هل ينقذ طبيبا شديد الإرهاق؟
د. غالب خلايلي
للقهوة مع الأطباء قصةٌ متعدّدة الأوجه، لكنّني سوف أركّز على وجه واحد منها ألا وهو احتساؤهم لها في الليل كي يبقَوا ساهرين، سواءٌ أكانوا يقومون بواجباتهم في العناية المشدّدة وغرف العمليات، أم يقضون مناوباتٍ تكاد لا تنتهي في أي مكان، لا سيما مع ازدياد الضيم الذي يلحق بالأطباء عموماً، والصغار خصوصاً، من أجل التوفير في طبّ غدا مادّياً بحتاً (بزنس) يجلد كثيراً من مرضاه بلا شفقة (1-4).
لكن ما الذي يجعلني أتحدّث عن القهوة والأطباء وهي لا تخصّهم وحدَهم؟
إنها ذكرياتُ الإرهاق والتعب في بدايات اختصاصي، ثم في عملي الطبي، حيث كنتُ ألاقي عَنَتاً هائلاً، مثل معظم الزملاء، خاصة في أمراض الأطفال والنساء وجراحة الأطفال، فكانت القهوة “التركيّة” سميرتَنا في أوقات الشدة، وهذا أمرٌ لم يكن يحتاج إلى (فَرَمان) من أحد، فهو معروف، لكنه أصبح ذات يوم في أستراليا توصيةً حكومية، إذ أصدر مسؤول الصحّة في ولاية أرض الملكة (كوينزلاند، شمال شرق أستراليا) مذكّرةً توصي الأطباء المرهقين بتناول ستة أكواب من القهوة يومياً (400 ملغ كافئين) للبقاء مستيقظين، وجاءت تلك المذكّرة بعد إفادة خلاصتها أنّ مرضى المستشفيات العامة يموتون بسبب أخطاء الأطباء المرهقين الذين يُجبرون على العمل نحو ثمانين ساعة أسبوعياً بلا راحة!..
ثمانون ساعة؟! رهيبةٌ لمن لا يعرفها، لكنها أهونُ من ظروف عمل بها أطباء تسعين ساعة أسبوعياً (حتى في الأعياد والإجازات دون مقابل) وأعينهم لا ترى النور الطبيعي، وأدمغتهم تنعجن كما لو كانت في عجّانة، فيقع من يقع منهم غصباً عنه وهو يمشي كالسكران، يتطوّح ذات اليمين وذات الشمال، أو تقهره غفوةٌ بين مريض ومريض، والمحظوظ منهم من يغطّ في نوم عميق ولا يفيق ولو انفجر لغمٌ قربه (لا يخلو الأمر من العواقب)!. وهنا تستعيد ذاكرتي يوماً كنت أرى فيه مريضاً جاء في نهاية 36 ساعة متواصلة من عملي (سنة أولى اختصاص) لإدخاله إلى قسم الأمراض العامة، فغفوتُ فوق سرير المريض وأنا أكتب المشاهدة، وكان أن جاء زميل أكبر ورأى المشهد، فنزع الورقة وخبّأها، وكتب غيرها. ترى هل كنت شبحاً مسحوراً أكتب وأنا نائم، وماذا خربشت؟ الله أعلم!. كما أتذكر أياما أخرى تمشّينا فيها وعدد من الزملاء من مستشفى الأطفال إلى كلية التربية القريبة لحضور دروس اللغة الإنجليزية. لم يكن من وقتٍ ممكن للذهاب إلا في نهاية المناوبة، فكنا إذا ما وصلنا إلى قاعة الدرس ونعمنا بالدفء، ترنّح أغلبنا أو غطّ في نوم عميق حارت معه المدرّسة اللطيفة كيف تتصرف!.
عودة إلى أستراليا، إذ لم يمرّ الأمر الأسترالي دون تعليق من قبل نائب رئيس الرابطة الطبية الأسترالية وقتها س. هامبلتون والذي قال: [إن اكتفاء الإدارة الصحية بالقول للطبيب المرهق: “اذهب وتناول فنجان قهوة” يرخّص القضية برمّتها، فنحن نتحدّث عن قضايا خطيرة، وهذا اقتراح غير جدّي إطلاقاً، فليس من الضعف أن يقول الطبيب المرهق: إنّني منهكٌ كالكلب (عافاكم الله)].

هذا وقد رصدت دراسات مختلفة استهلاك القهوة عند الأطباء وعمال الليل. ففي دراسة بعنوان (الطب الأسود Black Medicine) نشرتها المجلة الطبية البريطانية BMJعام 2015، رُصِد استهلاك القهوة عند 766 طبيباً من مختلف التخصّصات في مستشفى سويسري تعليمي كبير، عام 2014. ووجد وسطياً أن كل طبيب استهلك في عمله سنوياً نحو 90 كوب قهوة، مع تفوق جراحي العظام ثم أطباء الأشعة بشراء أكبر كمية، فيما اشترى أطباء التخدير أقل كمية. كما تفوّق الكبار على الأطباء المبتدئين (هل للمادة أو الوضع الاجتماعي دورهما؟)، وكذا الذكور على الإناث (5). وفي دراسة أخرى تبحث عن الاختلاف بين عمّال الليل والنهار في استهلاك الكافئين، تبيّن أن عمال الليل يستهلكون الكافئين أكثر بعد انتهاء المناوبة مقارنةً بعمال النهار، هؤلاء الذين يستهلكون كمية أكبر مقارنةً بزملاء الليل. وكان أعلى استهلاك خلال ساعات الصباح عند الفئتين، بغرض مواصلة بقية اليوم.
والمؤسف أن أخذ قيلولة أو غفوة ليست خياراً عملياً عند كثيرين، مع أنهما الأفضل (6).
***
شخصياً كنت عارفاً بمزايا الشاي وقتاً طويلاً قبل أن أتعرّف إلى فضائل القهوة!..
وحدث ذات يوم أن أدهشني صاحبي (س) في دراسة الطب عندما أخبرني في عام 1980: إن مزاج والده الصناعي الكبير تعكّر تماماً في أحد المطاعم الدمشقية المعروفة، بسبب فنجان قهوة!. وفي وقت آخر أخبرني بأدب، عندما قدّمت له في البيت فنجاناً لم ينل إعجابه (ربما اختلط برائحة البهارات): “يبدو أنكم لا تشربون القهوة كثيراً”.
كان الزميل محقّاً كما استنتجتُ بعد أقل من عقد، إذ كنّا بالفعل من أهل الحليب والشاي إلا ما ندر، لكنّ حديثَه في ذلك الوقت بدا بالنسبة لي مثل (الهندسة الفراغية) عند طالب مستجدّ في المدرسة الإعدادية، والمعنى أنه: هل يستوعب شخص مقبلٌ على الحياة بلا قهوة معنى هذا الحديث؟
في السنة الأولى من اختصاص طُبّ الأطفال (مستشفى الأطفال بدمشق)، كان نصف كغ من القهوة أحد المخصّصات الشهرية لكل طالب دراسات عليا، وكنتُ أتنازل عن حصتي طوعاً لزملاءَ عشقوها، أيام التعب المضني، وكنت أشاركُهم أحياناً بنصف فنجان، إذ لم يرُق للزملاء سوى الشرب بفناجين كبيرة.
أقول: كان تعبُنا في تلك الأيام (أسطوريّاً) ومحسوباً. طاسة ودايرة…
لم نعِ يوم جئنا في العاشر من الشهر العاشر 1984 إلى المستشفى (نستطلع أحواله) قولَ زميلٍ أكبر: “احمدوا الله أن الوقت لم يحنْ بعد لالتحاقكم. اذهبوا وناموا طويلا، وانظروا إلى القمر، لأنكم لن تروه بعد ذلك”!. لكن بعد 20 /10/1984، وقعتِ الفأسُ في الرأس، وعرفنا المعنى الذي رمى إليه الزميل.
في الليلة الأولى لم أعرف طعم النوم مع مريض مُفلِسِ الكبدِ والسكّر والضغط تماماً، فيما أراد معلّمي (قطع رأس القط في ليلة العرس) بأن سلّمني مسؤولية رفع السكّر والضغط بمراقبتهما كل ربع ساعة والتصرّف تبعاً لذلك (وكان يعرف أن ذلك مستحيل)، والواقع أن الذي ارتفع سكّره وضغطه وانقلبتْ معدتُه (وقطع رأسه) هو محدّثكم.. وكان الدرس الأول.
ومع كل قسوة الدروس التالية خلال أيام سنةٍ كبيسةٍ لم أتعلّم شرب القهوة، لا بل رأيت أن إصابتي آخر العام بالتهاب الكبد الحاد (مع ما يسبّبه من تعبٍ خرافي وأوجاع وقَمَهٍ مطلق يجعل القهوة والدخان وأية روائح أموراً كريهة) أهونُ من الاستمرار في عملٍ مرعبٍ بالمقاييس جميعها.
حقاً، جنينا في الختام فوائد عملية عظيمة، لكن أما كان جنيُها ممكناً بطرق أحلى؟ الله أعلم.

ثم جاءت السنة الثانية بعد راحة شهر، وبدأتْ عسيرةَ المخاض من أوّلها في دار التوليد الجامعية (قرب وكالة أخبار سانا في البرامكة)، حيث قضيتُ نحو شهرين وحيداً هناك، أتحمّل ضجيج مستشفىً لا يكلّ ولا يملّ من الولادات الصعبة بأنواعها، والصراخ المستمر من قبل المريضات والأطباء والممرّضات، ناهيك عن قيصريات الليل، وكأن الله لم يخلق الليل إلا للقيصريات، حيث يتبارى بعض الأطباء بزيادة أرصدتهم من هذه العمليات (وفي الحياة العملية بعد التخرج لزيادة أرصدتهم المصرفية)(5)، أما الحاضر الأهمّ والذي يُحَمّل مسؤوليةً كبيرةً وحده أو مع طبيب التخدير فهو طبيب الأطفال، فما جدوى كل الحمل وتعب الولادة إن لم يأت الوليد معافىً؟ إن لم يأت مثل الليرة (الذهب طبعاً، ويا لتوحّش الذهب اليوم!) فالمتهم هو طبيب الأطفال، لأن الجراحين لا يخطئون!
ولهذا إذا صرخ الوليد أحسَسْنا أن صراخه أروعُ موسيقى في الوجود، وإذا بقي صامتاً فكارثةٌ فوق كارثة استيقاظ الليل بطوله.
هنا كانت القهوة رفيقةَ وحدتي، حتى أَصاب عضلاتي (المَعْص)، وهو الألم الممضّ الذي يجعل العضلات ترتعش وترقص بلا موسيقى، ويجعل الدماغ متنبهاً كأن به مصباحاً منيراً بغير كهرباء.
وكان من نتيجة ذكرياتي الولادية أنني لم أعد أتخلّى عن حصّتي من القهوة لأحد، فقد أدمنتُها.
لا بد أن للقهوة معكم -أعزائي- ذكرياتٍ كثيرة، خاصة إذا كنتم من عشّاق ما أمقته أشد المقت (التدخين). ولعلّ أخطرَ ذكريات القهوة، ما خطر ببال زميلٍ من تفكير صبياني، يوم وضع في ركوة القهوة حباتٍ منومةً تكفي لنوم جمل، ليأتي زميلٌ آخر في غفلةٍ عن المُعِدّ للمقلب ويجد الركوة جاهزةً فيشربها كلّها، كأنّه متعطش إلى الصحو، فبقي نائماً يومين، ولولا أن سلّمه الله لدخلنا كلنا في حيص بيص.

ملاحظة ختامية لهذا الجزء:
في تسع سنوات من دراسة الطب ثم الاختصاص لم يحدث مرّة واحدة أن تناولنا فنجان قهوة أو حتى كأس ماء مع أي من الأساتذة أو حتى المعلّمين في أية مناسبة. كان بيننا وبين معظمهم جدارٌ عالي الأسوار كأنّه جدار برلين (؟!). يمكن تفهم ذلك في مرحلة دراسة الطب مع الأعداد الكبيرة للطلاب (كنا بالمئات)، لكن لا يمكن فهمه مع أعداد أقل في مرحلة التخصّص والتي سوف تنتهي بتخرّج زملاء مختصين في الحقل نفسه. هذا الجدار قد يفسّر تمرّد بعض الخرّيجين عند تحرّرهم وخروجهم من عنق الزجاجة، كما يفسّر توارث بعض زملائنا اللاحقين لهذا السلوك المقيت، والذي أحمد الله أنني بعيد عنه.
غير أن بعض الثغرات في الجدار تبعتْها بعد التخرّج صداقاتٌ جميلة مع أساتذة رائعين عزّ مثيلهم، أقول اليوم: رحم الله من صار منهم في دار الخلود، كم نفتقدهم ونفتقد أمثالهم، وحفظ لنا من بقي حياً متواضعا.
***

تخرّجت وسافرتُ 1988، وانتقل الحبّ أو قل الوسواس (القهري) للقهوة معي إلى مغتربي، بسبب شدة الضغوط، لتصبح حبيباتُ القهوة الجاهزة ملاذ الأطباء الأول في العمل، ولتصبح القهوةُ قصّةً كبيرة، لها طبيب مسؤولٌ يجمع المال كل شهرٍ من الزملاء (وهم من بقاع الأرض)، ويشتري لوازمها من أكواب وسكّر..، فيما بقيت القهوة التركية (التي يصعب الحصول على نوع جيد منها مثلما كان الأمرُ في شام زمان) تلازمنا في بيوتنا وبيوت أصدقائنا النادرين، عندما تسمح الفرصة، ونصحو من تعب المناوبات.
أتذكّر ليلةً ليلاء فحصتُ فيها أكثر من أربعين طفلاً أرسلوا من القسم الذي لم يكن يعرف غير التحويل (قسم الطوارئ)، هذا عدا عن متابعتي للأطفال المرضى في أقسام الأطفال وحديثي الولادة والولادات بأنواعها، والموزّعة على عدة طوابق، في ليالي المفاجآت السعيدة!، وقد اعتادت ممرضات الليل على رؤيتنا نركض في (الكوريدورات) وننزل الأدراج أو نصعدها بخفّة الغزلان (الله على تلك الأيام!). ليالٍ لا تعرف كيف تخلص نفسك بها، خاصة مع الأهالي المضطربين الواقفين قربك، ولا مع إسعاف طارئ مثل قيصرية أو طفل غريق، أو حتى نوبة غضب مفاجئة لأهل مريض مستقر، لكنه لم يكمل وجبة البرغر مثلا.
وأنا حتى اليوم – وقد صرت في الخامسة والستين – أرى في المنام كابوسين مرعبين يرهقان أعصابي تماماً:
- أولّهما أنني ذاهبٌ إلى امتحان الثانوية العامة، وقد استيقظت بعد انتهائه.
- والثاني هو عودتي إلى قسم الأطفال مناوباً بعد إجازة، ثم أفيق وأتنفّس الصعدااااء.. وأنا أقول لنفسي: الحمد لله، لقد استقلتُ من زمااااان، من عمل المستشفيات والمناوبات.
بالطبع هناك هموم جديدة، وكوابيس طارئة، يتمنّى المرء معها أنه لو لم يدرس الطب، إذ لم تعدْ تلك المهنة المشرِقة، ولا بقي الطبيب فيها الشخص الأهمّ، بل هو ثانوي جداً مع سيطرة التقنيات وتنامي المؤسّسات الكبيرة التي تبلع المنشآت الصغيرة، ناهيك عن تحدّيات جدّية في صميم الصحة الشخصية والحياة.
ولهذا فإن القهوةَ (ويا للعجب كيف لم نفكّر بقطعها أو حتى بعكسها!) ما زالت تلازمنا صباح مساء، وكلما عنّت على البال، علّها تفرّج همّنا، وإذا لم تكن مضبوطةً (مزبوطة) بمقاييس ميكرونية – ويا للعبودية – خرب المزاجُ أيّ خراب.

يتبع….
العين في 17 أيلول 2025
هوامش:
- القهوة، الحلقة الأولى https://taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalayli-coffee-benefits/
- القهوة، الحلقة الثانية https://taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalayl-coffee/
- القهوة، الحلقة الثالثة https://taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalayli-coffee3/
- القهوة، الحلقة الرابعة https://taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalayli-coffee-4/
- الطب الأسود: https://www.bmj.com/content/351/bmj.h6446
- https://thoracicandsleep.com.au/blog/caffeine-intake-in-shift-workers-comparing-day-to-night-shifts/
يعرف معظم الناس والأطباء رواج العملية القيصرية بديلا للولادة الطبيعية، لأسباب مادية، وأخرى تفاخرية غبية، وأذهلني حديث نقيب أطباء مصر مؤخراً عن ارتفاع نسبة القيصريات إلى 73% من الولادات عام 2023. ولفت النظر إلى أن للقيصرية مخاطرها، ومنها ارتفاع نسبة التوحد ثلاث مرات.