زمن الدهشة!
د. غالب خلايلي
تمرّ عليّ في عملي العيادي مواقفُ مضحكةٌ وأخرى مُبكيةٌ، وقد توقّفتُ عن كتابة وقائعها منذ زمن، فهي كثيرة ومتكرّرة، وتشابهُها يفقدُها طزاجتها وجاذبيتها، غير أن ظرافة بعض المواقف الحديثة حملتني على أن أكتبها لكم، فأرسم البسمةَ على وجوهكم، بعد أن صار الزمان ضنّيناً على البشر بما يبشّر أو يفرح.
الموقف الأول: حدث عقب عودتي من الإجازة الصيف الماضى، ورأسي مقلوبٌ، ودماغي شبه معطوب، بسبب تباريح السفر وتغير المواقيت. والذي يحدث أنني – بعد الإجازات الطويلة – آتي مشتاقا إلى عملي ومرضاي، إذ توقّفتِ الساقيةُ شهرين، وهي عندما تتوقف لا تفعل ذلك فحسب، وإلا هان أمرها، وإنما تجرف معها مخزون المياه الجوفية، وهذه هي حال كل إجازة صيفية أو شتوية.
وإذ نسيتُ هاتفي مفتوحاً في يوم عطلة، أو قل تناسيتُ ذلك لأسباب، رنّ عصر يوم الجمعة بارتياب، إذ كان الرقم غريباً، وأتى الموقف بعده عجيبا، فعندما أجبتُ غمرتني محدّثتي برقّتها وصوتها الرخيم ومديحها أنني طبيب ممتاز، ولكلّ حاجز مجتاز، فدخلت قلبي دون اسئذان، خاصة أنها أخبرتني أنها واقفة قرب مكان مقدّس، فانفتح قلبي المرهف أكثر كي أستجيب لطلبها، وكلي إيمان أن دعواتها لي سوف تصل عبر الواي فاي بأسرع من البرق. والحق أنني ما أضعت الفرصة، إذ طلبت منها أن تخصّصني بدعوة مباركة، فوعدتني خيراً، على أن أحلّ مشكلة رضيع يخصّها ابن شهرين، أصيب بمغص وإسهال شديدين، وما لبثت أمه أن اتصلت بي بعد قليل، وشرحت لي المرض بالتفصيل، وأجبتها بكل طيبة قلب إجابات شافية، راجياً لها ولرضيعها العافية، لا سيما مع طيب النفحة الروحانية التي غمرتني، وأنها بالمجيء في الصباح وعدتني، ومعها الرضيع وتحاليله، وأدويته ومحاليله.
وكما هو غير متوقع في زمننا الكريم، هو أن الأمّ لم تأتِ في الصباح ولا في المساء، ولا حتّى اتصلت تطمئنني فأرتاح، ولم تفعل وقد نالت المفتاح؟ أما أنا، وما لكم علي يمين (ولا يسار)، أنني نلت غير مفتاح، من شآبيب الرحمة وبركات الدعوة، فما انقطع عملي ولا خاب أملي، على الرغم من مرور شهرين كاملين، لم يزعجني فيهما غير زائر قوي العين، مكث في عيادتي ثماني ساعات، وجلب عليّ الحسرات والويلات، وهو يتكلم بالصيني، وأنا لا أفهم حيني ولا ميني، ما عليكم نترك مقلاته إلى وقت آخر، كي تبقوا راضين مبتسمين.
الموقف الثاني: قبل ليلتين اثنتين، دخل إليّ مريض ابن ثلاث سنوات من إحدى بلاد الهند والسند، برفقة والدين بَدَوَا نظيفين مرتّبين، فما شممت رائحة كاري ولا عرق، ولا زيت جوز الهند أو المرق. الأب مهندس مضيء بنور الكهرباء، يمتلك شركة إلكترونية ذات بهاء، وعلى وجهه ملامح السماحة بلحية طويلة ممشوطة بإتقان وعناية، وملابس بيضاء تكاد تضيء من غير زيت، ترافقه ربة البيت المصون، متشحة بسواد أنيق حتى الأخمصين، فلا تبدو من وراء نظارتها سوى عينين مشعتين، ومخايل نجابة وذكاء في حديثها واضحين.
كانت الشكوى أن الطفل يرمش كثيراً منذ أيام، من غير أي عرض آخر جسمي أو نفسي. وعندما استفسرتُ وجدتُ أنه مدمنٌ على الحاسب اللوحي والهاتف الذكي. أدركتُ أن الطفل كوالديه آية في الذكاء، وأنه منفتحٌ على العصر (وربما المغرب أيضاً)، في عصر (الأيي آي)، ولا حاجة لي أن أشرح لكم هذين الحرفين السحريين، فهما على كل لسان، حتى عند بائع الدخان والباذنجان، وإن شاء الله لنا معهما كبير شأن، حال طفلنا وغير أطفال.
فحصت الطفل بعناية فائقة، كوني مرتاح الحال خليّ البال، وكان لا بد أن أفتح حديثاً طبياً اجتماعياً، بدلا من أروّع الأهل بطلب تخطيط دماغ وتصويرٍ بالمرنان، ناهيكم عن تحاليل وشراء محاليل كما صار يُعهد في الطب الحديث، وكان أن شرحتُ للأهل خطورة الإدمان الإلكتروني، وكذا خطورة إهمال الأسنان، إذ تبين لي أن لوائح الكلس بدأت تترسب في فم الطفل الحبيب، الذي يدمن أيضاً ألواح الشوكولا والحليب.
صدقوني، بلا يمين (أو لفّة يو تيرن هذه المرة)، أن الأب كان سعيدا بما شرحت ونصحت، وأن الأم (التي تبيّن لي أنها ممرضة) كانت أسعد، وأنا العبد الفقير إلى رحمته تعالى كنت (أسعدن) منهما، لا سيما بعد أن جاء موعد الحساب.
تململ الأب في مقعده وطلب تخفيض القيمة، فقلت: كرمى لأخلاقك القويمة. ثم سأل الأب إن كان يمكنه الدفع بتحويل مصرفي، فقلت له، وقد شاعت هذه الحالة: افعلها متى شئت فأنت خلّ وفي. وكان أن طلب رقمي الخاص كي يرسل الوصل، فقلت له: أنت ابن أصل، ولم يقم أحدُهم سابقاً بأي فصل.
وذهب أخونا مع الريح.

قالت نفسي غير الأمارة بالسوء: ثماني ساعات مطلوبة أحياناً قبل التحويل إلى مستفيد جديد، يسمونها زمن التبريد (لعل الهمة بها تبرد؟)، وقد مرّت ستة من (دستات) الثماني، وأنا أعلل النفس بالأماني، وقراءة السبع المثاني، فما أتت إشارة بنكية، ولا رسالة ذكية.
والأدهى أنني اتصلت بهاتف الرجل مرات، وهيهات أن يرد أخونا الحبيب هيهات.
حقيقةً أيها الإخوة والأخوات: لي نظرة في الناس لا تخيب، أشم رائحة الحرامي المحتال من بعد آلاف الأميال، لكن نظرتي خابت هذه المرة، وكانت الواقعة المرّة، لا لمبلغ زهيد في ذمة نظيف اللباس عقيم الإحساس، لن يغنيني إن أتى أو يفقرني إن غاب، لكن لأنه سوف يجعلني أرتاب، إلى يوم الحساب.
ولم يأت ببالي لحظتها سوى كارلوس غصن، يشكو دهره وقد فقد الحضن والحصن، فقد رأيته يشكو دهره بعد أن كان المدير البارع في أعلى المواقع، نيسان ورينو ومتسوبيشي، التي طلع منها منتوف ريش، فنصح كل مقدِم على مشروع، أن يحسب حساب الكوع والرجوع، فيضع مصلحته في موازاة جهده أو أعلى، لأنه في ذات يوم سوف يبلى، لا رأيتم الهم ولا البلاء، في يوم لا ينفع فيه دعاء.
ودعائي أن يحسّن الله الحال في كل مجال، في الطب حيث لا يرجو مريضٌ حسن العاقبة، وفي غيره لا يأمن فيها النائبة، فبمثل هذا لا تستقيم الأمور، ولا طريق لنا إلا إلى التنّور.
دمتم بخير.
العين في 1 تشرين الثاني نوفمبر 2025





















































