السوق الحرة في مطار دبي اتساع وغنى
د. غالب خلايلي
ما إن حططْنا الرحال في “العين” بعد رحلة الشام (القصيرة المثمرة رغم بعض المتاعب)، حتى رحنا نعدّ العدّة خلال أسبوع لرحلة كندا المقررة سلفا، هروبا من صيف قاسٍ وعينٍ شبه مهجورة مع إجازة المدارس.
الحقائب شبه جاهزة من السفرة السابقة، فالإعدادات هي نفسها تقريبًا، عدا فروق بسيطة.
أزمة الهويّة في المطار
وصلنا مطار دبي بعد منتصف الليل بقليل (الإثنين 7 تموز 2025)، وقد بقي لانطلاق رحلة الإمارات EK241 إلى تورنتو ثلاث ساعات ونصف.
هذا الوقت معقول لمثلنا في مطار كبير جدا، لكنه يجري بيسرٍ وسلاسة أدقّ من الساعة السويسرية.
عند منطقة الوزن قابلتنا الموظفة “عذبة”، وكم كانت تشبه اسمها. أخبرتُها سلفاً أنها ستجد صعوبة مع “وثيقتي”، فاستغربت وابتسمت، وراحت تقوم بواجبها لتفاجأ بعد قليل بصحّة ما قلته.
حقيقةً، المشكلة ليست من سلطات المطار، بل من “الاعتبارات العالمية لتصنيف صاحب الوثيقة”.
المهم أن “عذبة” أجرت بعض الاتصالات مستوضحةً، لكنها لم تحظَ بجواب، حالها حال زميلتها التونسية قبل عامين (وتلك “احترقت” كي تحلّ لنا المعضلة، مشكورة)، فما كان من “عذبة” سوى أن حملت وثيقتي وذهبت بعيدا، لا أدري إلى أين، لتعود بعد ربع ساعة باسمةً وقد انتهى الإشكال.

كم كانت جميلة ورائعة حال أهل الإمارات. وهكذا ذهبت الحقائب إلى الشريط المطلوب، وذهبتُ وزوجتي إلى موظف الأمن العام لتسجيل الخروج (الذي لا يحدث إلكترونيا في مثل حالتنا)، وكم كان هو الآخر رقيقا ودمثا. وإذ ذاك توجهنا إلى الفحص الأمني قبيل الخروج إلى حرم منطقة السفر، وتم ذلك بيسر رغم كثرة المسافرين، لتوفر أماكن متعددة للفحص، فإذا نحن في المنطقة الحرة نعبرها باتجاه البوابة 9C، ويا للعجب من اتساع هذه المنطقة كأنها مدينة صغيرة فائقة الترتيب والجمال والنظافة والغنى بشتى المقتنيات التي قد يرغب بها أي مسافر، إن أراد أن يشتري أو حتى يتفرج أو يشمّ عطرا فاخرا بلا حرج أو يستريح في مقهى أو مطعم أو يذهب إلى أي من الحمّامات المنتشرة فائقة النظافة في كل وقت، ويا للعجب أيضا من خلق الله من كل البلاد والأشكال والألوان والأعمار واللباس والثقافات، تراهم جميعا مرتاحين، وعلى وجوههم علامات الرضا والاطمئنان اللذين نرجوهما لباقي بلادنا.
كل هذا، ونحن نسير في أجواء مماثلة ما بين أحزمة ناقلة ومشي على الأرض، ومن كان مرهقا أو مستعجلا فهناك ناقلات كهربائية تأخذه ومتاعه حيث يريد بالمجان، فالمسافة طويلة جدا، ولكننا فضلنا المشي، منه رياضة ومنه فرجة في مطار عجيب.
ها نحن أولئك أخيرا عند مدخل البوابة. زحمة متوسطة وتدقيق شديد على الداخلين وأوراقهم، حتى جاء دوري عند موظف فلبيني بدا لي طيب القلب (خلاف غير عربي لقيته قبل سنتين)، ورحت أنتظر حيرته لأمري، والذي حدث بعد قليل، وهنا أخبرته بحلّ المعضلة (الذي سوف أخفيه عنكم)، فانفرجتْ أساريره وشكرني، لنتوجه إلى قاعة الانتظار الكبيرة.

المناداة على فئات المسافرين وتأخر الإقلاع
قبل ثلاثة أرباع الساعة من الانطلاقة بدأت مناداة المسافرين. مضيفة صينية تصيح بأعلى صوتها (المزعج إلى حد ما): (ركاب الفئة الأولى، رجال الأعمال، حملة جوائز الطيران الذهبية والفضية، العائلات مع أطفال)، وتعيد ذلك دون تعب كلما جاء دور فئة جديدة (من A إلى D)، يمر بينهم ذوو الاحتياجات الذين عرّفوا بأنفسهم، وهكذا حتى جاء دورنا في E، فلما اقتربت من الصينية وجدتُ أنها ألطفُ مما يوحي صوتها العالي (وهذه حالي لو رفعتُ صوتي)، لنستقر بعد قليل في المقعد 65 وسط الطائرة الايرباص 380 من الجهة اليسرى. ومثل كل الرحلات إلى كندا، ومن أي مكان، كان معظم الركاب من الإخوة الهنود، فيما القلة الباقية من الأوربيين والعرب، وأغلب العرب فلسطينيون كنديون، وهذا ما صادفنا يمينا، شاب من بيت لحم (لوالدة أوكرانية تجيد الفلسطينية مثل أهلها) ويسارا لعائلة من الجليل، والمدهش أن الأخيرة كانت قريبة منا لعقود في العين دون أن نعرفها، والأكثر إدهاشا جلوس ثلاث بنات شقراوات في المقاعد التي أمامنا مباشرة، فإذا بهن بنات مندوب أدوية حمصي زارني في أول الأزمة السورية وأخبرني أنه سيخطب فلانة، ثم اختفى ومضت الأيام، وهاتيك بناته الكنديات.
لا أدري لماذا تأخر إقلاع الطائرة نحو ساعة وربع، دون توضيح، لتنطلق في الخامسة إلا ربعا صباح الإثنين.
أربع عشرة ساعة في الطائرة أمر غير سهل، ولكنها مضت بحمد الله بين غفوات وأحاديث ومطالعات (لأفلام أو أخبار على الشاشة أو قراءات)، والأهم لضيافات كريمة من إفطار وسناك وغداء، ناهيك عن شاي وقهوة وعصير.
على أن القصة لم تمر دون أن أمارس مهنتي، فالطفل الفلسطيني الأميركي الأشقر ابن السنتين والنصف جانبي بكى بكاء مرا، وكان السبب قيحا يسيل من أذنه اليسرى، بعد زكام، علما بأن والدته استشارت قبل السفر عدة أطباء في مستشفيات مشهورة في دبي، وعولج بالقطرات الأذنية حتى تفاقمت حالته، ونذكر للزملاء أن أنبوبين كانا قد ركبا في أذني الطفل قبل أشهر في الولايات المتحدة بسبب التهاب مصلي طال أمده.

العاري، رواية اغتراب كندي للأديب يوسف حطيني
كان من دواعي سروري أن أقرأ هذه الرواية التي لم تطبع بعد للأديب الدكتور يوسف حطيني، وقد أرسلها لي قبيل سفري. وتحكي الرواية قصة لاجئ فلسطيني اسمه مُسعد، درس الأدب الإنجليزي والترجمة، وتنقل بين مختلف بلدان المهجر، في فلسطين ذاتها ولبنان وسوريا وغيرها، يترجم، ويرى ترجمته خيانة للحقيقة، إذ تقتضي الأعراف الدبلوماسية ذلك، وانتهى به الأمر في نيويورك مترجماً في هيئة دولية. وإذ بقي يشعر بالخذلان والتقصير، قرّر أن يستقيل ويهاجر إلى أوتاوا الكندية، متعيّشاً من ترجمة الروايات العالمية المشهورة مثل 1984 وغيرها، مؤكدا أنه لو عاش في أي بلد عربي مترجِما لقضى جوعا. زمن الرواية أربعة أيام، ويبدأ جوّها من أوتاوا الباردة، إذ تذهب عائلة مسعد في إجازة إلى مونتريال، ويبقى الرجل وحده وهو الذي عاش في عزلة عن محيطه وعائلته منغمسا في عمله. وفي عزلته الأخيرة يقرّر خلع كل ملابسه (مشيرا إلى خلع حياة النفاق التي عاشها)، ويتنقل بمهارات روائية ساحرة، أجادها وهو الناقد المحنك، بين محطات عمره كلها، معتذرا عن إخفاقاته، ومتصالحا مع عائلته التي قصر معها، وعندما يحين موعد عودة العائلة من إجازتها، يرن أفرادها الجرس ولا من يفتح، وعندما تخلع الشرطة الباب (بسبب شكوى الجار الذي شم رائحة كريهة) تجد مسعد ميتا منتفخا، وتقدر أنه توفي منذ أربعة أيام.

في مطار تورنتو، بيرسون
وصلنا المطار في العاشرة والنصف صباح الإثنين، حيث عاد بنا الوقت ثماني ساعات عن دبي.
وفي المطار الكندي الأشهر، لكن دون مطار دبي بكثير، وكون المسح الإلكتروني لا يشملنا كالعادة، ترجّلنا إلى الأمن العام الصارم الذي لا يعرف معنى الابتسام، فترحمنا على من ظنناهم في الماضي أشداء:
– معك (كحول أو دخان؟ معك حشيش؟ عندك تأمين طبي؟ أموال؟ هدايا وكم قيمتها؟
-أين سوف تذهب، وهل ستزور مزرعة أو تقوم بشحن بحري؟
– كم سوف تقيم ومتى تعود؟

وما إلى ذلك.. وهو يقلب في الوثيقة طولا وعرضا، وشمالا وجنوبا، ثم يذهب بها إلى مكان ما، ويعود بعد قليل، ليضع ختمه ويسلمنا ورقة صفراء كي نناولها للواقف عند المخرج، وإذ ذاك تنفرج الأسارير بحرارة 27 وجو لطيف. ومن بعيد تلوح لنا ابنتنا ريم وابنتها الصغرى جوليا، وبعد اللقاء الحار مع باقة الورد، ودفع 30 دولارا لماكينة مواقف السيارات، تنتهي بنا الحال عبر شوارع مسساجا في البيت.
وحتى حلقة قادمة، كونوا بخير.
مسساجا. تورنتو، كندا
الثلاثاء 8 تموز 2025