المودة والرحمة في كل مرحلة
د. غالب خلايلي
نتناول في الجزء الثالث آلية الشيخوخة، وملخصها تأكسد الخلايا أو احتراقها، ونبرز دور السكّر والإنسولين في (البدانة، الخرف، إلزهايمر)، ودور مضادات التأكسد في الوقاية، وأخيراً نتحدث عن مصطلح (تعفّن الدماغ) (1 و2).
العمر شمعةٌ تحترق (تتأكسد):
يستطيع أيٌّ منّا أن يلاحظَ الاختلافَ الواضح بين بشرة الوليد والرّضيع والطفل واليافع والشاب والكهل والشيخ. إنها بشرة تخلق طريّةً صافيةً مشدودةً، ثم تبدأ بالتغضّن والترهّل والجفاف، وربما بالتصبّغ شيئاً فشيئاً، يسرّعُ خرابَها اللّعبُ بها (وكأنه صار قانوناً اليوم) وفرطُ التشميس والمساحيق المختلفة حتى الواقية من الشمس.
وما يحدث في البشرة يحدث في أجهزة الجسم كافّة، سمعيّة وبصريّة وقلبيّة ووعائيّة وكُلويّة وودماغية…، فنحن نلاحظ مثلاً تراجع السّمع (الوقر)، وصعوبة القراءة (تراجع البصرأو الحسر)، واشتعال الرأس شيباً، وتراجع القدرة الحسية والحركية (وهن العظم والعضل) (3)، ففي الطفولة يتحرك الطفل ويركض كالغزال، لكنه في كِبَرِه لن يستطيع النهوض بخفّة، إن استطاع، إذ يفقد الجسم مطاوعته تدريجياً خلافاً لرغبة الروح. قد يحتاج المرء ساعة أو اثنتين حتى يتنشط. أما المزاج فمن المؤكّد أنه يتغير، ويتنكّد بسرعة تبعاً للضجيج أو الألم أو البرد أو الأخبار المؤلمة التي تنخر البدن… فيميل الكبار إلى العزلة والتأمل (أو التعبد) ومراجعة النفس، وينفر معظمهم من المجاملة التي أتعبتهم عمراً. ولا ننسَ دور المرض في تغيير المزاج، ولا دور الحِمية القاسية (بتقليل الملح والسكر والدسم) وكذا دور الأدوية.
في طفولتنا كان أحد الموضوعات المتكرّرة في دروس التعبير (4) عن فضل المعلّم. كان التمهيد يبدأ بهذه الجملة: “المعلّم شمعةٌ تحترق رويداً رويداً لتنير الطريق للأجيال الصاعدة”. وكم في هذه الكلمات من حقائق مؤلمة: أوّلُها أنّ شموع المعلّمين احترقت بالفعل، عندما سُفّهت مهنتُهم وقلّ احترامها بين التلاميذ (والأنكى بين الأهل)، وصارت أجورُهم الأدنى، مما سدّ دروب الحياة أمام الأجيال، فتحوّلت من صاعدة إلى هاوية. أما الحقيقة الثانية فهي أن الأعمارَ كلها شموعٌ تحترق، إما على مهلها وإما على عجل، تبعاً لطريقة الاستهلاك وظروف الحياة.

إن الأكسجين هو العنصر الأكثر أهمية في الحياة، ومع ذلك قد يتسبّب في تلف الخلايا. وإن حقيقة ما يحدث في كل خلية حيّة هو عملية احتراق (أكسدة)، ومن ثم فإن كل ما يزيد هذه العملية يسرّع بلاءها وشيخوختها، وهو ما يسمّى الإجهاد التأكسدي أو فرط الأكسدة.
الخرف يزداد مع ارتفاع الضغط والتدخين واستهلاك السكر:
تتزايد حالات الخرف وطول العمر. وهكذا نجد 1/14 شخصاً فوق سن 65 عاما يعاني الخرف، ليزداد إلى 1/6 فوق سن الثمانين. وتشير دراسة مجلة Neurology إلى ثلاثة عوامل تنهك الدماغ (5):
1- الضغط الشرياني المرتفع: لاسيما بين 30 و50 عاماً، فيزيد خطر الإصابة 67%، إذ يضيق الأوعية الدماغية ويتلفها، مما يزيد فرص الانسداد والتمزق (الاحتشاء – النزف).
2- التدخين: فالمدخّن أكثر عرضة للخرف بنسبة 45 % مقارنة بغير المدخن. وتعزى 14 % من جميع حالات الزهايمر في العالم إلى التدخين. إن الكحول والإشعاع و(حمّامات الشمس)، وتلوث الهواء واستنشاق أبخرة عوادم السيارات تلعب أدواراً مماثلة. يقول د. شيخار ساكسينا، مدير الصحة
العقلية في منظمة الصحة العالمية: “لأن الخرف لا يعالج، فلنركز على الوقاية بتقليل عوامل الخطر الممكن تعديلها كالتدخين”.
3- التغذية السيئة لا سيما السكّرية: ثبت أن الأغذية الغنية بالسكّر والدهون المشبعة والمتحوّلة والمواد الحافظة، والملوّنات، والمنكّهات تزيد الخلل المعرفي والخرف.
إن الإجهاد التأكسدي يؤثر على جميع الأعضاء. يتأثر سطح الجلد بسبب تلامسه مع العوامل الخارجية (الملوّثات، الأشعة فوق البنفسجية)، وتتأثر الطبقات العميقة بالجذور الحرّة (الناجمة عن استقلاب الأغذية) التي تؤثر على صنع البروتينات، بما في ذلك الكولاجين المسؤول عن مرونة الجلد، فتظهر التجاعيد والمشاكل المختلفة. وبطريقة مماثلة نرى الإرهاق المزمن، وضعف الدورة الدموية، ومشاكل النوم، واضطرابات القلب والأوعية الدموية والسكّري، والمشاكل العصبية والتهاب المفاصل والسرطان.
ولننبه إلى أن الجهد المفرط والإكثار من مضادات الأكسدة يسهمان في تلف الأنسجة.
ولع السكر يسبب الإدمان:
ينصح أطباءُ الأطفال الأمهات بتجنيب أولادهن الأطعمة السكرية، ذلك أنّ ولع السكر يبدأ في عمر مبكر إذ يصطاد ذوق الرضع (ومن ثم يرفضون الأطعمة الأقل حلاوة) ويسبب الإدمان، والسمنة ومشاكل متعددة كما أشرنا. هذا ويتم إدراك الطعم الحلو بواسطة مستقبل T1R2/T1R3 في اللسان، حيث يُقدِّم معلوماتٍ حول محتوى السعرات الحرارية في الطعام المُتناوَل. يتعرف هذا المستقبل إلى جميع المركبات الكيميائية التي يُدركها الإنسان حلاوتها، طبيعية كانت أم صناعية. والأهم من ذلك، هناك مستقبلات للطعم الحلو في العديد من الأنسجة خارج الفم كالجهاز الهضمي والبنكرياس والمثانة والأنسجة الدهنية والدماغ وهي تشارك في استشعارمستوى سكر العنب، ومن ثم الحفاظ على توازنه.
يأتي الإدمان من أن تناول السكر يحرض بشدة إفراز الدماغ للدوبامين الباعث على الشعور بالسعادة والأحاسيس الممتعة (كجزء من نظام المكافأة)، وهذا ما يفسر الرغبة الشديدة بتناول مادة سكرية (حلوى، شكولاتة، بوظة..) في أوقات مختلفة. على أن زيادة الدوبامين تسبب القلق والهياج والهوس والطاقة الزائدة، فالأجدى الحصول على متعة الدوبامين بتناول الغذاء الصحي واللبن الرائب والرياضة والتأمل (أو التعبد المخلص) والاستماع إلى الموسيقى اللطيفة.

السكّر يُشيخ الخلايا والسكّري يؤهب لألزهايمر
يؤثر الطعام السكّري على الساعة الحيوية للجسم، مما يفسّر لماذا يبدو أشخاص أصغر مما هم عليه أو أكبر. وتشير عالمة التغذية بابارا لارايا إلى أن التخلص من 10 غ سكر يومياً يعيد الساعة الحيوية 2.4 شهر (6). فيما حفز باحثون، بالتعاون مع الخبير في الداء السكري نايجل كالكوت، أستاذ علم الأمراض في جامعة كاليفورنيا، الداء السكري في الفئران الصغيرة التي تهيئها خلفيتها المورثية لاكتساب ألزهايمر، فتلفت أوعيتها الدموية قبل وقت طويل من اكتشاف علامات المرض مثل موت الخلايا العصبية والرواسب النشوانية (الأميلويد)، وكانت الجذور الحرة هي سبب التلف إذ أكسدت (حرقت) الخلايا المبطنة للأوعية الدماغية (7).
نعلم أن الخلايا عامة تحتاج سكّر العنب (غلوكوز) كي تقوم بوظائفها، ولكن السكّر لا يدخل الخلايا إلا بمعيّة الإنسولين الذي تفرزه المعثكلة، وبعض أجزاء الدماغ كما تبين دراسات حديثة.
إن عوز الإنسولين (أو مقاومته) يفسر حالات السمنة والخرف والداء السكري، كما نشرت دورية Frontiers in Neuroscience وتستكشف المراجعةُ الصلةَ بين الخرف والإجهاد وقلة النوم وأحداث الحياة والتحدّيات البيئية.
وعلى هذا اقترحت د. سوزان دي لا مونتي ود. جاك واندز من جامعة براون في عام 2008 تسمية ألزهايمر بالداء السكري من النوع 3، نظرًا لارتباطه القوي بمقاومة الأنسولين، وإسهام نقص السكر
الدماغي في فقدان الذاكرة ومهارات الاستدلال، ناهيك عن أن خطر الإصابة بألزهايمر أعلى بكثير عند المصابين بالداء السكري من النوع 2.
وربطت دراسة، نشرتها دورية لانسيت لطبّ الأعصاب، مرض السكّري بتدهُور صحّة الدماغ وأشارت إلى أن الإنسولين (المعطى تحت الجلد أو بالأنف) قد يفيد مرضى الزهايمر (وباركنسون واضطرابات التنكس العصبي الأخرى). علما أن إعطاء الإنسولين بالأنف يوصله إلى الدّماغ على طول الأعصاب المسؤولة عن الرائحة دون تغيير مستوياته أو مستويات السكّر في الدم”.
تطور ألزهايمر: العلامة الأولى لألزهايمر هي المشكلات البسيطة في الذاكرة، ثم: قلة الحكم، فقدان الذاكرة، الارتباك، الهياج / القلق، مشاكل القراءة والكتابة والأرقام، صعوبة التعرف إلى العائلة والأصدقاء، الأفكار المشوشة. وتتطور الأعراض إلى درجة لا يستطيع المريض معها البلع، لينتهي المريض بالالتهاب الرئوي، نتيجة دخول الطعام والسوائل إلى الرئتين.
مكافحة الشيخوخة ومضادات الأكسدة
“العقل السليم في الجسم السليم” عبارةٌ من ذهب قالها القدماء وجرت على الألسن مثلاً. وبديهي أن العناية يجب أن تنال الجسدَ والدماغ والروح، بتجنب كل ما يؤذيها، والتركيز على كل ما يغذي خلاياها. إن الغذاء الصحي والرياضة والهواء النقي والنوم المنتظم وتجنب العادات السيئة (سُكْر، تدخين، سكّريات، نهم…)، وتثقيف النفس، ومداومة التعلّم أمور تحفظ صحة الخلايا. وقد تحدث الأطباء عن فوائد مضادات التأكسد من مصادرها الطبيعية:
1- فيتامين C وهو ذواب في الماء ومن ثم يستطيع الدخول إلى الخلايا، ويتوفر في الخضار والفواكه كالحمضيات والفريز، والفلفل البلدي.
2- فيتامين E وهو ذواب في الدهون، ويلعب دوراً رئيساً في حماية أغشية الخلايا، ويتوفر في المكسّرات والبذور، والزيوت النباتية، والخضار الورقية.
3- الملوّنات الطبيعية: منها الفلافونيدات التي تمنح الأغذية النباتية ألوانها (الشاي الأخضر، الشوكولاتة الداكنة، التوت، الفول، العنب، الخضار الورقية..)، والبيتا كاروتين في الجزر والبطاطا الحلوة، والسبانخ، والمانجو، واللوتين في الخضار الورقية، والذرة، والبرتقال.
4- السيلينيوم: في الحبوب الكاملة، والبيض، والجبنة، والبقوليات.
5- زيت الزيتون البكر، الميرامية، الكركم، إكليل الجبل “روزماري”.
إن استهلاك خمس حصص من الخضروات والفواكه يومياً يزود بمضادات الأكسدة الأفضل.
الوقاية من الزهايمر.. ودور المجهود الفكري:
تشير مراجعة علمية في دوريةAlzheimer إلى أنّ التأمّل قد يساعد في الوقاية من الداء لأنه يقلل الإجهاد. إن اثنتي عشرة دقيقة فقط من التأمل المُسمّىKirtan Kriya (الشّبيه باليوغا) يومياً تُحسّن جودة النوم وتقلل الاكتئاب والقلق، وتنظم المورثات عموما ومورثات الجهاز المناعي، ومستويات الأنسولين والسكر. إن الحفاظ على نمط حياة صحي (النشاط البدني المنتظم، وتجنب إصابة الرأس بوضع حزام الأمان أثناء قيادة المركبات، وارتداء الخوذة أثناء ممارسة الرياضة، واتباع حمية متوسطية، والإقلاع عن التدخين، والحفاظ على النشاط الاجتماعي، يسهم في تقليل الخطر.
ويثمن الفيلسوف الفرنسي ميشيل سيريس (1930-2019) الجهد العقلي، فيقول: للحصول على مظهر الشباب طرق ثلاث، أولاها مكلفة وغير مجدية، وهي مستحضرات التجميل. والثانية أرخص، لكنها نادرة الاستخدام إذ تتطلب الهمّة والمثابرة: الاستيقاظ الباكر، والمشي ساعتين يوميا، والعيش في الهواء الطلق. أما الثالثة فمجانية لكنها غير مطروقة، إذ لم أر طبيبا ينصح مرضاه بها، وهي القيام بمجهود فكري
يومي (قراءة نص صعب، الاستماع إلى فكرة معقدة) لأن الشيخوخة هي ترهل الفكر. فإذا كنت تشاهد الأفلام الأميركية لسنوات، فأنتَ في حالة من الشيخوخة المذهلة (8).
الحياة الحديثة و”تعفّن الدماغ”
يشكل الدماغ النواقل العصبية والوصلات الخلوية منذ الولادة، متأثراً بالتعلّم والتجارب والنمو، وإلا تبدأ الأجزاء المهملة في الدماغ بالانكماش. وإن تعرض الأطفال لمحتوى فاسد في مراحل نموّهم يعوق تطور أدمغتهم بشكل طبيعي، إذ يتعيّن عليهم أن يتفاعلوا مع الأهل والأطفال الآخرين، وإلا تعرضوا لما يسمى (تعفّن الدماغ Brain Rot ): وهو تراجع الإدراك نتيجة عدم الاستخدام (الخمول) أو سوء الاستخدام (الإشغال بالتوافه)، ما يصف بدقة شديدة حالة كثير من الشعوب النائمة.
وقد ورد أول ذكر للتعفن الدماغي عام 1854 م في كتابWalden للكاتب هنري ديفيد ثورو Thoreau الذي وصف فيه تراجع العقل نتيجة الحياة البدائية، وقارن ذلك بتعفّن البطاطا في أوروبا في أربعينيات القرن 19 (إذ توفي 750 ألف إيرلندي نتيجة المرض والجوع، وهاجر عدد كبير منهم) فقال: “بينما تسعى إنجلترا إلى علاج تعفّن البطاطا، أفلا تسعى لعلاج تعفّن الدماغ الأوسع نطاقاً والأكثر فتكاً؟”
استُخدم المصطلح في البيئة الإلكترونية منذ عام 2004، وبدأ مستخدمو تويتر في عام 2007 باستخدامه لوصف برامج المواعدة وألعاب الفيديو وغيرها، وازداد استخدامه خلال العقد الأول من الألفية الثالثة.
ومع 2024 بدأ المصطلح يُستخدم لوصف العادات الرقمية عند جيل ألفا (الذي ولد بين 2013-2024) وجيل زد (الذي ولد بين 1997-2012)، وهنا أبدى النقاد قلقهم من انغماس الناس الرقمي في وسائل التواصل، وهي المكان الذي يسبب “تعفن الدماغ”، نتيجة الإفراط باستخدام الهواتف المحمولة، والتعرض لضوئها الأزرق وقت العتمة (لاسيما قبل النوم وعند الاستيقاظ)، ولهذا عدّت جامعة أكسفورد المصطلح كلمة العام 2024، بعد تحليل 26 مليار كلمة، محذرةً من آثاره النفسية والصحية من تدهور الحالة العقلية وضبابية التفكير والخمول الذهني وضعف الذاكرة