خبر وفاة زياد الرحباني
د. غالب خلايلي
كنا على موعد مع القسم الفرنسي من كندا منذ حللنا في مسساجا (مقاطعة أونتاريوOntario أميركية الطابع)، وها هو ذا قد جاء مسرعاً بعد عشرين يوما من وصولنا.
زياد الرحباني خبر الصباح الحزين
استيقظت باكرا صباح السبت 26 تموز 2025، وفتحت التلفاز كي أطلع على أخبار بلادنا التي تمرّ بأجواء ساخنة وحرائق، وكان الخبر الصباحي المؤسف (تتقدمنا الشام ولبنان بسبع ساعات) بين مجموعة أخبار يومية صادمة هو وفاة عبقري الموسيقى والمسرح، المثير الكبير للجدل، زياد الرحباني، والذي سوف يملأ خبرُه دنيا الناس بلا شك، ما بين مدح وقدح، وترحّم وتشفّ!، دون أن يستطيع هذه المرّة أن يردّ، وإن كانت أعماله وأقواله سوف تقوم بالمهمّة خير قيام.
نحو الشرق الفرنسي المثير
ها قد استيقظ كل أهل البيت وجهزوا في الثامنة، فحملنا العدّة من ملابس وشاي وقهوة وماء ودواء وغيرها، ثم من مناقيش ساخنة في أول الطريق، وانطلقنا برّا باتجاه مقاطعة كيبيك Québec، في الشمال الشرقي، والتي تبعد مسافة سبع ساعات ونصف من مسساجا، عدا أوقات التوقف للاستراحة.
الطريق طويل طويل يكاد لا ينتهي، وهو يخترق غابات ضخمة من الأشجار الكثيفة، ويحاذي أحيانا بعض الأنهار والبحيرات التي تقع في طرفها الآخر (الشرقي هنا) الولايات المتحدة.
أماكن التوقف هي محطات بترول كبيرة موحّدة التصميم تقريبا، فيها عدد كاف من حمّامات نظيفة ومحلات للطعام السريع والقهوة: برجر كنج وتيم هورتون وستاربكس وغيرها، وفيها دكان صغير وكوّة بنكية، تقضي حاجات معظم المسافرين في بلد يبدو فائق الترتيب.
ها نحن أولئك (زوجتي وابنتي وعائلتها وأنا) في العاصمة الفدرالية الكندية أوتاوا (أونتاريو) بعد مسيرة ست ساعات.
وبعد توقف عابر أمام مقهى جدرانه بديعة الألوان، حال كثير من الأبنية التي تبدو لوحات فنية، تابعنا القيادة نحو ساعة ونصف شمالاً باتجاه منتجع يقع بين غابات جبلية تحيط ببحيرة كبيرة، وتشكل جميعها لوحة بديعة ولا أجمل.
منتجعات مونت تريمبلانت الفاتنة المرتعشة! Mont Tremblant
تقع مدينة مونت تريمبلانت في جبال لورينتيان، على مسيرة ساعة ونصف شمال غرب المدينة الثانية في مقاطعة كيبيك مونتريال.
تبلغ مساحة المدينة الترفيهية نحو 235 كم²، وهي قليلة السكان نسبيا، لكنها كثيرة الزوار من كل الأصقاع، في الشتاء للتزلج على الثلج والتمتع بمباهج البرد، وله عشّاقه، وفي الصيف لقضاء وقت ممتع بين أحضان طبيعة ساحرة، وزوار يبدون من المرتاحين أو المنعّمين، كما تشي ملامحهم وتصرفاتهم، فالوصول إلى مثل هذا المكان أصلاً غير سهل، بكل المقاييس.
تعود تسمية المنتجع إلى قبائل السكان الأصليين الذين أعطوا الجبل اسمه بسبب الأصوات المدوية التي كانوا يسمعونها، ويعتقدون أن روحًا عظيمة تسكن الجبل، مما يسبب ارتعاشه، ومن هنا جاء اسم “سوتانا تريمبلينغ”. وكان في البدء قد أُنشئ محمية غابات عام 1894، ليصبح لاحقًا أول متنزّه وطني في كيبيك، وليتطور فيشمل الترفيه والسياحة.
وفي أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، أدرك رجل الأعمال الأميركي جوزيف رايان إمكانات التزلج في المكان، فافتُتح نزل مونت تريمبلانت عام 1939، وضمّ أول مصعد تزلج في أميركا الشمالية. هي بداية تحوّل مونت تريمبلانت إلى وجهة تزلج عالمية.
تبلغ مساحة منطقة التزلج 310 هكتارات (نحو 3 كم مربع)، وتضم أكثر من مئة مسار للتزلج على أربعة منحدرات.
ممشى جميل في حضن الجبال:
يقع المنتجع على ارتفاع 875 م، وتوفر جباله إطلالات خلابة على قرية المشاة الملونة النابضة بالحياة التي أنشئت في تسعينيات القرن الماضي. وهي تمتلئ بالمشاة من البلدان كافة، ومن كل الأعمار، يضيفون البهجة إلى المكان، كما يضيفها المكان إليهم، بأبنيته الجميلة ومحلاته ومطاعمه ذات الأصناف العجيبة ومقاهيه وحلواه (ومنها عجينة مخبوزة تغطى بالشوكولاته الساخنة، وشراب القيقب Maple Syrup فوق الثلج) وبوظته (الآيس كريم بأشكاله) وأنشطته السارة للكبار والصغار، في منطقة يمنع فيها دخول السيارات.
تذكرني هذه المناظر من جبال ومماشٍ ببلدة بلودان السورية، وهي منطقة مصايف كانت تغص بالسواح والزوار في العقود الماضية، ناهيك عن جوها البارد وثلجها في الشتاء، كما تذكر كثيرا بمصايف لبنان.
عربات التلفريك téléphérique الكهربائية المجانية في القرية تختصر المسافات، في رحلة ممتعة فوق المباني والفنادق وحقول الورد أشبه بالسحر.
على أن للمشي متعته في السوق، أو قل المهرجان لكثرة الأشكال والألوان.
كما أن الصعود إلى الجبل العالي تحد كبير. هذا ما فعلته وزوجتي صباح الأحد، نكتشف مع الصاعدين والصاعدات تضاريس المكان المخفية بالشجر الكثيف، نمشي على الأرض أو نصعد سلالم قصيرة، فإذا نحن وجها لوجه مع صخور الجبل البنية شبه القائمة، كأنها مقصوصة قصا، فيما تسيل من فوقها وجنباتها سيول مائية رائقة مصدرها ينابيع عالية على الأغلب. كان لا بد لنا أن نستريح قليلا على مقاعد متوفرة في عدة محطات، ثم نعود في رحلة أهون في النزول، وإن كانت تتطلب الحذر من الانزلاق.
وهكذا يُمثل تاريخ مونت تريمبلانت رحلةً مثيرة من جبلٍ عتيقٍ ذي سحرٍ خاص إلى منتجع تزلجٍ شهير، متداخلةً مع تطوير أول متنزه وطني في كيبيك وقريةٍ عصريةٍ نابضةٍ بالحياة، فيه 45 نوعًا من الثدييات، و206 أنواع من الطيور، و34 نوعًا من الأسماك، و14 نوعًا من البرمائيات، و6 أنواع من الزواحف، بالإضافة إلى 6 أنهار وأكثر من 400 بحيرة.

مع عائلة بيروتية في المنتجع
في أثناء تجوالنا نسمع أصواتا عربية كثيرة من لبنان وسوريا وفلسطين والمغرب وغيرها، لكن لا يكون المجال رحبا لفتح حديث.
إلا أننا صادفنا قبل ليلة المغادرة عائلة بيروتية لطيفة من بعبدا، يعمل عائلاها في الدوحة، فيما استقر أبناؤها في كندا، وكان سبب التعارف صورة أخذها ابنهم الشاب لي ولزوجتي، عندما لم نجد من يأخذها لنا، ليفتح حديث طويل، وتطرح تساؤلات مشروعة عن القدر الذي فرض علينا وعلى كثيرين من بلادنا الاغتراب الطويل، وفرض على أولادنا مصيرا مماثلا، دون أن نصل إلى جواب.
الجبل والجبل لا يلتقيان كما يقال، لكن معشر البشر يلتقون ولو في آخر الكون، وتتشابه الظروف، وتتوحد الرؤى.
وحتى شرق كندي فرنسي آخر، أرجو لكم أطيب الأوقات.
مسساجا 2 آب 2025






