في كل شارع يزاحمون
د. غالب خلايلي
قبل نحو شهرٍ من اليوم، انقطع التيار الكهربائي في عيادتي لبضع ثوانٍ، لكنّ ذلك الانقطاعَ كان كافياً لتخريب عدة أجهزة إلكترونية معقّدة بالنسبة لطبيبٍ تقليدي عاش عصر الورق (رحمة الله عليه) وعشقَ رائحته.
حدث ذلك في مناسبةٍ نادرةٍ من انقطاع الكهرباء (ربّنا لا تؤاخذنا!)، وفي يوم جمعةٍ أعطّل فيه، لكنّني علمتُ بالعُطل من رسالة فورية وصلتني، لارتباط تلك الأجهزة ببريدي الإلكتروني.
المزعج أنني عندما دخلت العيادة صباح السبت، رأيت (الدنيا خربانة). الشبكة الهاتفية مقطوعة، والإنترنت لا يعمل، ومن ثم تعطّل العمل المعتمد عليهما، وأهمّه برنامج الملفّات الإلكترونية، أما الأسوأ من ذلك فكان صوتيّ صفيرٍ مزعجين، لا يتوقّفان أبداً، ويشيران إلى تعطّل الأجهزة التي قُرِّرتْ في الممارسة الطبية منذ بضع سنين.
صرتُ في حيص بيص إلكتروني وأنا لا أدري ماذا أفعل. وأول حيص أنه يجب عليّ أن أنزل إلى الشارع لتلقيم الدراهم في حصّالة المواقف قبل أن يدركَني موظّف المخالفات النشيط (إذ لم أعدْ قادراً على فتح برنامج المواقف)، وثاني بيص أن الزبائن لن يستطيعوا التواصل إذا فركوا عيونهم في هذا الصباح، وثالث شيص (هذه من تأليفي) زيارة مفاجئة لشخص مفرط الحركة مصاب بحمّى الفضول مما لا أتحمله في هذه المعمعة، والأهم أنني (رابع عيص إذ أحببتم) لن أكون قادراً على تصفّح رسائلي المسلّية منها وغير المسلّية كالرسائل الوظيفية التي لا تنقطع في ليل أو في نهار.
وكان أن استنجدتُ بصديقي مهندس شبكتي الإلكترونية، فأعطاني عن بعد بعض النصائح، كما اتصلتُ برقم الطوارئ الهاتفية أشتكي للمُساعِدة الافتراضية همّي، وعندما فهمتْ الأخت الإلكترونية شكواي (تبعاً لما بُرمجتْ به) أرسلتْ لي بعد ساعتين فنياً باكستانياً، الحقّ أنه كان، خلاف توقعي السلبي، ذكياً وكريماً جداً، ولو أنه أخّرني ساعة ونصف الساعة عن موعد خروجي، إذ انهمك في شبكة أسلاك معقدة أوصلني بعدها إلى العُطل الرئيس الذي خرّب مزاجي لشهرٍ تالٍ بسبب القصة التي سوف أرويها لكم.
كان العطل يا سادتي في بطارية طوارئ احتياطية تدعى (UPS) أعطتكم عمرَها (ولكم طول الشَّحن)، فأوقفتْ كل ما هو متصل بها. وعندما نزعتُها ووصلتُ كل ما كان متصلاً بها بمقابس الكهرباء مباشرة، عادت الإلكترونات إلى مداراتها والحمد لله، إلا مدار جهاز واحد مهم بقي يصيح رغم كل شيء.
وكان أن كتبتُ رسالة إلى الشركة التي ركّبته وترعاه شهريا وسنويا (بمبلغ وقدره..)، فأتتني متأخرة عدة أيام، وعندما وصل الفنّي الجهبذ وجد جهاز التسجيل معطّلا، ولم يجد حلاً بعد التمحيص والتقليب وحصر الـ… فكر سوى أخذه معه ليفحصه في (مختبره).
وغاب (الخبير) ثلاثة أسابيع (لا خبر لا حامض حلو..)، حتى تمخّض الجمل فولد اقتراحاً بشراء جهاز وقرص صلب جديدين! ولكني رفضتُ، لأن الجهاز قد يخرب، أما القرص الصلب فنادر التعطل، كما علمتُ من خبراء الإلكترونيات، ولديّ وصديقي، الذين صادف أنهم جميعاً بعيدون عني.
طلبت إرجاع جهازي المعطل، وفكّرتُ بالحل الذي ظننته بسيطاً، إذ إننا محاطون ببحر من مواقع البيع وسيارات التوصيل العالمية ودرّاجاتها النارية المتصارعة في الشوارع (مع حوادث مؤسفة أحياناً)، والتي “ولّعت” في السوق بعد عصر كوفيد، فهذه يمكنها أن توصل إليك لبن العصفور بلمسات بسيطة على هاتفك (أمازون، علي بابا، نون، أوبر، طلبات…..) اطلب بلحظة: شبيك لبيك، الآسيوي على الفور بين يديك، بعد أن تقصّ الشركة الثمن من حسابك بأسرعَ من رمشة العين.
ولم تكذّب الشركة خبراً، بل وصل الجهاز قبل أسبوع من موعده، وكان أن فتحتُه لخبرةٍ معقولة بالفك والتركيب، ونقلتُ القرص الصلب القديم إليه، وطلبت من الفنّي المُعتمد أن يزورني في اليوم التالي لبرمجته.
والحق أن المهندس الهندي لم يتأخر، وكان في غاية المعرفة والتهذيب، إلا أن المفاجأة هي أن الجهاز الجديد لم يعمل! نعم، لم يعمل، والأخ عمل جهده بصبر وأناة، وعندما فشل اقترحتُ عليه تجريب الجهاز القديم الذي أخبرتني شركته أنه معطل، فكان أن جهّزه ووصله بالشريط الجديد، والمفاجأة المفرحة هذه المرة أنه اشتغل، أي والله اشتغل، مما أحرج الصديق، فشركته هي المعنية بكل هذه (الدوّيخة).
وكان أن خرج الرجل بعد أن أخّرني هو الآخر ساعة ونصف الساعة، فيما دماغي البطني متوترٌ تماماً، وبقي كذلك حتى آخر الليل رغم كل المرخيات الطبيعية.
ما الذي حدث إذن؟ ما التشخيص؟
ببساطة كان سلك التوصيل هو المتعطل، ولم يخطر ببال (الخبير) فحصه، وبالتأكيد فحص صلاحية الجهاز في (مختبره). كان الحل الوحيد عنده كما قرأتم هو شراء أجهزة جديدة. هذه هي عقلية الابتزاز أو الاستغباء الاستهلاكي السائدة.. ومن ذا الذي سوف يكتشف؟ وماذا إذا اكتشف؟
بالتأكيد سوف تفكّرون الآن أن عليّ إرجاع الجهاز غير الصالح عبر التطبيق الذي اشتريته به والذي يتيح الإرجاع خلال أسبوع. فعلت ذلك في مدة لم تتجاوز اليومين، ووصلتني رسالة فورية أن الطلب وصل، وأن الشركة المصنّعة ستتواصل معي في أقرب وقت. وبالفعل اتصل (خبير عربي!) في الصباح التالي يستفسر، وبدا لطيفاً وعالماً بما يحدث، فوعد بإرجاع الجهاز.
يقولون: دخول الحمام غير الخروج منه! ونحن أمة العرب، ولغياب مدافعٍ فعّال عنّا، اختبرنا طويلا سوء خدمات ما بعد البيع والصيانة، كلّها كلام في كلام، ومماطلة وتسويف، أكان ما اشتريتُه سيارة أم غسالة أم ثلاجة أم هاتفاً، أم أي شيء آخر (تذكرون حديثي عن السيارة الراقصة والغسّالة الهزّازة)، يُدخِلك الموظفون العُتاة في نفقٍ لا نهاية له حتى تيئس وتزهق وترضخ للأمر الواقع، و… العوض بسلامتك.
اتصلت بشركة التوصيل، وحضر موظّفها بسرعة، لكنه رفض الاستلام لغياب أمرٍ من الشركة! وبعد الاستفهام تبيّن أن الأمرَ لن يصدرَ قبل حضور المدير الكبير ودراسة القضية.
وها قد مضى يوما عمل (فوق شهر التعطيل)، ولم أتلقّ ما ينبئ بانبلاج فجر المدير، لعلّه – المسكين! – مصابٌ بالإنفلونزا، من حمّى عالية وسعال حاد ورؤية ضبابية، بانتظار انبلاج فجر طبيبه المعالج، الذي ينتظر هو الآخر، على أحرّ من الجمر، أن تشرقَ شمسُ شركة التأمين.
والخبر السعيد أن الشمس أشرقت في اليوم الخامس، مخيّبةً كل توقّعاتي..
يسأل أحدهم: بتصير؟! ماذا أقول؟ صارت، فسامحونا.
العين في 26 تشرين الثاني 2024