مع الطفل المعالج وعائلته على الطائرة الكندية
لا يسعك وأنت تستمتع بقراءة الحلقة الرابعة من “ادب الرحلات” للدكتور غالب خلايلي، الاّ أن تقول: ما أجمل هذه الحلقة، معنى ومبنى، وكم كان مبدعاً هذا الطبيب كأديب يعرف كيف يشدّك الى الكلمة المرسومة صُوراً من أول كلمة حتى…دمتم بخير.
رحلة أدبية من كندا الى تورنتو تغنيك عن شريط مصوّر تتابعه بشغف، مع واقعة على متن الطائرة تحبس الأنفاس..
شدّوا الأحزمة جيداً، ورافقوا الأديب والطبيب غالب خلايلي في رحلته الى الحديقة الخلفية للولايات المتحدة…
كتبت في العام الماضي مقالين شاملين عن زيارتي لكندا، “الحديقة الخلفية للولايات المتحدة”، كما أوضحتُ في مقالي السابق مباشرةً، شبهَها الكبير بالأم بريطانيا، فهل يمكن كتابة جديد غير حرائق الغابات أو حرائق الروح؟
لم تكن زيارةُ كندا واردةً في خطّتي لولا إصرار ابنتي وابني (ريم ولؤي) على متابعة الطيران من لندن (إذ صرنا في منتصف الطريق!) بعد صدور سِمة الدخول البريطانية، فالإجازة ستطول، والمصاريف ستزداد، لكنني تشجّعت، إذ رأيت صيف بلادنا قاسياً، حُمّىً لاهبةً وضياعَ وقت لندرة المرضى، فحتى الطرق تكاد تخلو من المارة.
ولما كانت المتابعة بطيران الإمارات مكلفة فوق العادة، كما أخبرني موظفهم، اخترتُ المتابعة باللوفتهانزا تحت إشراف الكندية.
عصر الرابع من آب 2023، انطلقت بنا طائرة البوينغ 777 العملاقة من مطار هيثرو متجهة إلى “تورونتو” عبر الأطلسي في رحلة ليلية تمتد ثماني ساعات، وتصل في السابعة مساء، لاختلاف التوقيت بين البلدين.
هنديةٌ مسنّة رزينة، بلا أية “بهارات” إضافية، جلست على يميني وزوجتي في الصف الثالث والعشرين، وكم كانت ودودةً على رغم غياب أية وسيلة تواصل معها سوى لغة الإشارة.
الطائرة مليئة بركاب من مختلف الأعراق: بيض وسمر وصفر، ومنهم عرب قد لا يعرفهم المرء إلا بعد تمرير كلمات (مضحكة) يظنّ مطلقوها أنهم وحدهم يفهمونها، ولا ضير، فهم إخوتنا.
مضيفو الكندية ومضيفاتها في أوجّ النشاط، مع جدّ زائد في التعامل (حبّتين، حسب قول إخوتنا المصريين)، لكن ذلك الجد ينقلب في منتصف الطيران طراوةً، والسبب: حالة طبية طارئة.. ونداء جوي لم أسمعه..
لا أدري كيف لم أسمع النداء، لكنني لاحظت وأنا أتمشى – كعادتي – حركة نشطة غريبة للمضيفين، يحملون أسطوانات أكسجين وما شابه إلى مؤخّرة الطائرة، فقررتُ التمشّي إلى هناك، رغم بُعد المسافة، ولما وصلتُ وجدتُ حِجاباً فتحته بحذر، فإذا بجمهرةٍ بشرية فوق طفلٍ أشقرَ جميل، ثُبّتَ في أصبعه مقياسُ النبض (وكان عالياً كما لمحت) والأكسجين (وكان طبيعيا)، فيما يقف الجمع حائراً بالخطوة التالية.
هنا قلت: أنا طبيب أطفال، وأستطيع مساعدتكم! فإذا بأسارير الحاضرين المتوترين تنفرج تماما، ليفسحوا لي المجال كلّه مرحّبين.
ما القصة؟ وراحت سيدة عربية ظننتها الأم تحدثني بالإنكليزية عن حدوث ارتجاف مفاجئ وتعب لدى الطفل ابن السنوات الست، لأعرف لاحقا أنها طبيبة عامة، تساندها بالجوار طبيبة نساء كندية، وكلتاهما من ركاب الطائرة. وبلمسة خاطفة لعنق الطفل أدركتُ أن لديه التهابَ بلعوم مما اعتدت على آلاف مثله. أما خوفي من مشكلة تنفسية فقد زال بسماع صدره، إذ جلبت المضيفات سمّاعة جديدة فخمة لعلها تستخدم أول مرة. وبملعقة طعام خشبية مقلوبة فتحت الفم وأكدت التشخيص، لأنتقل إلى مرحلة تطمين الحاضرين، ومن بينهم الأم البريطانية التي جلست ورائي تراقب المشهد بصمت، تراني دون أن أراها. مضى نحو ثلث ساعة قبل أن يوافق الطاقم على تحميلة تايلنول مناسبة، جرعُتها من صميم عملي، إذ غاب أحدهم ثم عاد بموافقة مكتوبة من قبل فريق “الكندية” الطبي، وخلال الوقت الضائع نشأت علاقة مع والديّ الطفل، وكانا على قدر من الكياسة واللطف، لأعود بعدها إلى مقعدي أتابع اهتمامي بالقراءة، ومشاهدة غير دقيقة لفيلم قديم عن قَطْع الأشجار الكندية ونقلها بالماء بعد تفجير جليد البحيرات، لأفاجأ بعد قليل بحضور مضيف صيني يحمل ورقةً يطلب مني كتابة اسمي وعملي وعنواني، ولما سألته: ألا تريد القصة الطبية؟ أخبرني أنهم سجّلوا كل كلمة قلتها أثناء فحص الطفل.
أما المفاجأة الثانية فهي عودة المضيف بعد قليل بورقتين: في الأولى شكرٌ موقّعٌ من قائد الطائرة، وفي الثانية شكر من الشركة وفريقها الطبي، مع خصم 30% في الرحلة المقبلة، لتأتي المفاجأة الثالثة بعد أيام قليلة، حيث أرسلت العائلة لي بالبريد الإلكتروني رسالة شكر تتضمن قسيمةً بمئة دولار كندي، تسمح بدخول مجاني إلى معالم سياحية كثيرة في تورونتو، مدينتهم السابقة.
أما ما تناهى إلى علمي لاحقاً من موظفة أرضية قريبة لنا، أن شركات الطيران تخشى كثيراً الحالات المرضية، خاصة تلك التي يُمكن أن تعيدها إلى الأرض، فتكلّفها خسائر فادحة بآلاف الدولارات، ولهذا تستقصي كل إمكانية لمرض قبل الإقلاع، وقد تعيد صاحبه.
1-ما أجملَ ألا يشعرَ المرء بأعضائه!.. هذه جملةٌ غامضةٌ قد تعطي معنىً مغايراً لما أريد توضيحه. فعندما يتحرّك الإنسان، إنما يفعل ذلك بعفوية، فلا يشعر بقدمَيْه أو بظهره أو برقبته، أو بركبته أو بباقي مفاصله، فإذا كان يشعر بأي منها وهو يتحرّك، فهذا يعني أنها تؤلمه، أو أن فيها خطباً ما، وقلْ مثل ذلك عندما يأكل، فلا ينبغي أن يشعر بالمريء أو المعدة أو البطن يناديه ألمها. وفي رحلتي هذه كم نادتني عضلات الظهر بخاصة، بسبب البرد، حتى بدوت شاذاً عن خلق الله مثل عجوز مريض، وما أنا والله كذلك، ولو أنني لم أعد صغير…
لقد تأخر الصيف العزيز (هنا) كما أخبرني أولادي، وهم مثل معظم أقرانهم الشباب المطلوبين في هذه البلاد الباردة ذوو دم حار، ولهذا لا يتوقف التكييف في عزّ الصيف رغم مرور أيام باردة ماطرة، فدرجةٌ أعلى بقليل من العشرين المئوية موجعةٌ لهم بارتفاعها، تجعلهم يحتقنون ويضجّون، وهي ذاتها موجعة لنا بانخفاضها، تجعلنا شاحبين منطوين، وما من مجال لتعديل فسيولوجيا عام خلال أيام لأي منا، ما لم يُسهِم عامل آخر كالمرض (وكان محدقاً بنا) في المعاناة.
2-مُتحف تورونتو زاد الطين بِلّة.. نعم، فهو مُتحف بالغ الاتساع والتبريد، وبالغ الغلاء في أسعار بطاقات الدخول (خلاف المتاحف البريطانية المجانية)، هذا الغلاء الذي يشمل كلّ شيء في كندا، والذي زاد كثيرا عما كان عليه في العام الماضي (حتى الفلافل، إذ تحتاج العائلة نحو مئة دولار من أجل وجبة إفطار!)، مما استدعى رحيل كثيرين عن هذا البلد، وزاد أوار ذلك استعارُ نار العقارات (لصالح البنوك وأصحابها في النهاية)، وبهذا الغباء (الغلاء) يزداد شعور المرء ببرودة كل أعضائه، مما يتطلب الإنعاش السريع بالخروج من البلد – المتحف، خاصة وأنك تجد في قاعة الاستقبال فرقة “استهبال”، موسيقى جاز إن جاز، ضجيج موسيقاها إع….جاز. بالطبع، المتحف غني جدا بما لا يمكن حصره حتى من أخطاء التاريخ، لا سيما ما يخص المنطقة المسمّاة زوراً (الشرق الأوسط)، وكتب لها أن تعاني ما طاب ذلك المعاناة.
3-المتابعة إلى برج تورونتو الشهير..بني هذا البرج CN Tower عام 1973 فكان الأعلى في العالم حتى 2009 (إذ سبقه برج خليفة في دبي). صدمته طائرة مروحية اسمها أولغا في آذار 1975 وحطمت هوائيه المؤلف من 39 قطعة، ليعاد تركيبها، ويفتتح في حزيران 1976. وفي هذا البرج محطة الاتصالات التابعة لتورونتو، ومحطة بث لسبعة عشر محطة تلفاز، وإذاعات إف إم، و 360 مطعما، فصار قِبلة للزوار السياح المحتشدين، رغم تذاكر الدخول الغالية. وعندما يصبحون في الأعالي بعد تفتيش دقيق جدا (كالمطارات) ورحلة مصاعد مزدحمة، يتفرّج بعضهم على بعض، خاصة أنهم من أعراق مختلفة، فلا شيء آخر يفعلونه سوى ذلك أو التسلي بالطعام، وتصوير تورونتو من علٍ، من وراء زجاج شاحب.
4-في الطريق قهوة رديئة لا تساوي كؤوسها البلاستيكية!.. القهوة – منذ اكتشافها – صارت شغلا شاغلا للناس الذين يريدون تحسين أمزجتهم بغض النظر عن الأسباب الحقيقية لتعكيرها، أو تعكير حياة زارعيها المساكين. وكان أن تجاذبت أمم كثيرة براءة (اختراعها) لوفرة الربح فيها، وفاز كثيرون بما لا حق لهم به، مثل أشياء كثيرة في عالمنا. وكندا كغيرها، تعجّ بمحلات بيع القهوة المشهورة عالميا، سيما صاحبة الشارة الحمراء المعروفة، وكم ساءني تذوّقُها أولَ مرة قبل أن أنتبه لنوعها الشهير (وانا عادة لا أتناول أي قهوة في الطريق)، وكان ولدي الخبير بالقهوة الأسترالية وطقوسها نبّهني من قبل، فتذكرتُ مرارة قوله وأنا أشرب القهوة شديدة السواد على مضض، مثل من يشرب مغليّ خشب محترق. قلت في نفسي: لعل قهوتهم مرّت وسط غابات كندا المحترقة هذا الصيف، قبل أن أرمي ما تبقى في حاوية قريبة!
5-كرمةٌ بلا عنب.. وحرائق في الغابات.. زيادةً على مواصلات غير شعبية غالية جدا، وطبّ محاصَر عصيّ على الشكوى ضد الأخطاء (كما أسرّ لي صديقان مسنّان خبيران عاشا شبابهما وكهولتهما في بلد خليجي)، رغم كثرة الأطباء، هناك انتشار واسع لعرائش الكرمة، لكنها للأسف بلا عنب، وأن أمكن لبعض أهل الشام قصّ أوراقها من أجل اليالنجي والدوالي على أن يحذروا بشدة حشرات صغيرة مؤذية تدعى القُراد Tics تسبّب مرضا خطيرا: التهاب دماغ، وربما مرض لايم أو الحمى النزفية، التي لا تقل خطرا عن حرائق الصيف في غابات كندا، بعضها تقدّم في نيسان وأيار، ووصل دخانه الأسود المؤذي للصحة حتى إلى الولايات المتحدة، وبعضها تأخر إلى آب، اشتعل في الشمال بسبب الجفاف، أو سنا البرق، أو بفعل فاعل مهمل خيّمَ قريبا وشوى أو رمى عقب سيجارة، فسبب كوارث بشرية وبيئية واقتصادية، تزيد في ضيق الناس وضجرهم من الغلاء، وبحثهم عن عمل في جارتهم الجنوبية (أميركا) الأدفأ جوا، والأجزل عطاء في الرواتب، والأرخص بيوتا وسلعا، والأكثر محافظة في بعض الولايات بما يخص قضايا المِثلية والتحول الجنسي، والأفضل طبا إذا توافر التأمين الصحي، وحتى الأطيب بالطعام المكسيكي والصلصة الحارة (ناهيك عن الأحداث الرياضية الأفضل، وتكاليف الاتصالات والعطلات الأرخص بكثير) كما ذكر تقرير، فلا عجب حتى في أن تسيطر مراكز التسوّق الأميركية مثل كوستكو Costco في كندا.
6-نياغرا مرة أخرى وأصول البخشيش!..برفقة ولدي مهندس الطاقة والميكانيك لؤي الذي يحبّ الطبيعة الفاتنة لمدينة نياغرا وشلالاتها الشهيرة قرب حبيب الكهرباء والطاقة العالم تسّلا، زرنا البلد مرة أخرى، وتغدينا في مطعمها قرب الشلال الكبير، وتمشينا طويلا، وكان لافتا – مثل كلّ المطاعم الكندية – وجوب دفع بخشيش لا يقل عن 15 إلى 20 بالمئة من قيمة الفاتورة (عدا ضريبة 13%)، وإلا لوحق الزبون من قبل النادل أو النادلة لينال (علقة ساخنة)، ذلك أن للبخشيش أصولا في هذا البلد يشبه انتشار الحشيش فيه، ذي الرائحة المقززة؛ منوّهين إلى أن بريطانيا تكاد لا تعرف البخشيش إلا حبا وكرامة.
7-وفاء نادر في مقبرة كتشنر.. كنت في كوتشنر، الحاضرة من حواضر واترلو التابعة لتورونتو، وكنت أتمشى مع زوجتي في مقبرتها! لا تعجبوا!
كان الوقت مساءً تمضيةً لوقت قبل حضور ضيوف إلى بيت ولدي. والمقبرة – أطال الله أعماركم – حديقةٌ غنّاءُ جميلة جدا، تعرفتُ إليها العام الماضي، وفيها أجداث أناس توفّاهم الله من كل البلاد والديانات السماوية والأرضية واللا ديانات.
لا أنكر تأثّري بهذا المكان، عبرةً لمن يعتبر، وما أراه فيه من اهتمام الناس بموتاهم، وسقاية الأزاهير بالماء المتوافر بكَرَمٍ في الحديقة. تأثرتُ بوجود راحلين من الشام وفلسطين، وغير أقوام، لكنّ ما رأيته في الزيارة القريبة التي أحدثكم عنها هزّني بقوة.
المقبرة، في وقت بارد من المساء، خاليةٌ إلا من سيدة جميلة في متوسط العمر، جاثيةٍ أمام قبر سيدة، تمسح بيدها برقةٍ ولينٍ ظاهرَ قبرها، وتخاطب صورة المتوفاة (الرومانية كما عرفنا)،
ظانةً أن لا أحد يراها، بحزن وتأثر كما لو كانت تحسّ بها وتسمعها.
وقفت متجمداً وزوجتي نراقب الموقف، ثم رحنا نقترب من السيدة (الرومانية أيضا)، ولم أجد حرجاً في سؤالها بعد الاستئذان، عمّ تفعل؟ وكم كان موقفا مؤثراً بمجمله، فالسيدة التي كانت صديقتها، توفيت قبل سنتين بالضبط بسرطان الأقنية الصفراوية، وتركت ولدا وبنتا صغيرين يرعاهما الزوج، والسيدة تواظب على زيارة قبر صديقتها، إذ نسيها باقي الناس، وتطلب منها أن تزورها في منامها لتحدثها عن أحوالها، أهي مرتاحة أم تعاني كما تظن، خاصة وأن وفاتها بالسرطان كانت قاسيةً خلال شهرين من التشخيص، وما في ذلك من آلام (تحدثنا عن مثلها في رثاء زميلنا الدكتور أيمن)، رحم الله الجميع. ورحنا نهدئ من روعها، وأن فقيدتها اليوم في دار الحق، وأنها في حالٍ أفضلَ مما كانت فيه، ولا بد أن تزورها في منامها تخبرها عن أحوالها، فتركتنا بعدئذ باسمة راضية دون أن تعرف من نحن ومن أين. غادرتْ بسيارتها، ونحن مشينا إلى البيت القريب، وفي روحينا تأثّر بما رأينا من وفاء نادر صامت، لم تكن تتوقع (صاحبتنا) أن يراه أحد، لكنا رأيناه فأكبرناه. هنا قفزتْ إلى ذاكرتي مرثية امرئ القيس لنفسه إذ توفاه الله عائدا من ديار الروم في محاولة للثأر لملك أبيه:
أجارتنا إنا غريبان ههنا
وكل غريب للغريب نسيب
كما تذكرت قصيدة أبي العلاء المعري التي يطلب فيها من بني آدم التواضع في حياة فانية، إذ يقول:
خَفِّفْ الوَطْء، ما أظُنُّ أدِيْمَ الأرْضِ إلا مِنْ هَذِهِ الأجْسَادِ
سِرْ إنْ اسْتَطَعْتَ في الهَوَاء رُوَيْدَاً، لا اختِيَالاً على رُفَاتِ العِبَادِ
(بالمناسبة، توجد في تورونتو 51 مقبرة، ويكلف الدفن وسطيا بين ألفي دولار وحتى 48 ألفاً تبعا للمكان ونوع المقبرة عامة ام خاصة).
8-عزاء في الغربة.. الغربة كلّها، برأيي المتواضع، عزاء للنفس بفقدان عزيز غالٍ هو الوطن (أو بالابتعاد عنه)، ومهما أضاف الناس لغربتهم من البهارات والمًحَلّيات والإكسسوارات (التي تذكرهم ببيئتهم الأولى)، تبقى مرّةً بنكهة قهوة كيم هورتون التي حدثتكم عنها.
ما يحدث غالباً هو عقد إذعان، وقبول بالأمر الواقع، وتعايشٌ لا يرقى إلى العيش الطبيعي، ومن ثم لا يمكن أن يصبح مواطَنةً بالمعنى الكامل في أذهان الناس، حتى لو فرض ذلك القانون، ومن دلائل ذلك الحساسية المفرطة لكلمات نقولها في بلادنا بشكل طبيعي؛ خاصة مما يشير إلى الأصل، فيما هي ممنوعة هنا (وتواجه بكلمات: لا، ما بصير)، وقد تولع نارا. ومن هذه الغربة المحزنة ينشأ الحنين، عندما يكون الجسم في مكان والروح في مكان آخر.
وكم هو العزاء في الغربة (عند فقدان عزيز) مرير، فوق المرارة الأولى، لأنه لا يمكن أن يشبه
الأصل في البلد التي نمت فيها جذور المرء، ثم اقتلع منها عنوة أو اختيارا. إنه عزاء بارد برودة بلاد الغربة، ومن ثم لا بيت كالوطن، ولو في جنة عدن. وفي الغربة تضيع طاسات كل شيء، ويدخل حابل الأخبار بنابلها تبعاً لما تضخه وسائل “الإعلال”، وكثيراً ما يصل اليأس ببعض المهاجرين إلى قطع كل جذورهم والتخلص من كل ممتلكاتهم؛ في قطيعة نهائية مع الوطن (الذي نعرف أنه يعاني)؛ وهم لا يدرون ماذا يخبئ المستقبل لأولادهم وأحفادهم: أيكونون أصحّاء بلسانٍ عربي مبين؛ أم شاذين يرطنون بلسان سقيم.
9-ماراتون في مسساجا.. ومسساجا، إحدى حواضر تورنتو في مقاطعة أونتاريو الجنوبية، قبلة كثير من العرب، وكذا “الآسيويين السمر” الذين بدؤوا يكثرون أكثر من ذي قبل بكثير، منافسين أقوياء في كلّ مجال، لا سيما أن شروط عيشهم أقل من غيرهم، وإن وجد منهم فائقو الغنى والثروة.
وفي مسساجا أنشطة رياضية جمّة متقدمة، كثير منها مقابل مبالغ غير قليلة، والآخر تعاوني بين أصدقاء ينافسون في الماراثون (نحو 42 كم)، وكان لنا أن نشهد بعض التمارين المشجعة في ملعب أخضر جميل، لنحوز في اليوم التالي، نتيجة “لياقتنا” العالية، على تشنج عضلي!
والخلاصة: في كندا العملاقة مساحةً (نحو 10 مليون كم مربع، والثانية بعد روسيا) الكثير الجميل، والطيب، واللذيذ، من الطعام والشراب والتعامل والناس، خاصة لمن ملك المال وفهم قواعد اللعب، مقابل كثيرٍ من الآلام التي تجعل الكثيرين يفكرون بالهجرة العكسية قبل أن يغرقوا بديونهم وتصادر البنوك بيوتهم، أو يكتشفوا أنهم أضاعوا عمرهم يسمّنون مصلحة الضرائب، مقابل عدد كبير من المتهربين والكاذبين والمستفيدين، وأنا هنا لا أدعي كفاية حكمي، وللمهتم أن يفتحَ المواقع ويقرأ، أو يزورَ ويعيشَ ويحكمَ، ومن يعشْ يرَ. دمتم بخير.
د. غالب خلايلي
مسساجا، 24آب 2023