: “علاقتنا ليست علاقة أستاذ وتلميذ (حاشى لله)، ولكنها علاقة صديقين قديمين يقدّر كل منهما الآخر. أدعو – مثلك – أن نلتقي مرة أخرى في دمشق الحبيبة عن قريب. سامي”.
******
بدأت التراسل مع الأستاذ فضلو هدايا في 31 أيار 2014، وكان وصول مجلة “طبيبك” في البريد قد تقطّع منذ 2013، ومما كتبت: “أرسل إليّ الأستاذ سامي من الدوحة، بمبادرة مشكورة منه، الأعداد الثلاثة الصادرة منذ كانون الأول 2013 وحتى أيار 2014 وهي: 666-667-668، وكنت أظن أن أعداداً أكثر قد صدرت. سوف يكون بالنسبة لي عيداً حقيقياً أن تستمر طبيبك بالصدور، ولو كل شهرين أو ثلاثة، أو بسعر أعلى قليلا، أو بورق أقل لمعاناً، أو بصفحات أقل، فهذا هو جزء من النضال الطبيعي المطلوب في هذا الوقت، لاسيما مع انتشار العهر والفجور أو قلة الأدب في وسائط الإعلام كما ذكرتم في مقالكم الأخير. أرجو أن ننجح معاً في فترة الاختبار، وأشكرك من كل قلبي أنك قبلت التحدي المادّي في طبيبك، فهذا دليل على نبل أصلك ومقصدك”.
كان العدد (674) آخر إصدار لطبيبك في الشهر الخامس 2015، ولما كتبت للأستاذ سامي أستوضحه، ردّ عليّ يوم 23 أيلول 2015: “كنت وعائلتي في الشام منذ فترة قريبة، ويؤسفني أن أعلمك أن وضع المجلة المالي لا يسمح بصدورها حالياً، عسى أن تتغير الأحوال للأفضل في المستقبل القريب”.
الرسالتان الأخيرتان وحلم حضاري لم يتم: لم يتوقف الأستاذ سامي عن متابعة واجبه المقدس، وكان أن تعاون عام 2015 مع موقع صحّي جديد في لندن، وسألني المشاركة، لكنني، ولظروف شخصية، لم أستطعْ التلبية. واستمرّ التواصل، فأرسلت له فيما أرسلت مقالاً كان قد كتبه هو بعنوان: (أيها العربي: هل تعرف من أنت؟) فوصلني منه ردّ يوم 17 أيار 2016 عبر فيه عن رغبته بتحقيق حلم يراوده: “شكراً غالب لتذكرتي بأمر قد أهملتُه، وآن الأوان أن أشمّر لتنفيذه، ألا وهو كتابة أطروحة بالإنكليزية عن إنجازات العرب والمسلمين التي ادّعاها علماء الغرب ومفكّروه لأنفسهم زوراً وبهتاناً”.
كان من المعتاد أن أهنئ الأستاذ في المناسبات المختلفة، ولم أعلم أن تهنئتي له في إطلالة 2017 هي الأخيرة، وقد كتب لي (وكأنه ينعى نفسَه مبكّراً): كم كنتُ أودّ أن أقضيَ أياميَ الأخيرةَ في ربوع بلادي”.
وتوفّى الله الأستاذ ظهيرة الأحد 22 كانون الثاني 2017 في المكان الذي عشق (الشام).
هكذا كان الأستاذ الحبيب سامي القباني شديد التواضع، سريع الاستجابة عند أي رسالة أو استشارة، وكثيراً ما وقّع بحرف (س)، وتلك الأخلاق الفاضلة، التي تمتّع بها تجعل فقدانه أشدّ ألماً وغربةً للروح.
********
أما الأستاذ فضلو هدايا، حفظه الله، وهو رئيس تحرير مجلة (تأمين ومصارف)، ومن قبلها (طبيبك)، فقد بقي مخلصاً لعشقه ومشروعه، ووفيّاً لذكرى الأستاذ سامي، وعندما سألته يوم 6 تشرين الثاني 2015: هل نقول إن مجلة (طبيبك) يرحمها الله؟ أجاب: “صباح الخير، (طبيبك) لم تمت، وآمل ألا تموت على يدي. هي في غرفة العناية المركزة، نحاول إنقاذها من رصاصات الجهل العربي الذي فاق أي جهل. رحم الله المتنبي الذي وصفنا قبل قرون بأصدق وصف: يا أمّة ضحكت من جهلها الأمم. وعلى أية حال فإن صفحات “تأمين” يسعدها ويشرفها أن تستضيف قلمك الذي يضيء عتمتنا، إلى حين أن يستفيق العرب من جهلهم، وتعود “طبيبك” إلى قرائها. سلامات لك ولكل ثائر على جهل العرب. فضلو”.
ولا يمكنني أن أختم مقالي هذا بأفضل مما قاله الأستاذ هدايا. دمتم أعزاءنا القراء الغيورين على العربية، وعلى تراث (طبيبك).
مقال كتب في 2 تموز 2020 ، أيام كوفيد 19 الساخنة، ولم ينشر وقتها في مجلة (طبيبك) الإلكترونية المرتقبة عودتها لما حدث في بيروت في عام 2020.
