غربة صارت قانونا
د. غالب خلايلي
يُحترمون في مطارات، وقد يذوقون أنواع المهانة في مطارات أخرى. فمن هم هؤلاء؟
***
عجيب أمر هذه الكائنات، وأعجب منهم معاملتهم حينما تصيبهم حمّى اشتهاء السفر، حتى ليتمنّى الواحد منهم لو لم تلده أمه، وهو يتجرّع طعم المهانة.
أطنان من الأوراق تُهدر في سبيل إثبات أن هذا الكائن الغريب (إنسان) من بني آدم.. إنسان عادي مسالم لا يريد شراً بأحد، وهو الذي يمشي طيلة حياته (الحيط الحيط يا رب السترة)، لا يبحث عن أكثر (من خبزه كفاف يومه) وعن كوخ أو أية أربعة حواجز وغطاء فوقها تستره، وكثيرا ما لا ينجح في ذلك، لأنه رجل عجيب من غير كوكب تثار الشكوك حوله.
وحتى إذا تفوّق في المدرسة على كلّ أقرانه قد ينظر إليه باستهجان وريبة وضيق عين وحسد، إذ لا يجوز له ذلك، فكيف يمكن لمثله أن يولد بدماغ مستنير، أو حتى بدماغ، ثم يريد أن ينافس أبناء (الأكرمين)؟ وإذا أراد إكمال نصف دينه من غير فئته أكلته العيون وردّته الأبواب المغلقة خائباً، كأنه لم يولد بقلب، أو ولد بقلب مشوه وبلا بصيرة أو حتى كرامة!
وبعد كل هذا يريد أن يسافر؟!
إذن لا بد أن يذوق شتى أنواع المرارات، وأن يثبت براءة جدّ جدّه من أي ذنب أو عيب بأوراق تكاد لا تنتهي يجب ترجمتها عند ترجمان محلّف (وكم كل ذلك متعب ومكلف)، واستجواب مفصل يكشف قرعة كل من له أو ليس له علاقة بخِلفة الرجل، مما يأخذ أشهراً من الأخذ دون الرد، ولا بدّ من تثبيت الدخل والحسابات وحجز الطائرة والفندق أو ما شابه، وتثبيت المكان الذاهب إليه، والأشخاص الذين سوف يقابلهم وكيف ومتى ولماذا …، فإذا ضحك الزمان أتت موافقة مبدئية لا بد بعدها من أخذ البصمات والطبعات والتصوير الحي مع (كم) سؤال يهزه من الأعماق، وقبل كل ذلك الدفع بالتي هي أحسن باليورو أو الدولار، مبالغ غير قليلة تخسر كلها عند الرفض، لكن إن حدث وقهقه الزمان ومات من الضحك أتت موافقة تطبع بعدها فريدة الزمان وعجيبة الدهر (سمة الدخول أو الفيزا مرة واحدة) وتلصق على دفتر ملعون أو مرذول كما يرونه يسمونه الوثيقة، وحديثا، مع الفوضى الخنّاقة، بعض الجوازات، لتبدأ بعدئذ رحلة أشد مرارة في بعض المطارات وشركات الطيران.
***
ها قد حضّر الكائن الغريب الذي ازدادت عنده حمى السفر نفسه. استحمّ وحلق وتعطر ولبس أحلى ما عنده كي يدفع عنه شبهة التخلف وشبهات كثيرة، وإن كان لون عينيه أو بشرته يفضحه ويشير إلى منبته.
لم ينم بالتأكيد في الليلة السابقة أو ربما لليالٍ قبلها، وهو يقيم ويحط ويرتب، استعدادا للقيا حبيب (ولد أو بنت أو أخ…) لم يره منذ عقد أو أكثر، أو للوصول إلى جامعة يريد الدراسة أو الاختصاص بها، أو حتى للسياحة (يا عيب الشوم!) أو الترفيه (يا حيف!)، يقف أمام مكان وزن الحقائب وتسلّمها كي تُدفع إلى الطائرة، وقد رفع رأسه ونفخ صدره مفتخراً أنه (حامل فيزا صعبة)! فإذا بموظفة الوزن توقفه إذ يبدو أنها لم تسمع خلال عقود بمثل هذا الكائن الخرافي الغريب وبوثيقته أو ترَ مثلهما.
وحتى هذه وهي تقف مدهوشة إذ إن (السستم) لم يفتح بأي شكل من الأشكال.. وتحاول ثم تحاول حتى لا يبقى أحد في منطقة الوزن بعد أن غادروا جميعا، وهي تتصل هنا وهناك وما وراء البحار لعل علي بابا يفتح لها باب مغارته السحرية.. ومع تكرار (الصمدية والمعوذات) تفتح المغارة أخيرا وتنطلق الحقائب إلى السير المناسب، ويركض الرجل العجيب الذي قد يكون عجوزا مقلوباً (أي مصابا بمرض قلبي) أو مكبوداً أو حتى ممغوصاً جدا لشدة خوفه ومعاناته، وقد يكون امرأة عجوزا لينة العظام ضعيفة المفاصل إذ قضت عمرها بالحبل والولادة ولم ترَ شمساً وهي تربي أولادها، يركض (تركض) إلى بوابة السفر بعد اجتياز مكتب الأمن العام بكل أدب واحترام، وختم الخروج، حتى الوصول بعد التفتيش الدقيق (من شعر الرأس إلى أخمص القدم والعرض على الأشعة) ركضاً إلى بوابة السفر النهائية حيث يكون الرأس قد نكس تعبا والصدر نفّس والظهر انحنى.. وهنا فصل آخر غير متوقع يجفف ريق المسافر وربما يجعله يهوي على الأرض.
***
مرة جديدة النظام (السستم) لم يتعرف إلى أي شيء.. لا الرجل ولا وثيقته ولا حتى فيزته المعززة بأقوى المعززات.
تبدو علامات الاستغراب والشك (ونادراً الدهشة) من هذا الكائن الملوث الذي يريد أن يصعد إلى طائرة نظيفة معقّمة (الحقيقة لا توجد مثل هذه الطائرة أبداً).
يتسرع قلب الكائن ويرتفع ضغطه وسكره، وتضطرب معدته وأمعاؤه الدقيقة والغليظة وتستنفر زائدته التي لم يحظ بها جرّاحو العصر بعد، ويضرب أخماسا بأسداس وأسباعا بأثمان، ويفكر مع أن تفكيره شلّ: معقول أن أصل باب الطائرة وأعود؟ نعم، معقول أحيانا!!.
لكن الله يفرجها وييسّرها أخيراً في لحظة تجلٍّ عند موظفة مختلفة عن بعض (المتغابين) الذين يدّعون أنه لم تمر عليهم مثل هذه الحالة خلال عقود. وبعد (كم لمسة حنونة) على مفاتيح (الكيبورد) تنفتح طاقة ليلة القدر، وينفتح (البورد).
***
ها قد وصل الكائن العجيب إلى وجهته بعد ساعة طيران أو ساعتين أو حتى ست عشرة ساعة، ليتكرر المشهد السابق، والموظف ينظر بريبة إلى شخص لم ير مثله حتى في منامه. يمسك بالوثيقة ويدقق بمكبّرة بكل حرف، وقد يحك بعض الأحرف أو يستخدم المجهر الإلكتروني وربما يستدعي خبراء الـ DNA، والرجل العجيب أو المرأة يبسمل في سره ويحوقل ويتعوذ و.. إلخ، حتى تبدو علامات التأكد على وجه الموظف، فيعيد أسطوانة الأسئلة: سألتك (حبيبي) لوين رايحين وجايين، وهل معك ممنوعات، وهل زرت مزرعة قبل قدومك أو هل تخطط لزيارتها؟، ومع نفي كل شيء لا تستغرب طلب فحص (خروج) وغيره لكشف الطفيليات والبلهارسيا ونوع الوجبة السابقة والتعرض لجهاز كشف الكذب والعنف وغيره.. قبل (طجّ ختم الدخول) بلطف أو بعنف (أنت وحظك).
وأنا يا سادتي، عافاكم الله وحماكم من شهوة السفر وحمّاها وحكّتها، واحد من هذه الكائنات العجيبة التي تعاني مثل كثير غيرها كما اكتشفتُ، وقد عانت والدتي السيدة المسنة الوديعة على كرسيها المتحرك – رحمها الله – من كل ما ذكرت، وعانى أولادي، وعانت مؤخرا خالتي السيدة اللطيفة ابنة الـ 76 عاما من اختبار (الصلاحية)، وتبين في كل الحالات سالفة الذكر أننا كلنا كائنات متصالحة أولا مع ذاتها (تحب أنفسها وبلادها) وصالحة ثانيا بمقدار زمن الفيزا للزيارة، لكن الغريب أن كل من ذكرت، عدانا وعدا أمثلة إنسانية مشرفة قليلة، ما زالوا يجهلون او يتجاهلون إنسانيتنا عن عمد.
دمتم بخير وعافية.
العين في 3 أيار 2024