ابراهيم خلايلي
د. غالب خلايلي
عندما تعتري الإنسانَ مصيبةٌ أو همٌّ، فإنّه في لحظات ضعفه واستسلامه، يرغب – دون شكّ – بالعون والمؤازرة، لكنه – رغم أساه وسواد دنياه – يتوقّف للحظات وهو يسأل نفسه: في غمرة انشغال الناس بألف همّ وهمّ، أو ربما بخبيء ما: من ذا يهمّه تَرَحي، إن كان لا يكترث لفرحي؟ وإن قلب المرء الشفّاف يخبره على الفور عن المُبالي والمُغالي، وذلك من سهولة الإقبال، وعفويّة التعاطي مع من يرتاح إليه، ويكون بمثابة الأخ الذي لم تلده الأم.
بدفء القلب وحميميّة العاطفة يعرف المرء الخبيء، فهما يدخلان قلبه وعقله بلا استئذان، لأن روحه سوف يكشف صدق التعاطي، وقلبه لن يخطئ دفء القلوب، حتى عن بُعد، لأن عطرَ الكلمات التي ينقلها الأثير سوف يترجمُ صدقَ العاطفة أو بهتانَها.
هذا أنا على الأقلّ، فمثلما يتنفّس بعض الناس الموسيقى أو الرسمَ أو حتى دُخان السجائر، أتنفس أنا عبقَ الكلمات، وأقيم لكل كلمة وزناً، وأجمّل حتى الحزن (1)، ويؤذيني جداً إلقاء الكلام على عواهنه، أو عدم الردّ أو الاكتراث، والأخير عندي قاصم.
***
![](http://taminwamasaref.com/wp-content/uploads/2025/02/thumbnail_خارطة-قديمة-للأرض-المقدسة-من-مقتنيات-الوالد.jpg)
في وفاة المرحوم أخي إبراهيم بدمشق، اعترفتُ لكم قبل أيام أن وفاته نكّس رأسي (2)، فهو الشقيق الذي عرفتُه منذ لحظة الولادة (إذ أتى بعدي بسبعٍ سِمان)، ورَضاعِه وحبوِه، وكلماتِه الأولى (لا أستطيع البوح بأول كلمة قالها وهو تحت سرير الوالد)، وشقاوتِه وضحكِه، وأكلِه وتقاسمِه خبز العائلة (وقد صنعت الوالدة الخبز الشهيّ لنا وقتَ الأزمات)، وتعلُّمِه الأبجدية (على يديّ في كثير من الأحيان).
ثم جاء اختيارُه لعشقِ والده “التاريخ” بعد حصوله على الثانوية العلميّة (فأربعةٌ قبله اختاروا الطب)، ونجاحُه وتفوّقه، وابتعاثُه المتأخر، وهمُّه المادّي في الزمن التونسي عندما قصّرت إدارة البعثات، وآلامُه المعنوية بعد عودته، وشقاؤه في عمله رغم وطنيته العالية ونجاحه، ليأتي مرضُه القلبي الذي سرّعته الشدائد، متوّجاً رحلةَ المعاناة، فألزمه بحميةٍ وأدوية ما تبقى من عمره.
وأتى بعدها زواجُه المتأخّر، وإنجابُه بنتين وولدا، وخرابُ بيته الحرستاني في الحرب الضروس، وحروب القريب والغريب ضدّه وضد أسرته الصغيرة، وعدم استطاعته طباعة نتاجه العلمي الغزير (3)، وفوق كل ذلك أتقن إبراهيم الطبخ كما والدتي بالضبط (لاسيما الملوخية والبامية ومصقعّة الباذنجان مع الثوم) (4)، فكنا نجتمع كل سنة في إجازات الوطن، حيث يكون إبراهيم المستقبِل الأول والوحيد في المطار (مع حماتي أحياناً)، وقد هيّأ سيارةً تنقلنا، فما إنْ نُنزلْ حقائبنا في البيت ونرتَحْ قليلا، حتى نذرعَ شوارع الشام جيئةً وذهاباً إلى ساعة متأخرة من الليل، سواء أفي أيام الكهرباء (رحمها الله)، أم في عتمة العقد الأخير، ننسى أنفسنا في أحاديث طويلة وفي ظلام دامس، قد تنيره بعض السيارات العابرة أو سجائر المارّة لحظةَ سحبِ أنفاسها (ويا للمفارقة وهي تسحبُ أنفاسهم) أو مصباح صغير في جيوبنا (ومؤخراً ضوء الهاتف)، نمشي عارفين كل التضاريس كما نعرف بيوتنا، وإن تعثرنا بحفرٍ في رصيف غير مستوٍ تراه في أرقى المناطق!، أو مصلّبة حديدية فاجأتني مرّةً أمام المحكمة الدستورية في الروضة (غايتها منع اصطفاف السيارات) وكادت تكسر عظم الرّضفة (صابونة الركبة) ذات ليل لائل، كما نحضر الأنشطة الثقافية في ثقافيّ أبو رمانة أو كفرسوسة أو دمّر أو العدوي، تلك التي لم تتوقفْ في أحلك الظروف، وإن تحنّطت أوجه بعض المثقفين بطريقةٍ يصعب تقليدها فإذا بها مثل تمثال أبي الهول.
وبين أسبوع وآخر كانت أمّ ألمار – باركها الله – تصنع لنا أطيب المحاشي (من باذنجان وكوسا وقرع ويبرق)، أو الكبب بأنواعها، أو الملوخية (الخلايلية) التي لا يُشبع منها، نأتي من بيتنا بأمان أو تحت جنح الهاون أحيانا، نأكل حتى التخمة فنغفو على الأرائك، نتصبّب عرقاً ريثما تأذن السماء بنسمة باردة أو بمروحة تعمل أو مكيّف (يا للرفاه!)، ثم نتمشّى آخر الوقت مع الأولاد باتجاه ساحة الأمويين أو جسر الحرية (كما سُمّي حديثاً)، فحديقة الجاحظ أو السّبكي حيث بعض ألعابٍ هناك يفرح بها الأولاد أي فرح، خاصة إذا تأجّجت الشهية على فلافل الشعلان أو شاورماها…
![](http://taminwamasaref.com/wp-content/uploads/2025/02/thumbnail_انعقاد-أواصر-المحبة-حول-المائدة-.jpg)
ألا يكفي كل هذا لأواصر محبّة لا تنتهي؟
وأنا أكتب بروحٍ يكاد يذوب ويقطر، يدرك بعض المحبّين ألمي، سواءٌ مما يعرفونه منّي، أم من نبش مخزون الذاكرة والتجارب التي عاشوها عندما فقدوا إخوةً وأخوات، فتراهم يتألّمون، ويواسون بأروع الكلمات التي تبرّد القلب الحارّ (5).
إحدى الزميلات كتبت، وقد فقدت أختها في وقت مبكر: فراق الإخوة مؤلمٌ جدا. أنا فقدتُ أختي الأصغر قبل سنوات، وما زلتُ – وأنا أتسوّق – أشتري لها هدايا كانت تحبّها، ثم أتذكّر ويا للأسف أنها لم تعدْ معَنا.
زميلٌ آخرُ فقد ذات يوم بعيد أخاه الأصغر، عزاني بالدفء ذاته، وأتبعه بقصّة عن لقمان الحكيم عندما عاد من سفر فلقيَ غلامه في الطريق، فقال له: ما فعل أبي؟ قال: مات، قال: الحمد لله، ملكت أمري. ثم سأل: ما فعلت أمي؟ فقال: ماتت، قال: ذهب همي. وسأل: فما فعلت أختي؟ قال: ماتت، فقال: سُتِرت عورتي. سأل: فما فعلت امرأتي؟ قال: ماتت، قال: جُدّد فراشي، ثم قال: فما فعل أخي؟ قال: مات، قال: انقطع ظهري وانكسر جناحي، ثم قال: ما فعل ابني؟ قال: مات، قال: انصدع قلبي (6).
وكذا فعل زملاء كرام وزميلات، منهم من هو قريب، وأكثرهم بعيدٌ آلاف الكيلومترات، غمروني بلطف عواطفهم، ودفء قلوبهم منذ اللحظة الأولى، ما تباطأ أحد منهم، أو اختلق عذراً إن كان يستطيع القدوم إليّ في غربتي الروحية التي قلّما يفهمني فيها أحدٌ، أعَرفَ همّي أم لم يعرف، فكثيرٌ وإن كان في أقرب مكان من الجسد، هو في أنأى مكانٍ من الروح.
ويا فقيد محبيك يا إبراهيم: روحك ترفرف في المكان الذي ولدتَ فيه وترعرتَ (الشام)، وفي كل مكان يحبك بعد أن تحرّرتَ من قيود الحركة والسّفر والحواجز والأسلاك الشائكة وسمات الدخول وقائمة الممنوعات الطويلة، وتستطيع اليوم أن تدخل إلى كل مكان، حتى إلى الجش – جسكالا بلدة أبيك وأجدادك، في أرض كنعان العظيمة التي أفنيتَ عمرك تسبح في خضمّ تاريخها، تصارع الذئاب وغيلان الظلام، يزورهم شبحُك اليوم في منامهم فترتعد فرائصُهم.
مناسبةٌ مؤلمةٌ كهذه، يمكنها – حسب طريقة مقاربتها – أن تردم هوةً عند الحكيم، أو توسّع الشرخ عند المتجبّر المتكبّر، فإذا هي حدّ فاص بين الوهم والحقيقة.. وبين العته والحكمة.
وكما أنتَ يا إبراهيم مثلٌ مؤلم من ملايين الأمثلة، يرى الحكيم أن حبلَ الدنيا مهما طال، وللأسف قصير (6)، وإن ظنّ بعض الناس أنه خالد، ليستمرّ في استمراء التعذيب وكأنه ما من آخرة.
(كلّا إن الإنسان ليطغى)، وينسى أنّ إلى ربّه الرُّجعى.. وقد رجعتَ يا إبراهيم إلى حيث سيرجع الجميع في يوم قريب أو بعيد، فبوركتَ في جنّتك التي أطمع من غفور رحيمٍ أنك فيها، وسلام عليك – بإذن ربك – يوم ولدتَ ويوم توفيتَ ويوم تبعث حياً.
ويا أحبائي الذين آزرتموني بدفء قلوبكم: بمحبتي الخالصة “أشدّ على أياديكم.. ودفء القلب أعطيكم”. ألم تشعروا بذلك؟ (7).
دمتم ودامت محبّتكم.
العين في 9 شباط 2025
![](http://taminwamasaref.com/wp-content/uploads/2025/02/thumbnail_سوق-الحميدية-والمتحف-وشارع-أبو-رمانة-.jpg)
هوامش:
- أشكر قارئي الأول مرهف الإحساس رئيس التحرير فضلو هدايا، كما أشكر أخي الأديب الناقد د. يوسف حطيني على رأيه.
- مقالي (أحيا التاريخ فقتله قلبه): https://taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalayli-death-brother
- أرجو أن يوفقنا الله في طباعة آثاره، علما أن للفقيد أفلاما تاريخية وثائقية كثيرة لم تعرض، وله مقاطع توضيحية في اليوتيوب، مثل:
- الهوية الكنعانية ليست زائفة: https://youtu.be/xcAA60o36OU?si=FJo0xqsSWTPE05rg
- سبتيموس سيفيروس وجوليا دمنا اتحاد كنعاني آرامي شغل العالم قرونا: https://youtu.be/YrzuS0e_J4A?si=uVH8ofUfE5Ft6Qd
- مسقّعة الباذنجان: طبق من الباذنجان مع البصل وربما اللحم والثوم، اختلف الناس على منشئها (مصر، الشام، اليونان..)، وهي بالأصل مصقعة Moussaka (من الصقيع) لأنها تؤكل باردة.
- رواها عبد الله بن دينار، ولقمان رجل أوتي الحكمة كما ورد في سورة لقمان، عاش في بلاد النوبة (أسوان)، وعاصر النبي داوود عليه السلام.
- هناك بيت شعر معبر لطرفة بن العبد البكري الوائلي ( 453 م – 569 م): لعمرك إن الموتَ ما أخطأ الفتى / لكالطِّول المرخى وثنياه باليد. (المعنى: الموت مثل حبال ممدودة من السماء، بيد رب الكون، يرفعها متى شاء).
- وقد تعذر السفر إلى دمشق، أقمنا للفقيد أمسيتي عزاء في العين الخميس والجمعة (6 و7 شباط 2025).
![](http://taminwamasaref.com/wp-content/uploads/2025/02/thumbnail_كتاب-الوالد-تاريخ-جسكالا-.jpg)
![](http://taminwamasaref.com/wp-content/uploads/2025/02/مكتبة-البيت-العامرة.jpg)