المواد الغنية بالكافيين ومنها الأدوية
د. غالب خلايلي
هناك حديث قديمٌ متجدّد عن فوائد القهوة ومضارّها، تبعاً لنوعها وما استهلك منها. وقد قيل إن الاستهلاك المعتدل (نحو 3 أكواب يومياً) يخفض خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية، والداء السكّري الكهلي، وسرطان الكبد، وباركنسون وحتى ألزهايمر، ومن ثم التمتع بعمر أصحّ وأطول. أما الخبر الجميل فهو أن منظمة الصحة العالمية أزالت القهوة من قائمة المُسرطنات في عام 2016 !… (1-3).
الكافئين هو الخصم والحكم:
والكافئين (ثلاثي ميثيل الكزانثين) هو مركّب عضوي آزوتي قلوي مرّ الطعم عديم الرائحة، نجده في الشاي والقهوة والمتّة وجوزة الكولا والكاكاو. والشكل النقيّ منه مسحوق أبيض أو إبر حريرية الشكل، تذوب في درجة 238 م (460 ف)، ليشتد ذوبانه في الماء الساخن؛ ويقلّ في المذيبات العضوية، ويتبلور بالتبريد مترسباً باسم أحادي ماءات الكافئين.
ومقدار الكافئين في البُنّ المطحون بين 0.75 – 1.5% من وزنه. ونجد في كل كوب من القهوة نحو 100 ملغ. ويختلف محتواه في الشاي حسب التركيز، مقارباً 40 ملغ، فيما تحتوي عبوة الكولا سعة 350 مل على 40 ملغ.
- والكافئين منشط للجهاز العصبي المركزي (بمنع ارتباط الأدينوزين بمستقبلاته) فيحسّن الأداء الحركي، ويقلل التعب، ويعزز النشاط الحسّي واليقظة. وهذه الآثار الجيدة تفسّر اعتماد البالغين على القهوة عند الاستيقاظ. كما أن الكافئين ينشط التنفس ليكون ترياقاً في حالات تثبطه (بسبب جرعة زائدة من المورفين أو الباربيتورات مثلا، ومن هنا يستخدم عند الخدّج الذين يعانون نوب توقف النفس Apnea). كما وينشط القلب والأوعية الدموية والكلى، ويدر البول.
- إلا أن للإفراط بالقهوة والكافئين آثاراً سلبية مثل التهيج، والعصبية، والقلق، والصداع، والأرق، والتوتر، والمعص العضلي، وحرقة المعدة (الناجمة عن فرط إفراز الحمض)، كما يخشى من الإدمان (والصداع عند التوقف عن الكافئين)، وضعف العظام نتيجة ضعف امتصاص الكلس (وما يتلو ذلك من كسور عند المسنين)، والتفاعل مع بعض الأدوية مثل دايبيريدامول الذي يمنع تجمع الصفيحات (ومن ثم يقي من الجلطة).
- ملاحظة مهمة لا بد من ذكرها وهي غنى بعض المسكنات بالكافئين دون معرفة المريض مثل الباراسيتامول بلس إذ تحوي كل حبة 65 مغ كافئين، يشرب الشخص حبتين أو أكثر فيغيب النوم من عينيه.
- تُعدّ القهوة مصدرا مهمًا لمضادات الأكسدة المسماة بوليفينولات (وأهمها الحموض المولدة للكلور CGAs)، والتي نجدها في الشاي والكاكاو وعدد من الفواكه والخضراوات فتعطيها لونها ونكهتنها. وهي تساعد في خفض ضغط الدم، وزيادة تدفّق الدم إلى الدماغ، وقد تحمي من النوبات القلبية والدماغية والخرف والسكري كما وتحسن صحة الأمعاء. تشكل البوليفينولات جزءا كبيرا من وزن القهوة غير المحمصة، ولهذا يؤثر نوع القهوة وطريقة تحضيرها على محتواها منها. ويطلق التخمير بالماء الساخن بوليفينولات أكثر من التخمير البارد. ومع أن البوليفينولات مفيدة، إلا أن الكافئين ودهون القهوة غير المفلترة قد تُقلل من فائدتها.
وبحلول منتصف ثمانينيات القرن العشرين، أصبحت القهوة منزوعة الكافئين متوفرة على نطاق واسع، مما أتاح للمستهلكين خيار تنظيم استهلاكهم له مع الاستمرار بمتعتهم. ويزال الكافئين من البن في مرحلة الحبوب الخضراء قبل التحميص، لكن بغض النظر عن الطريقة، لا تكون القهوة خالية تماما منه.
الكافئين في القهوة والشاي والشوكولاتة تُبعد عنك الزهايمر!
وفقا لدراسة فرنسية جديدة نشرتها مجلة Science Alert العلمية، فإن تناول كمية متوسطة إلى كبيرة من الكافئين يومياً يرتبط بانخفاض خطر الإصابة بألزهايمر إذ يقلّل مستوى البروتينات المرتبطة بالخرف في السائل الدماغي الشوكي. جاء ذلك بعد الاطلاع على بيانات 263 شخصاً، تفوق أعمارهم 70 عاماً، ممن عانوا ضعف الإدراك أو مرض ألزهايمر. وقد صوّرت أدمغتهم بالرنين المغناطيسي، وجمعت عينات من الدم والسائل الشوكي، فتبين أن استهلاك أكثر من 200 مغ من الكافئين يومياً، خفّض خطر تدهور الإدراك وضعف الذاكرة مرتين ونصف أكثر ممن تناولوا كميات أقل. ومع ذلك، حذَّر الفريق من الكافئين في وقت متأخر، فقد يؤثر على النوم؛ وعلى الأداء العصبي على المدى الطويل. كما أشار إلى أن الإفراط بالشوكولاتة ومشروبات الطاقة يزيد مستويات السكر بالدم، ويعرّض الصحة الإدراكية للخطر (4).
القهوة “المفلترة” أفضل للقلب
يستهلك العالم أكثر من 2.25 مليار كوب من القهوة يومياً. وفي دراسة حديثة لجامعة أوبسالا السويدية تبين أن معظم طرق تحضير القهوة ترفع التربينات diterpenes (الكافيستول والقهويول Cafestol and Kahweol) والتي ترفع بدورها البروتين الدهني منخفض الكثافة LDL الضار للقلب والشرايين.
وأعلى مستوى لهذه المواد الضارة نراه في الإسبرسو ( نحو 2500 مغ كافستول/ اللتر). وفي ذلك قال المؤلف ديفيد إيجمان: “درسنا 14 آلة قهوة، ولاحظنا أن مستويات هذه المواد أعلى بكثير مقارنةً بالآلات التقليدية التي تعمل بتقنية الترشيح بالتنقيط”. فالقهوة المغلية (التركية مثلاً) تحتوي على مستويات عالية من أسوأ هذه التربينات، علما أن ورق الترشيح يزيل هذه المواد. وللتوضيح يقال: إن تأثير التربينات يُعادل إضافة 60 مل من الكريمة كاملة الدسم 40% إلى كل كوب من القهوة المُفلترة ورقيا. وقد سبقت هذه الدراسة دراسة نرويجية عام 2020 استمرت 20 عاما، وبينت أن تناول القهوة غير المفلترة يرتبط بارتفاع خطر الوفاة بأمراض القلب (5).
المورّثات وراء هوسنا بالقهوة
القهوة، ذلك المشروب الذي لا يتخيل بعضهم أن يبدأ يومه بدونه، من أجل التركيز والتغلب على النعاس، قد يحرم آخرين من النوم بسبب التوتر والأرق. وينطبق الأمر ذاته على الشوكولاتة، تلك الحلوى السحرية التي يعشقها الملايين. هذا دفع الباحثين إلى إجراء دراسات عن الصلة الغريبة التي تجمع حاسة التذوق والمورّثات، فوجدوا أن اختلاف الأذواق في الطعم يعود إلى التباين المورثي بين فرد وآخر، وهو أحد العوامل الرئيسية التي تؤثر على اختيارات الطعام والشراب.
وجد أيضاً أنّ الكافيين لا يؤثّر بالطريقة ذاتها على كل الناس، فهناك مَن يكفيه كوب من القهوة، وهناك مَن يشرب كوبين أو ثلاثة ليحصل على النتيجة ذاتها. كما أن بعضهم يستسيغ مرارة القهوة السوداء ولا يتذمّر منها، في حين يتلاعب بعضهم بالمذاق بإضافة الحليب أو السكر.
وقد شاركت أستاذة الطب الوقائي بجامعة نورث وسترن شيكاغو، مارلين كورنيليس، في دراستين:
- الأولى نُشرت في مجلة Nature عام 2018، وتشير إلى أن دور التذوق في إدراك المذاق المُرّ مهم في معرفة ما إذا كانت القهوة ستصبح من مفضلات المرء. وقد فحصت 1757 فرداً من التوائم المنحدرين من أصل أوروبي، لتشابه تركيبتهم الوراثية. وطُلب من المشاركين تقييم مرارة الكافيين في القهوة، فلاحظ الباحثون متغيرا مورثيا يجعل بعض الأفراد يشعرون بمرارة القهوة أكثر من غيرهم. لكن، إن ظننت أن الأشخاص الحساسين لمرارة الكافيين سيشربون كميات أقل، فإن الجزء الثاني من الدراسة سيخيب ظنك. إذ استخدم الباحثون في هذا الجزء بيانات من البنك الحيوي في المملكة المتحدة UKB، ووجدوا أن من لديهم إدراك أكبر لمرارة الكافيين أكثر انجذابا فطريا للإفراط في تناول القهوة.
- الثانية نُشرت بمجلة Nature أيضا عام 2021، وقد توسعت في البحث وأخذ الفروق التي تفصل بين متناولي القهوة في الحسبان، وجاءت النتائج مفاجئة؛ فالأشخاص الذين يفضلون قهوتهم سوداء، غالبا ما تكون أجسادهم أقدر على التمثيل الغذائي للكافيين وهضمه أسرع من الذين يتلاعبون بمذاق قهوتهم عن طريق التحلية أو إضافة الحليب.
تقول كورنيليس: الأشخاص الذين لديهم هذه المورثة يفضّلون القهوة السوداء لأنهم يربطون النكهة المُرّة بزيادة اليقظة الذهنية التي يتوقون إليها. والأشخاص الذين لديهم متغير مورثي يخفض تمثيل الكافئين يستهلكون قهوة أقل. وخلصت الدراسة أيضا إلى أنّ تفضيل القهوة السوداء أحد السمات الجيدة التي تدفع الأفراد نحو خيارات صحية أفضل، بتقليل الإصابة بأمراض القلب وباركنسون والسكري والسرطان.
لماذا لا يستطيع بعضهم مقاومة الشوكولاتة؟
على غرار الأشخاص الذين يفضّلون قهوتهم سوداء، هناك من يميل إلى تناول الشوكولاتة الداكنة، على الرغم من مرارتها المنفّرة. وتلك الشوكولاتة تحتوي بعض الكافئين، وقدراً أكبرَ من الثيوبرومين المنبه للجهاز العصبي! ولهذا فإن تناول قطعة صغيرة من الشوكولاتة الداكنة مفيد لما يحتويه الكاكاو من مركبات مضادة للأكسدة وتحسّن تدفق الدم، ولكن يُنصح بعدم الإكثار منه لما يسبّبه من تسرّع القلب.
أما اختيارُك للحلوى المفضّلة فيُعَدُّ سلوكا مكتسباً يعود إلى سنوات النشأة!
هذا أسميه في طب الأطفال (اصطياد الذوق) الشائع جداً بسبب سواد عادات (وحديثاً دعايات) تتغلب في النهاية على آراء أهم الأطباء. أصلاً أهمية الأطباء انقلبت مع الأسف في المفاهيم التجارية الحديثة!.
ويكون اصطياد ذوق الرضيع بإعطاء أغذية حلوة، فلا يقبل بعد ذلك غيرها، إذ تعوّد عليها، لا بل قد يترك حليب أمه. على أن فريقاً بحثياً فحص مورّثات أكثر من 6500 شخص من الدانمارك شاركوا في دراسة علمية كبيرة حول أمراض القلب، من أجل معرفة الصلة بين الإدمان على السكريات والوراثة، وخلصت الدراسة إلى وجود متغيرين في مورثةFGF21 يتسببّان في ميل الأشخاص للاستمتاع بتناول الأطعمة السكرية وإدمانها بنسبة تصل إلى 20%.
لكن ماذا عن إدمان بعضهم للشوكولاتة بالتحديد؟ المثير للاهتمام أن الاختلافات في المورثة المسؤولة عن تنظيم “هرمون السعادة الأوكسيتوسين” مرتبطة بكمية الشوكولاتة المستهلكة، والأوكسيتوسين جزء من نظام المكافأة في الدماغ، وقد افترض الباحثون أن مستوياته المنخفضة تحفز رغبة (التشكلط) في محاولة للحصول على الشعور اللطيف.
يتبع….
العين في 15 أيلول 2025
هوامش:
- القهوة، الحلقة الأولى https://taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalayli-coffee-benefits/
- القهوة، الحلقة الثانية https://taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalayl-coffee/
- القهوة، الحلقة الثالثة https://taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalayli-coffee3/
- مجلة تأمين ومصارف https://taminwamasaref.com/?p=57875/
نُشرت الدراسة في مجلة التغذية، والتمثيل الغذائي، وأمراض القلب والأوعية الدموية. المصدر: جامعة أوبسالا https://www.doximity.com/newsfeed/dcf4ee6a-4c73-4578-ac3e-f916b1ab7e31/public/
