خضار وفواكه كنز من الألوان والفائدة
د. غالب خلايلي
سيدي الفاضل الذي تجاوزتَ الخمسين، وشَيّبتْكَ همومُ الأيام والسنين، فتراكمتْ في شرايينك العصيدةُ، وتجمّعتْ حول تخوم بطنك الشحوم: هل أتاك حديث “الطعام الصحّي”؟
فاعلم أنه إذا فُرِضَ عليك فأنك قد انتهيت!.
هو طعام يكاد يكون بلا لونٍ ولا طعمٍ ولا رائحة. والطريف أن الماء الذي يُفترَض علميّاً فقدانَه لهذه الصفات، يمتلكُها عملياًّ في بلاد عفّرت جداولَها النكبات، فإذا به مُحمرٌّ أو مخضرّ منفّرٌ للشاربين، ومن ثم يحتاج إلى تكريرٍ حتى يستساغ، لكن إنْ فكّرتَ يا سيدي بتكرير “الطعام الصحّي” أو تدويره، فلن تحصل منه إلا على ألياف، ألياف تكنس بِطانة معدتك الذاوية، وأمعائك الخاوية.
أوّل مرّة شاهدتُ فيها “طعاماً صحياً” لمريض قريب، كانت قبل نحو ربع قرن في مستشفىً عجيب، مستشفىً دقيقٍ جداً، أي والله، يحاسبك حتى على الأكسجين الذي تستهلكه بشكل طبيعي، لتجدَ عدد أنفاسك في فاتورة الحساب.
يومَها تيقّنتُ من “لعنة الاستشفاء” عند من يحاسِب حتى على الهواء، ناهيك عن الدواء والماء والغذاء، وتيقّنت أنه حتى الخروف الجوعان لن “تكبسَ نفسُه” على وجبات تلك المستشفيات، فـ “خرطتا” الخيار (بالعدد) كبيرتان مصفرّتان كأنهما آتيتان من قرعة أو يقطينة، وخرطة البندورة شاحبة اللون مسكينة، أما وجبة الباذنجان والكوسا فقد سُلقت على عجل بلا ملح أو دسم، قيل: كي تحافظ على نكهتها الطبيعية وفيتاميناتها، وانسَ أمر عينة الرز المسلوق في صحن فنجان، أيضاً بلا أملاح أو زيوت أو أسمان، وانس أمر اللحم ولو لحم ثور عاجز، ولا تسل إن كان هذا جائزاً أم غير جائز. تلك كانت فتوى طبيب القلب البطين المربوع، أثناء مسحه الليزري للمريض المبضوع، فهو بكسب الوقت مصروع، ورائحة التبغ المعطّن منه تضوع، قال بوجود أم العيال: “اللحم يزيد حمض البول، والسّمن يرفع الكولسترول، والملح يرفع الضغط، والبهار يثير القولون”، وها أنت ذا ضائع داخل قميصك و”البنطلون”، تعيش عيشة “الزحفطون” مثل سلطعون.
ويا ويلك يا سيدي إن فكّرتَ بتجاوز الفتوى، وخرِمتَ على فنجان قهوة أو حلوى. انسَ الآن تماماً أمر التدخين، فسجائرك المبرومة و”معسّلتك” المشؤومة، هي التي أيقظت من سُباتها البومة، فأوصلتك إلى سرير العناية، وما لك بالطب الحديث دراية، فبتّ فيها السجين، تعيش على الأكسجين، لا فتّةَ حِمِّصٍ مع الصنوبر المقليّ عندك ولا اللحم بالعجين، ولا شاكريّةً بلحم الضان ودهنه ولا حتى كبّةً يقطين، فما أمامك والله سوى ما وصفت، كلْ هنيئاً مريئاً وتمتع ما سكتّ.
بعد الخروج معافىً بإذن الله يا سيدي، ومديوناً بالتأكيد، صار اسمك المريض المقلوب، وصارت الحِمية لزاماً وأنت تضمحلّ وتذوب. تأمينك الصحّي تضاعف مرّات، وأدويتك تحتاج إلى تبرّع دوليّ وهِبات، والأنكى أنه ما بقي طعام تفوح روائحه الشهية، ولا تلك الحلويات البهية، انسَ أمر النابلسية بالجبن الساخن السائل، وانس أمر الهريسة والبقلاوة وكل تلك المسائل، وعشْ على المهلّبية بلا عسل أو حلاوة، وتنعّم بما لها من طراوة، تَعلَم أن السكّرَ عدوُّ القلب والشرايين، وأنه أمرض الملايين عبر السنين. كان الأطباء القابضون على جمرة العلم ساكتين، فلم يذكره أحدٌ من قبلُ بِشرّ، ما ربحت شركات الدّبس والقَطْر، وتذكّر أن ليس أمامك سوى الخضار المسلوقة، هي وجبة المحتمين (أهل الريجيم) المرموقة، وتذكّر أن الخبز عن جنابك ممنوع، ولو عضّك الجوع، قيل إنه يزيد المخاطر، بتراكم شحوم الكبد ومخزون السكاكر، وهناك حديث عن الدابوق (الغلوتين) وسوء الامتصاص، فما من تجنّبه هروب أو مناص.
طيب ماذا عن زيت الزيتون؟
والله مع الزعتر خير الصحون، قابل للشفاعة، رافع للمناعة، لا سيما إن أتى من قُدس الأقداس، ذات البركات والخيرات للناس. زيتٌ صحّي ما عليه كلام، يكاد يضيء حتى في الظلام، لولا أنْ غَشَّه شياطين الإنس، أصحابُ الحظوة في كل عرس، الذين يوسوسون في كل نفس، بما يخلطونه من رخيص الزيوت، ومنكّهاتٍ وألوان تعجز عن كشفها ربات البيوت. صار المرءُ اليومَ يشكّ حتى بنفسه من كثرة الغش، أهو إنسانٌ حقيقي أم نتاجُ وحش؟ وكأنّ الغشاشين ما سمعوا بـ”من غشّ ليس منّا” و”ويلٌ للمطفّفين”، وكل يقول: أنا، ومن بعدي الطوفان، ناسياً يوماً تغلي به النفوس وتقشعرّ الأبدان.
كل ذلك “جميل ذو بهاء”، ما جاد به “العلماء الأجلّاء”، لكن ماذا عن النفس الأمّارة بالسوء، وقِطّها الجوعان داخلَها يموء: هنا فلافل ساخنة يسيل لها اللعاب، وهناك شاورما و”مشوية” يقطر شحمُها الذوّاب، ناهيك عن هريسةٍ هنا وقشطة هناك، والمعدة تثور وتفور، تصرخ حتى تخور؟
أقول: حذارِ التهريب أيها الحبيب، فأنتَ تعرّض نفسك لهلاكٍ قريب. حذارِ، لأن هناك من سوف يكتشف فعلتك، بشمّ نَفَسِك أو بقعةٍ في ملابسك، أو حتى بتحقيقٍ شرطي وتحليل مخبري، ولا تعجب من وشاية “فاعل خير” وظّفته أم العيال، لقاء فُتات من المال، كيف لا وهي تتعب بانتقاء ما هو صحّي، وتشقى بحميتك وأنت الشقيّ؟
يقول أهل الحميات: يا سيدي اعقل واصبر، وانتظر يوماً به الحمية تُكسر، يسمّونه “يوم الصدمة” أيها الصديق، وبه ينفرج الهمّ والضيق، فما أحرى أن يسمُّوه “يوم السّعد”، ويسمُّوا حميتهم “يوم الرّعد”، أبَلَغك الحديث، أم هو وسواس خبيث؟
مع الاعتذار لكل من كانت حميته إجبارية أولا يجد طعاماً في عالم متخم.
العين في 14 تشرين الثاني 2024