كزافيية دو مايستر حاز قصب السبق حول غرفته
د. غالب خلايلي
العزلة والغربة تجارب إنسانية عالمية غنية تزداد حضوراً مع تعقيدات الحياة المعاصرة (الصاخبة حتى الأذى أحياناً)، وقد خلّدها الأدب بأشكاله منذ القدم. وإذ تشير العزلة أكثر إلى الانفصال الجسدي أو العاطفي، يركّز الاغتراب على الشعور بعدم الانتماء أو الغربة عن المجتمع. وفي هذا المقال (1 من 2) نعرض بعض التجارب العالمية والفنية والشخصية التي استوحيت في البدء من رسالة أرسلت إليّ قبل أعوام، على أمل التعمّق أكثر في عالم الأدب، في مقال لاحق.
***
قد يمرّ أيّ إنسان بحالة صعبة من الوَحدة، لا رفيقَ له فيها سوى نفسِه وبيئتِه الصغيرة المحيطة به (كالغرفة أو البيت). هذه الحالة قد تكون نتيجة مرضٍ صعبٍ، أو كِبر سنٍّ وعجزٍ (خاصة إن هجر الأولاد أهليهم، وتباعد الأصدقاء أو اختفَوا واحداً تلو الآخر)، أو عزلةٍ (سجن، حروب، طقس رديء، أمراض سارية)، وخارج نطاق كل ما ذُكر، هناك أشخاص يفضّلون العزلة على التلاقي المحموم (حتى في أوقات الفراغ)، إذ يرون أن تأملَ الجدران الصمّاء أو المشي في أي جوّ خيرٌ من الجلوس مع مدّعين أو حمقى.
فماذا يفعل الوحيد وكيف يمضي الوقت؟
الإنسان، كما هو معروف، كائنٌ اجتماعيٌّ يتوق إلى ملاقاة أخيه الإنسان؛ ومهما علت ثقتُه بنفسه، أو استبدّ به الغرور، أو المكابرة، يجد أنه – في أوقات معينة – بحاجةٍ إلى ملاقاة الناس، وإلى صداقةٍ تخفّف آلام وحدته، وتجلب له السّعادة والسرور، علماً أنه في الأوقات التي يحبّ فيها الانفراد بنفسه أو يُجبر على العزلة، لا يمكن أن يتوحّدَ ونفسه بسهولة، ما لم يكن صاحبَ خيال جامح يملأ ثقوب الوقت، أو عاشقاً للأدب والكتب أو لهواية ما، فما أصعب تمضية دقيقة عند جاهل ملول، وما أسرع مرور الساعات عند حكيم صبور!. ولنستعرض بعض الأمثلة من الأدب والفن والحياة، تعبّر عن كيفية قضاء وقتٍ مملّ.
الفرنسي دو مايستر حاز قصب السبق:
هذا ما تناهى إلى علمي بدايةً من رسالة أرسلها لي ذات يوم المرحوم الدكتور صادق فرعون، قبل أشهر من وفاته، وكان رحمه الله قارئأً بارعاً بلغات متعددة. كتب لي رسالةً مطولة عن قيم الصداقة، بعد مكالمة مني ذات مساء بارد من كانون الأول 2015، وقال: لا يمكن أن يعيش الإنسان في قمقم (وعاء خرافي ضيق الرأس يُحبس فيه العفاريت والشياطين)، والصداقة هنا ملجؤه، وهذا ما ذكّره بكتاب (رحلة حول غرفتي) للفرنسي كزافييه دو مايستر، وفيه فصل بعنوان: سعيد من له صديق في هذه الحياة.
ورحت أبحث عن الكتاب، وأقرأ عنه، لأستنتج العبرة وهي أن الناس لا يعون قيمة ما يعيشونه من الحرية إلا عندما يحرمون منها.
والفرنسي دومايستر (1753 – 1821) شخص غريب الأطوار، لم يكتب في حياته سوى هذا الكتاب المثير للاهتمام عندما حُجِر اثنين وأربعين يوماً بسبب مبارزة تغلّب فيها على رجلٍ ذي نفوذ، فكان أن حكم بالحجز في غرفة نائية، لا سمير له فيها سوى القلم والورق.
يقول في الفصل الأول: لقد خططت، وقُمتُ برحلة دامت اثنَيْن وأربعين يوماً حول غرفتي. والملاحظات الشيِّقة التي قمتُ بها، والمتعة المستمرَّة التي شعرتُ بها طَوَالَ الطريق، جعلتْني أرغبُ في مشاركتها الجميع؛ فثقتي بأني مُفيدٌ هي التي فرضت قراريَ الأخير. يشعرُ قلبي برضاً لا يُوصَف حين أفكِّر بالعدد اللامتناهي من التعساء الذين أهديهم مَوْرِداً مضموناً ضدَّ القلق، وتلطيفاً للآلام التي يتحمَّلونها. المتعة التي نشعرُ بها عند سفرنا في غرفتنا ملاذٌ ضدَّ الغَيْرَةِ القلقة للبشر. هل يوجد في الواقع شخص غير سعيد بما فيه الكفاية، أو مهجور بما فيه الكفاية، حتَّى لا يكون من حظِّه التمتُّع بملجأ، حيث ينسحب ويختبئ من الناس جميعاً؟ هذه هي تحضيرات الرحلة كلّها.
أنا متأكِّد من أن كلَّ إنسان ذي عقل سيتبنَّى نظاماً، من أيِّ نوع كان، وأيَّاً كانت طبيعته؛ بخيلاً كان أم مسرفاً، غنيَّاً أم فقيراً، شابَّاً أم عجوزاً، وُلد في المناطق الساخنة أم قرب القطب، سيسافر مثلي؛ أخيراً، ضمن العائلة الشاسعة للبشر الذين يَعِجُّ بهم سطح الأرض. لا يوجد واحد – كلَّا، لا يوجد واحد (أعني من أولئك الذين يسكنون الغرف) – من شأنه، بعد قراءة هذا الكتاب، ألاّ يوافق على الطريقة الجديدة للسفر التي أولجُها في العالم.
ويقول في الفصل الثاني: بوسعي أن أبدأ في مدح رحلتي قائلاً: إنها لم تُكلِّفني شيئاً. ثمَّ أيّ مورد تُمثِّلُ تلك الطريقة في السفر بالنسبة إلى المرضى؟ ليس عليهم الخوف من تقلُّبات الهواء والفصول. – أمَّا الجبناء، فسيكونون في مأمن من اللصوص؛ لن يتعرَّضوا للهوَّات ولا للمستنقعات. آلاف الأشخاص الذين لم يجرؤوا من قبلي، والآخرون الذين لم يتمكَّنوا، والآخرون في النهاية الذين لم يُفكِّرُوا في السفر، جميعهم سيتَّبعون أُنمُوذَجِي. أيُّ شخص حتَّى الأكثر تراخياً لن يتوانى عن اتِّباعي على الطريق للتمتُّع بلذَّة لا تتكلَّف تعباً ولا مالاً؟ – هيَّا بنا، لنرحل – اتْبَعُوني، أنتُم جميعاً يا مَنْ حجزتُكم في غرفكم خيبةُ حُبٍّ وإهمالُ صداقة، وفضَّلتُم أن تكونوا بعيدين عن خساسة البشر وغدرهم.
فليتبعني تعساء هذا الكون ومَرضاه ومُنزعجوه كلُّهم!.
أتوقف عند هذا الحد من كتاب دو مايستر الذي أوضح أن الإنسان يمكن أن يسافر وهو في مكانه، إن اضطر إلى ذلك، وأقفز إلى فقرته الشهيرة عن الصداقة: “سعيد من له صديق في هذه الحياة، صديق يتوافق وعقله وقلبه ومشاعره وذوقه وعلمه. صديق ليس فريسة للطموح أو الجشع، صديق يفضل ظلّ شجرة على أبّهة البلاط”. (للمزيد راجع 1 و2).
ياسر العظمة وتجربة السجن:
في حلقة ذات مغزىً من حلقات (مسلسل مرايا) يراهن بطل الحلقة ياسر العظمة صديقَه الغنيّ حسن دكاك على قضاء خمسةَ عشرَ عاماً في غرفة لا يخرج منها، مقابل أن يفوز بنصف ثروته (250 مليون ليرة، وكانت مبلغاً يعتدّ به في ذلك الوقت) (3). حدث ذلك بعد سؤال افترض فيه الصديقُ أن ياسراً ارتكب جريمة، وخُيّر بين الإعدام والسجن المؤبد، فوجد الأخير أن خمسة عشر عاماً من السجن أمرٌ ممكن، ما وجد العقل والإرادة. لن أطيل الشرح هنا، ما دامت مشاهدة الحلقة ممكنة، وقد انتهت بشيخوخة البطل وندمه على قراره (فالمال لا يقارن بالحرية)، وإن استطاع تمضية الوقت بالقراءة والكتابة والتريّض وما إلى ذلك، لكن يبقى أن الأمر كله افتراضي بحت، يمكن إسقاطه على حال أسرى يقضون عمرهم بين الجدران، وما أكثرهم في عالمنا، وما من حلّ لهم بسوى التأقلم على ابتلائهم.
هند أبي اللمع والعزلة:
في عام 1974، قبل خراب لبنان الأول، عُرض مسلسل من أجمل المسلسلات الرومانسية، بطلاها الممثلان اللامعان: عبد المجيد المجذوب، وهند أبي اللمع. والأجمل في هذا مسلسل (حول غرفتي) لغته العربية الفصيحة، ومعالجته الدرامية من قبل كاتبه وجيه رضوان (4). تُقعد البطلة (ندى، هند) بعد حادث، ويحاول خالها الدكتور يوسُف إخراجها من حالتها النفسية الصعبة، فيما تقضي وقتها في غرفتها على كرسيّ متحرك أو في السرير. وعندما يتصل بها الكاتب (أنور، عبد المجيد) عن طريق الخطأ، تغير اسمها. وتتكرّر اتصالاته لتنشأ بينهما قصة حبّ كبيرة دون أن يراها أو تخبره هي بوضعها. المهم في الموضوع أن ندى تتغلب على وحدتها بحبها للموسيقى وبقراءاتها اليومية التي تتقمص شخصياتها وأبطالها وتعيش معهم قصصهم المشوقة.
تجربة شخصية:
مع أنني أحبّ الناس – لاسيما البسطاء – كثيراً في الحياة العامة وفي مهنتي الإنسانية، إلا أنني انتقائي جداً في صداقاتي. ولولا عملي الذي يتطلب حضوراً اجتماعياً، لكنتُ واحداً من أكبر العاشقين للوحدة والجلوس إلى أنفسهم. هذا ما آلت إليه حالي بعد عهدٍ من تجارب، وكان في كثير منها ألم، لأنني لم أعتدِ الخبث السائدَ، وحياة الكذب والتملّق والوجهين. ولهذا بتّ أجدُ في وحدتي سعادةً غامرة وأنا أقرأ مقالاً جميلاً أو كتاباً، أتوحّد وكاتبه كأننا توأمان، أو عندما أكتب شيئاً مفيداً، فأتّحد وقلمي أو حاسوبي، بسكِينةٍ ما مثلها سكِينة، كما الجنينُ في رحِم أمه. أما الأجمل فعندما أرى ما كتبتُه منشوراً، أعيد قراءته بفرح جمّ، وأنا أتساءل: أحقّاً أنا من كتبت هذا؟!
نشرت في نحو أربعة عقود عدداً كبيراً من المقالات في الصحف والمجلات، وأصدرتُ أكثر من عشرين كتاباً، ولم أكن أعرفُ آراء القراء إلا ما ندر. للنقد الأدبي حكاية أخرى. وإذ يعرفني بعضهم مما قرأ، يتكون لدي شعور حقيقي جميل، يعوّض ما يضيع في غربة نفسية لا يعرف فيها الكاتب من يقرؤه، ومن يحبه ومن يبغضه، حتى لمجرّد أنه كاتب.
في تجربة لم تدم طويلا، رحتُ أتواصل مع مجموعة من الزملاء، هي الأولى (والأخيرة) في سجلّ تجاربي. كانت التجربة سعيدة مع عدد قليل مختار، لكن عندما تضخم العدد بدأت المشاكل. إرضاء كل الناس غاية لا تدرك (لم آتِ بجديد). صعب جداً على من يقيس الكلمات بالميكرون أن يتقبل كل شيء على علاته وهناته، إلا أن يغمض عينيه وينام، ويستيقظ بعد طول سبات. الكتابة الآنية دون تفكير تحمل مخاطر جمّة. تعدد الثقافات والاتجاهات والقناعات في بلدان مختلفة وربما متباغضة لا بد أن يفضي إلى المشاكل، ما لم يتعقّل المشارك في كتاباته، من كل النواحي. إذن عليك أن تجلب السرور لقرائك، وأنت تمشي على حبال رفيعة مشدودة فوق جمرٍ مستعر، فيما ينتظر بعضهم أن تقع فيها.
هل نسعى إلى ذلك السرور بأي ثمن؟ هل نطلي أوجهَنا بالألوان كالمهرّجين من أجل تلك المحافل؟ وهل نتخلّى عن سلامنا الداخلي من أجل متعةٍ عابرةٍ في حفلة تنكّرية ارتدى كل روّادها الأقنعة، وعندما تنتهي الحفلة يخلعون أقنعتهم وينصرفون؟
قال رهين المحبسين أبو العلاء المعري قبل نحو ألف عام:
فانفردْ ما استطعتَ فالقائل الصّا دقُ يُضحي ثِقَلاً على الجلساء
فما أجدرَ غرفَنا بنا إذا انعدمت فرص الصدق.
وإلى بحث أعمق في عالم الأدب.
العين في 1 تشرين الأول 2024
هوامش:
- https://www.aljadeedmagazine.com/%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%BA%D8%B1%D9%81%D8%AA%D9%8A
- https://archive.org/details/journeyroundmyro00mais/page/57/mode/1up?q=+friend
- https://youtu.be/-Yh7L9a8-mc?si=js-_L6-bE8I5vPxU
حلقة مرايا
من مسلسل حول غرفتي