من ذاكرة الوحل
بقلم د. غالب خلايلي
ذكريات البرد (والشتاء عموماً) كثيرة، ولا يكفيها حديثٌ واحد، خاصة وأننا نعيش أيامه الصعبة، ونرى ما يحلّ بإخوتنا في الأماكن غير المجهّزة والمخيّمات المهملة البالية.
تعود بي الذاكرةُ إلى الأيام التي كانت فيها أقدامُنا الصغيرة تغوص في الوحل والطين، إذ لم تكن كل الطرق معبدة في الغوطة الشرقية لدمشق حيث كنا نقطن، فكان علينا أن نخوضَ في برك الماء والوحل كل شتاء، وهذا يتطلّب أن نلبسَ أحذية مطاطية رخيصة (وكانت لرخصها خيار الفقراء أيضاً، رغم تعفّن الأقدام فيها في الجو العادي) لا ينفذ الماء منها، ما لم (نطبس) في حفرة (جورة) غير متوقعة، وما أكثر الجُوَر، أو كان مستوى الماء مرتفعاً أكثر من ارتفاع الأقدام، فلا ينفع عند ذلك الحذر ولا القفز، لأن أقدامنا لا بدّ غاطسة في الماء الموحل، وخذ بعد ذلك من برد عجيب حتى نعود إلى البيت وتجفّ الجوارب. حدث هذا كثيراً أثناء ذهابنا إلى المدارس، أو حتى أثناء لعبنا في مثل هذه الأجواء، حيث كنا نغامر دون حساب.
أما هطل الثلج فكان نادراً في الشام، ليهطل مرة كل عدة سنوات، وإن كنا نرى قمم الجبال القريبة إلى حد ما، لاسيما جبل الشيخ، بيضاء في الشتاء والربيع. كان الثلج مناسبة عزيزة رغم البرد، وكنا نصعد إلى سطح البناية لنلعب به، أو نخرج إلى الحارة، لنصنع تمثالاً أو لنتضارب نحن الصغار بكتل الثلج، وإن كان بعض الضرب شيطانياً مؤذياً (لاسيما للعيون)، لأن بعض (الشريرين) كانوا يضعون أحجاراً وسط قذائفهم.
وعندما كبرنا قليلاً، كان علينا أن ننتقل إلى مدارسنا بالحافلات (الباصات)، وكانت الحكومية منها فعّالة وتنقلنا بأسعار زهيدة، ولم نكن نشعر فيها بالبرد أوقات الزحام، فالجسد ملتصقٌ بالجسد، والنَّفَس بالنَّفَس، فيشع الدفء بين الركاب حتى ينزلوا. وفي الحافلة لا يشعر المرء بالبرد إلا إذا كانت فارغة أو شبه فارغة في الأوقات المتأخرة من الليل، لكن يكفي أنها كانت تمنع عنا شرّ الهواء البارد. وفي تلك الأيام لم نكن نخاف من الأمراض بسبب الزحام. كان طعامنا إلى حد كبير صحياً، وكانت الأمراض أقل شراسة من وقتنا الحاضر، الذي كثرت فيه الأمراض واستشرست مع نقص مناعتنا. أما عن رفاهية التنقل بسيارة خاصة (معتبرة)، فلم تكن متوفرة إلا لندرة من الطلبة.
وإن أنس لا أنس يوماً من أواخر تشرين الأول 1981 عندما اضطررت للذهاب من الشام إلى حلب.
كان الجو في الشام لطيفاً إلى حد ما، وقد لبست وقتها بنطالاً خفيفاً وسترة جلد خفيفة، وهي أكثر من جيدة في الشام. ركبت الحافلة المتجهة إلى حلب بعد تفتيش دقيق في المساء، وكانت أياماً عصيبةً وقتها، ووصلت بالسلامة إلى حيّ السبيل، قاصداً بيت عمّتي الصغرى. وهات أن أتذكر بيتها في الثالثة صباحاً، وهي لا تدري أصلاً أنني آت، ولا أستطيع أن أكلمها من هاتف ثابت في ذلك الليل، فالكل نيام، ناهيك عن أن الهواتف المتحركة لم تكن موجودة في تلك الأيام.
ذرعتُ الشارع الذي تقطن فيه عمتي صعوداً وهبوطاً عدة مرات، مغامراً في البرد، وفي الأجواء غير المستقرة، ولما يئست مشيت حتى وجدت سيارة نقلتني إلى وسط المدينة، فالتجأت إلى أقرب فرن (مخبز) أتدفأ به (فهو الوحيد المتوفر باكراً)، وآكل من بعض خبزه الشهي، وهكذا حتى أشرقت الشمس في الصباح، وسرى بعض الدفء في عروقي النائمة، فحملت بعض الخبز معي، وتوجّهت إلى بيت عمتي، التي رثت لحالي، نتيجة البرد (السليماني كما يسمّيه أهل حلب)، فكان أن جهّزت لي حمّاماً دافئاً وملابس سميكة، لأبقى ملتصقاً بـ (الشوفاج) طيلة يومين بسبب مرضي.. لا أعاد الله تلك الحادثة، ولا أراها لأحد.

عندما دخلت إلى مستشفى الأطفال أواخر 1984، كان مستشفى رائعاَ، يتوفر فيه تبريد وتدفئة مركزيان، ولا علة لذلك النظام سوى التوقيت الذي يقرّر به تحويل النظام من بارد إلى ساخن مع دخول فصل البرد (أو بالعكس في الصيف)، فلا بد أن يحدث بعض الاضطراب نتيجة صعوبة التكيف بين شخص وآخر. كنا نستمتع بأجواء رائعة في المستشفى، ونلبس لباساً أبيض صيفياً بنصف كم، فيما البرد قارس في الخارج، فكنا نرى المطر يضرب النوافذ، ونرى الناس بألبستهم الثقيلة. صيف جميل عندنا، وبرد وزمهرير عندهم.
كان مستشفانا أول منطقة المزة الباردة، وكنا ننام في الطابق السادس المطل على سطح شديد البرودة. ومن أطرف القصص التي أتذكرها في تلك الأيام، عن زميلين كانا ينامان في غرفة واحدة، ترى الأول متكوراً على نفسه متدثراً بكل ثقيل، ومغطى بالحرامات الثقيلة (وكان آتيا للاختصاص من اسكندرون)، أما الثاني القادم من روسيا فكان يتفصّد عرقاً وهو شبه عارٍ، وقد فتح شبابيك الغرفة في عز الشتاء.
بعد تخرجي عام 1988 سافرت إلى الخليج، وقلما عدتُ في موسم البرد، اللهم إلا مرّة مبكّرة، كان فيها ولداي ريم ولؤي في سن نحو الرابعة والثالثة، ولم يكونا قد سمعا عن الشتاء الحقيقي. وكان أن خرجنا من بيتنا في الشام ذات مساء، وكان الهواء البارد شديداً عاصفاً، فقال أحدهما لي:
لماذا المكيف ههنا قوي يا أبي؟
هذا بعض من ذاكرة البرد في الشام التي بقيتُ على تواصلٍ مع الأهل وبعض الأصدقاء فيها، والحقيقة أنني لا يمكن أن أنسى حالة بعض أصدقائي من كبار الأطباء في السنوات الماضية بسبب غلاء المازوت وصعوبة توفيره. زميل في مثل عمري له شهرته الكبيرة، اشتكى لي مراراً قبل سنوات أنه (بردان)، ولا يستطيع عمل شيء في مثل هذا الجو. كما شكا لي أستاذ عزيز -رحمه الله- غلاء المازوت، بحيث قضى على مدّخراته التي لم تكن كثيرة في عمره، ولا تسندها مشاهدات مرضى قلة، أو تقاعد مجزٍ، وهو الطبيب الذي بلغت شهرته الآفاق يوماً ما.
وأختم ذاكرة البرد بيوم هطل فيه الثلج غزيراً على الشام، وقد أرسلتُ يوم الجمعة التاسع من كانون الثاني يناير 2015 عدة صور إلى المرحوم الأستاذ سامي القباني، الغائب وقتها عن دمشق، وأرفقتها ببيتي شعر:
يا ثلجُ قد هيّجتَ أشجاني ذكَرتني أهلي وجيرانــــي
باللهِ عَنّي قُل لإخواني ما زالَ يرعى حرمةَ العهد
ورد الأستاذ وقتها: شكراً غالب للصور التي فعلاً “هيّجت أشجاني”. سامي.
دمتم بخير.
العين في 29 كانون الأول 2025






















































