من شابه أباه فما ظلم (غالب وخليل خلايلي)
د. غالب خلايلي
“أديش حلوة هالشيبة!”.
هكذا غنّى شجيّ الصوت الجبليّ وديع الصافي. لكنّ (الشيبةَ) لم تعدْ حلوةً عند جمهور كبير! ولم تعد (تنقّطُ حُسناً ولا هيبة)!، بل صارت اليوم – مع الأسف – عبئاً وعيباً، فراح أفراد المجتمع (الذكوري) يحاولون إخفاء أية شعرة بدأت “تكوّع” نحو البياض: ينتفونها، يصبغونها، يحرقونها، المهمّ ألا يراها مخلوق.
والحقّ أنني لا أدري سرّ هذا التبدّل العميق في تفكير مجتمعاتنا بخاصة، فقد اعتدنا قبل عقود على البياض المهيب عند… (الرجال). كان أمراً طبيعياً، لا بل إن معظمهم كان يفتخر بشعره الأبيض وشاربيه الفضّيين.
ترى هل غيّر (تطوّر) العصر ووسائل (التناتف) الاجتماعي سلوك البشر؟
بالتأكيد: نعم؛ فقد صار الاهتمام بالمظهر ركناً رئيساً في حياة الناس، ففرضوا على أنفسهم واجباتٍ ثقيلةً لم تكن ضرورية بالأمس. صار التظاهر الاستهلاكي (شكلاً وملبساً ومأكلاً ومسكناً ومركباً ومزاراً…) أهمّ أركان الحياة (ولو بالدّين)، يصوّرونه لحظة بلحظة على وسائط التناتُف. لم يعد للقيم الروحية والأخلاقية مكان. هذا كلُّه أضاف ضغوطاً نفسية تضافرت والقلق المقيم في تسريع المشيب.
ومع نعيق الغربان الغريبة في جبالٍ ووديان، وكثرة (الصدمات العصبية الحادة والهلع)، توقّفَ نشاطُ الخلايا الصباغية، وظهر الشيب أسرعَ من خيال. باتت عوامل الخلل الهرموني (كالعوز الدرقي)، والثعلبة (حاصّة الشعر)، والبهق (زوال اللون)، والحمّى، والتهاب الّلِثَة والأسنان المتكرر، والتعرّض للأشعة، واستخدام أصباغ الشعر والمساحيق الرديئة، وسوء التغذية (لاسيما بمواد تفرض ويروّج لها تجارياً) والهزال، ثانويةً في الشيب، ونال الضغط النفسي والوراثة نصيب الفهد، وأخطره ما نجم عن الذعر والهول والتوتر العنيف، مثلما حدث للإمبراطورة (ماري أنطوانيت) يوم قررت الثورة الفرنسية إعدامها بالمِقصلة (أكتوبر 1793)، إذ شاب شعرُها خلال ساعات، حتى إن الناس لم يعرفوها يوم التنفيذ (بالمناسبة لم تقلْ للذين لا يجدون خبزاً: “كلوا الكعك أو الغاتو”، هذا تلفيقٌ ليزيد غليان الناس من ملوك لا يشعرون بآلامهم) (1).
واليوم عدّت جامعة أكسفورد عبارة (تعفّن الدماغ Brain Rot) كلمة العام 2024، بعد تحليل 26 مليار كلمة من مصادر الأخبار العالمية الناطقة بالإنجليزية، مشيرة إلى الآثار النفسية والصحية السيئة (تدهور الحالة العقلية وضبابية التفكير والخمول الذهني وضعف الذاكرة) بسبب الإفراط باستخدام الهواتف المحمولة، سواء بملاحقة موادها التافهة، أم بالضوء الأزرق وقت العتمة قبل النوم وعند الاستيقاظ (2).
هذا بعضٌ من الجانب الطبي يا سيدي، ولا ننسَ أن نضيف إليه العمّ كوفيد وآثاره البائسة، مما نقرأ عنه جديداً كل يوم، فما هي الحال في الجانب الاجتماعي؟
أتردّدُ – إذ أصابك فتور – قول أبي العتاهية:
ألا ليت الشباب يعود يوماً
فأخبره بما صنع المشيب؟
أم تردّد قول الشاعر علقمة الفحل:
إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله
فليس له من ودّهن نصيب
إذا كنت تنفر من بياضٍ مبكر، وتسارع إلى إخفائه، فهذا خيارك يا سيدي، لا يلومُك أحد عليه، لكنك، على الأغلب، لم تسمع بمؤتمر مونتريال لانتخاب أجمل رجل أشيب، يوم حاز أنطوني كوين (توفي 2001) على مرتبة متقدمة في مؤتمر 2002، ونال ريتشارد جير المرتبة الأولى (2003)، وكذا عمر الشريف (2004)، وتلقى الكثير من التهاني لأنه لم يصبغ شعره.
فهل سمعت عن جاذبية الثعلب الفضي؟
يقال إن لكلمة الثعلب صفتين إيجابيتين: الذكاء والجاذبية، وعندما يوصف رجل بأنه ثعلب فضي Silver Fox، فالمعنى أنه رجل جذاب في منتصف العمر ذو شعر رمادي أو أبيض، وأول من أطلق عليه اللقب هو لاعب البيس بول الأميركي جيسي بيتي في عشرينيات القرن الماضي، لجمال شيبه المبكّر وحيوية شخصيته.
فإن مضى على اختراع الصبغة ثلاثة أرباع القرن، إلا أنها لم تفقد من الأسواق، ولا تزاحم العاقلون على صبغ شعرهم الأبيض، خاصة أن المشاهير أطروا الشيب:
-فهذا بيل كلينتون يقول: “تلتفّ النساء حولي رغم الشيب، كما لو كنتُ في سن العشرين”.
-وهذا عمر الشريف: “لم أصبغ شعري لأنني إذا فعلتُ، سأتحول إلى عبدٍ له فأتلوّن باستمرار”.
-وهذه سلمى حايك: “عندما يصبغ رجلٌ شعره يبدو أمامي كاللعبة مصطنعاً وغريباً”.
-وهذه باميلا أندرسون: “أشيبُ في الأربعين غامض، وتجربته معتّقة، سأحبه بجنون”.
-وتلحقها جنيفر لوبيز: “مع رجل أشيب، العلاقة في أوجها”.
-ثم نيكول كيدمان: “مع الأشيب الحياة أكثر دفئاً وحميمية، شرط ألا يكون طاعناً في السن”.
-وآشلي جود: “مع بعض خصلات الشعر الأبيض يبدو الرجل في موقع السلطة والقيادة”.
-وميشال بفايفر: “إذا عمد الأربعيني إلى صبغ شعره فسأنفر منه حتماً لأنه يحاول تقليد النساء”!.
والحقيقة، وإن قال المشاهير ما قالوه، هي: أنْ ليس كلّ بياض بياضاً، مثلما ليس كلّ سواد سواداً، ترجمة للمثل: (ما كلّ بيضاء شحمة، ولا كلّ سوداء فحمة). إن العناية والترتيب مع يُسْر الحال أمورٌ بالغة الأهمية، لكنّ الأهمّ هو جمالُ الشخصية والروح، وحُسن الحضور، والغنى الثقافي والعلمي، فهي التي سوف تطغى، ربما منذ البدء، فهل تتذكرون جمال نلسون مانديلا مثلاً بشعره الأبيض، ووجهه السمح، وشخصيته النادرة؟ ماذا لو صبغ شعره؟
أمثلة كثيرة على بياض جميل، تقابلها أمثلة معاكسة عند زعماء وزعيمات، صبغوا شعرهم ومشاعرهم، حتى لم تعد تعرف لهم لوناً.
أما عني، كاتب المقال صاحب البياض المبكر جداً، فلا أرى في الشيب ضيراً، بل أرى العبوديةَ في التلوّن كما رأى عمر الشريف، والخطرَ المحدقَ كما رأى أطباء:
–جزء منه جلدي فجَهازي (أي يؤثر على أجهزة الجسم) يتعلق بالأصبغة الضارة واستعبادها لمستخدمها.
–وجزؤه الأهم نفسي، عندما لا يثق المرء بنفسه أو بمقدراته، ولا يقدّر جمالَ عمره (أو كما يقال: غير متصالح مع نفسه)، فيُستمال إلى التعليقات السخيفة.
* * *
ربما سمعتَها يا صاحِ مثلي كثيراً بأن “الشيب ظلمنا مبكراً”.
هذا وارد عندما يكون اللون جُلَّ اهتمامك، لكنه ليس الظلم الأهمّ في الحياة، فهناك مظالم لا تحصى، ولا يستطيع المرء البوح بها إلا في أحلامه، فهل وقف الأمر عند شعرٍ أو لونٍ لا يقدّم – عند العاقل – شيئاً ولا يؤخّر؟
وهأنذا أبوح لكم بمكنونات قلبي، مثلما بحتُ لكم في الماضي بكثيرٍ مما قد يؤرّقكم، في مهمّةٍ أرى أنها الأسمى.
وأخيراً أذكر لكم هذه الطرفة الحقيقية: ففي ذات مؤتمر طبي كبير، صعد الأستاذ الكبير المخضرم إلى المنصّة، ببشرته البنية الغامقة، وشعره الفاحم كالليل في غياب القمر والنجوم، فسألت رئيس المؤتمر الجالس قربي (وقد ترَكَنا مهاجراً إلى كندا منذ سنوات):
- ما بال الكبار اليوم لا يبيض شعرهم أبداً؟
ضحك صاحبي (صابغ شعره أيضاً) وقال لي:
- يبقى بياض الشعر أهون بكثير من زواله، فلي زملاء كثيرون لا يمشطون شعرهم، إذ يخشون خسارة آخر ما بقي منه مع آخر (ضربة) مشط.
العين في 9 كانون الثاني 2025
هوامش:
- راجع مقال ( أقوال مأثورة لم يقلْها أصحابها، الخليج 14/2/2009. ) للكاتب المرحوم أبو خلدون (صالح الخريبي).
- أول ذكر لمصطلح تعفن الدماغ Brain R ورد عام 1854 في كتاب والدن Walden للكاتب هنري ديفيد ثورو Thoreauوصف فيه تأثير الحياة البسيطة على العقل (تراجع فكري عام). ليت ثورو عاش إلى يومنا (موقع أوكسفورد).