القهوة في العالم أشكال وألوان
د. غالب خلايلي
لقهوتنا الكلاسيكية (التركية!) في النفس شجون، ولها تاريخ طويل يضيء في الذاكرة قصصاً وحكاياتٍ كلّما فاحت رائحتها المغرية في أيّ مكان. ووصفتُها “الشاميّة” مطورة عن قهوة البدو الشمالية التي يسمّيها أهل الشام (قهوة عربية) أو (قهوة مُرّة)، فيما يسمّيها بدو الشام (قهوة سادة = ساذجة؟)، وهي القهوة الغامقة الكثيفة التي تشبه في كثير من تقاليدها وأصولها القهوةَ العربية سالفة الذكر (1 و2).
تحضير القهوة الشامية:
من المهمّ أن تكون القهوةُ جيدةَ النوع، حديثةَ الطحن. والذوّاقةُ الصبورون يطحنون القليل منها عند كل تحضير. هذا أمرٌ غير سهل، ولهذا يلجأ معظم الناس إلى شراء كمّية قليلة تبعاً للاستهلاك، تطحن عند الشراء، ذلك أن الكثير منها يتغيّر طعمُه بالتخزين الطويل غير المحكم، كأن يتسرّبَ الهواء إلى المُرَكّبات العطرية للبُنّ والهيل، أو تتسرّبَ روائحُ البهارات إليها. وهناك خيار ثالث ألا وهو شراء قهوة مطحونة في أكياس مفرغة الهواء، لتحفظ في الثلاجة وتستخدم عند اللزوم. خيار جيد، لكنه لا يضاهي الأول.
وصنع القهوة فنّ لا يجيده كثيرون. فمن المهمّ أولاً أن يُغلى الماء في الركوة أو الغلاية، ثم يضاف البنّ (بالهيل المطحون أو المسك)، بمقدار ملعقة شاي (3 غ) لكل فنجان، لتغلى على مهلٍ حتى تتشكل طبقة قِشْدية محبّبة لكثيرين (الوشّ أو الوجه، والمهارة بتوزيع هذا الوجه على كل الفناجين)، أو أكثر من ذلك حتى تزول القشدة عند غير الراغبين. ولا عجب، فالناس أمزجة!.. إن أي خطأ بسيط في هذه العملية يعطيك قهوة غير مستساغة، ومن هنا أقول: إن مشروبات المزاج يجب أن تُحضّر بمزاج.
هكذا يا سادتي تأتيكم القهوة بعد أن تصبَّ في فناجين خزفية صغيرة (بالتركية Kahve Finjan) ذات أيدٍ (خلاف فناجين القهوة العربية)، سادة Sade Kahve من سوداء غامقة (مُرّة) إلى متوسّطة، إلى شقراء تميل في طعمها نحو الحموضة، أو حلوة Tatli أو بسكّر قليل Orta şekerli علماً أن السكّر واجب الإضافة إلى الماء المغلي قبل إضافة القهوة، لأن إضافته في النهاية أو بعد الصبّ يخرّب طعمها. ولنذكر أنه كلما حُمِّصت القهوة خفّ تأثير القهوين (الكافئين) فيها، خلاف ما يظنه معظم الناس، بسبب شدة مرارة القهوة السوداء.
بعض تقاليد تقديم القهوة:
للقهوة في الشام قواعد أو أعراف، منها القهوة الترحيبية (قهوة أهلاً وسهلاً) أي عند وصول الضيوف (3)، وينوه إليها كيلا يظن الضيف أن عليه المغادرة بعدها، والقهوة الوداعية (قهوة مع السلامة) في نهاية الزيارة، وهناك مقولات ساخرة مثل: “الضيف الشرشوح بيشرب القهوة وبروح”، أو “الضيف المنظوم بيشرب القهوة وبقوم”، تقال في مجال الدعابة وإشاعة البهجة.
ويقدم مع القهوة كأس ماء بارد، وهي عادة تركية قديمة، يفهم منها أنه إن شربها الضيف أولاً، فالمعنى أن زيارته ستطول حتى وضع الطعام، أو أنه جائع فيُحضّر له الطعام، وقد تخطّت الفكرة ذلك المعنى لإرواء العطش والتهيئة للاستمتاع بالقهوة. وهناك القهوة المالحة التي كانت تقدّم للمتقدّم إلى خطبة فتاة، وعليه شربها كاملة دون أن يبدي أي نفور دلالة منه على قوة التصميم. هذا ولم أسمع بمثل هذه العادة في الشام، التي تغيّرت بها معظم العادات مع الزمن، لاسيما بعد ما لحقها في سنوات التراجع الاقتصادي، حتى صار وجود القهوة عند بعض الناس أمراً صعباً، وتدنت جودة القهوة التي تباع في الأسواق مع ارتفاع أسعارها، اليومي أحيانا، فراح الناس يتنقّلون من علامة تجارية إلى أخرى تبعاً لما يختبرونه من جودة القهوة في وقتٍ معين عند صاحب علامة ما، لا تلبث أن تتغير تلك الجودة إلى علامة أخرى، ولا شك أن الذوق الشخصي يلعب دوره هنا في تجويد سمعةٍ ما أو تسويئها، ولا يشترط أن تتّفق الأذواق، ولن تتفق.

تحضير القهوة على مرّ العصور:
تطور مع الزمن عدد كبير من مشروبات القهوة، تبعاً لطرق تحضيرها وإضافاتها، التي صارت عنصر إغراء وجذب لا سيما في المقاهي الفاخرة، لكن – بغضّ النظر عن كل ذلك – فإن حبوب البُنّ المحمّصة الطازجة عالية الجودة، وذوقك الشخصي هما المفتاحان المهمان للحصول على أفضل نكهة.
وهناك أربع طرق رئيسة لتحضير القهوة في العالم:
- الغلي Boiling: وهذه هي الطريقة المعروفة التي ابتدأنا بها المقال.
- الترشيح Filtration أو التقطير Dripping: من خلال مِرشحة ورقية (فلتر) في كوب مخروطي خاص ذي زاوية 60. يسخّن الماء إلى درجة ما قبل الغليان ( 93 م)، وتصب كمية كافية من الماء على المرشحة حتى يتم التخلّص من رائحة الورق. ثم تضاف 30 مل ماء ساخن لنقْع القهوة الخشنة قليلاً، وبعد نصف دقيقة تضاف 30 مل بشكل دائري فوق القهوة المنقوعة، بحيث تتوزع المياه بصورة متساوية، فتبدأ خلاصة القهوة بالتنقيط في الدورق أو الكوب. نصب المياه مرة بعد مرة بالكمية نفسها حتى تنتهي، لنحصل على قهوة أخفّ وذات نكهة أصيلة، ويقال إن هذه الطريقة هي الأكثر صحّية إذ تزيل المرشحة مادتي الكافستول Cafestol والقهويول Kahweol اللتين تعطيان طعم المرارة وترفعان الكولسترول الضار LDL، وإن كانت تخفف من النكهة الطيبة.
- النقع Steeping: يخلط البن المطحون مع المياه (الحارة أو الباردة) ويحرك، ويترك فترة من الزمن لاستخلاص النكهة. والنقع من أبسط الطرق لتحضير القهوة الفرنسية. يكون النقع البارد بترك القهوة الرطبة 12 ساعة بالماء. وتتميز القهوة الباردة بنكهة قوية وناعمة، خالية من الأحماض والزيوت المُرّة التي تُصاحب الاستخلاص بالماء الساخن. يُمكن حفظ المُركّز البارد لأسبوعين، ويمكن تقديمه فوق الثلج أو تسخينه، وهو مثالي لصنع آيس كريم القهوة. ومن الأمثلة على القهوة الباردة: مشروب نيترو (القهوة مع النيتروجين)، الفرابتشينو، اللاتيه المثلج. هذا ويؤثر نوع القهوة المستخدمة وطريقة التخمير وإضافة الحليب أو الرغوة أو المنكّهات الأخرى على طعم القهوة.
- الضغط Pressure: وهذه الآلية هي الأشيع في المقاهي الحديثة، إذ تستخدم مكائن تطحن فيها القهوة طحناً متوسطا بمقدار فنجان أو أكثر، ثم يمرّر ماء ساخن عالي الضغط في حبيبات القهوة المطحونة، فتبدأ خلاصة القهوة الساخنة بالنزول إلى الكأس. وتبعا لتركيز الماء يمكن الحصول على إسبرسو أو قهوة أميركانو بإضافة الماء، أو تضاف رغوة الحليب الساخن (لاتيه)، أو الكبتشينو الذي يشبه اللاتيه إلى حد ما. هذا ويجب تناول الاسبرسو بسرعة، لأن المركبات المستخرجة من الحبوب تحت ضغط عال أكثر تطايراً، فمع اكتمال تحضيره تبدأ النكهة بالتلاشي.
-
تركية أم شامية.. إغراء وإغواء
وهناك عدد كبير من مشروبات القهوة:
- الكابتشينو Cappuccino: هو مشروب القهوة الإيطالي المحبوب الذي يحضّر بمزج الإسبريسو مع رغوة الحليب على البخار. والرغوة هي نجمة العرض، بملمس مخملي سميك ولون كراميل رائع. يسكب الإسبريسو في الكوب أولاً، يليه الحليب الرغوي في الأعلى.
- الاسبريسو Espresso: (وتعني القهوة الطازجة)، وهي قهوة إيطالية مركزة عالية الكافئين ذات رغوة في أعلاها، وهي أساس عدد لا يحصى من الأنواع في المقاهي المشهورة، من الكابتشينو إلى اللاتيه. أول من صنع لها آلة هو الإيطالي أنجيلو موريوندو عام 1884.
- القهوة السوداء: هي الطريقة الكلاسيكية لشرب القهوة بلا إضافات. وتحضر بطرق مختلفة مثل القهوة المقطرة، أو سريعة التحضير، أو غلي القهوة المطحونة. والذي يجعلها مشهورة فوائدها في إنقاص الوزن لقلة سعراتها الحرارية.
- لاتيه: هو مشروب يجمع بين الإسبريسو الغنية كاملة القوام مع الحليب المبخر لخلق نكهة ناعمة وفاخرة. وعلى عكس الكابتشينو، يحتوي اللاتيه على كمية أكبر من الحليب المبخر ورغوة أقل. هذا ويخصص كثيرون مشروب اللاتيه الخاص بهم بإضافة شراب معين أو كاكاو.
- كافي او لاي (قهوة بحليب): مشروب نشأ في فرنسا عن طريق الجمع بين القهوة القوية مع الحليب الساخن أو المبخر بأجزاء متساوية. يشبه المشروب اللاتيه، لكنه يستخدم قهوة الإسبريسو القوية. تقدم القهوة بالحليب في فرنسا بشكل تقليدي في وعاء واسع الحواف، مما يسمح للشارب بغمس المعجنات أو الخبز في الخليط.
- موكا: هو مشروب يمزج بين ثراء الشوكولاتة وجرأة القهوة. يأتي اسمه من مدينة المخا باليمن. ولتحضيره يخلط شراب الشوكولا أو مسحوق الكاكاو مع الإسبريسو والحليب المبخر. تضيف الشوكولاتة حلاوة تعوض الحافة المرّة للقهوة مع تضخيم نكهاتها المحمّصة العميقة. يوفر الحليب قاعدة قشدية وناعمة للمشروب. غالبًا ما تضاف طبقة مثل الكريمة المخفوقة أو مبروش الشوكولاتة.
- فريدو: قهوة يونانية مثلجة مشهورة. تصنع برجّ جرعة مزدوجة من الإسبريسو الساخن مع مكعبات الثلج حتى يصبح باردًا ورغويًا، ثم تقدم إما حلوة أو متوسطة أو سادة (بدون سكر).
- أمريكانو: مشروب اخترعه الجنود الأمريكيون في الحرب العالمية الثانية. كان الجنود يشتهون نكهة الإسبريسو في أوروبا ولكنهم يريدونه أقل كثافة، فكانوا يضيفون الماء الساخن. يعمل الماء على تخفيف حموضة الإسبريسو ومرارته مع الحفاظ على نكهته القوية.
- فرابوتشينو: هو خط من مشروبات القهوة المثلجة المؤلفة من مزيج من “فرابيه وكابتشينو”، والوصفة مستمدة من مزيج من المشروبات الباردة المختلفة. يتكون المشروب من قاعدة من القهوة أو الكريمة ممزوجة بالثلج ومكونات مثل الشراب المنكّه والحليب والسكر والكريمة المخفوقة.
- القهوة الإسبانية: هي خليط رائع من القهوة والتوابل. تمتزج القهوة مع القرفة وقشر البرتقال مع طبقة من القشدة المخفوقة، لتمتد جاذبيتها إلى ما هو أبعد من مذاقها؛ احتضان روح إسبانيا نفسها، إذ تجسد العاطفة ومتعة الحياة التي تميز الثقافة الإسبانية.
- الماكياتو Macchiato: التي تعني “المبقع” باللغة الإيطالية، تشير إلى قهوة الإسبريسو التي تم تمييزها بطبقة الحليب الرغوي.
- القهوة الأيرلندية: وهي القهوة الساخنة والويسكي الأيرلندي والسكّر والكريمة المخفوقة.
- أفوجاتو Affogato: هي قهوة إيطالية تصنع بوضع ملعقة من بوظة الفانيليا أو الحليب مع الإسبريسو الساخن. والاسم يعني “الغرق” بالإيطالية، إشارة إلى طريقة سكب القهوة فوق البوظة.
- قهوة فيينا: جرعة مضاعفة من الإسبريسو مغطاة بطبقة سخية من الكريمة المخفوقة، ترش بعد ذلك بمسحوق الكاكاو.
- العين الحمراء: هي القهوة التي تحتوي على كمية إضافية من الكافيين بإضافة جرعة إسبريسو.
- فلات وايت: منحدرة من أستراليا ونيوزيلندا، وتضفي لمسة مميزة على الإسبريسو والحليب المبخر.
وهناك القهوة الفيتنامية والمكسيكية وقهوة راف المشهورة في روسيا وغيرها، ولك أن تصنع أنت قهوتك المفضلة حسب ذوقك.

روايتا الحليب مع القهوة والكابوتشينو:
الرواية الشائعة هي أن أول من قدّم الحليب مع القهوة البولندي المقيم في ڤيينا جرجي فرانشيجاك كُلجتسكي، وكان مترجماً للتركية عند الشركة النمساوية الشرقية، فاستولى على أكياس البن التي خلّفها الأتراك المنهزمون على أسوار ڤيينّا في ختام الحرب التركية العظمى، وأعدم فيها الصدر العثماني الأعظم قره مصطفى پاشا بعد خيانات من صحبه. وهنا افتتح جرجي أوّل كافتيريا (مقهى) في ڤيينّا عام 1683 وقدّم القهوة مع الحليب لأنّ النمساويين لم يستسيغوا طعم القهوة. وقيل إنه هو من اخترع الكرواسان.
أما الرواية الثانية فتتحدث عن أن كلمة كابتشينو آتية من اللاتينية» كابتيوم« وهي أيضا تصغير لكلمة «كابوتشو» الإيطالية أي القلنسوة. ويأتي اسم المشروب من لون ملابس رهبان الكابوتشين المعروفين في القرن السابع عشر، إذ كانوا يرتدون جلابيب لونها بني محمرّ. وكان الغطاء الطويل المدبب صفة ميزتهم فأعطوا لقب مرتدي القلنسوة «الكابوتيشن». بعد انتهاء حصار ڤيينّا عام 1683، أخذ الراهب ماركو دفيانو القهوة من أكياس البن التي خلّفها الاتراك، وصنع القهوة للأهالي، ولما كانت ثقيلة المذاق خلطوها بالكريمة والعسل، مما جعل لونها بنيا كلون ما يلبسه الرهبان، فسموها «كابوتشينو» تكريما لرهبان ماركو دفيانو. وفي وقت لاحق أضيف الحليب.
قهوة سريعة التحضير أو الذوبان
استجاب المصنعون مع مطلع القرن 21 لرغبة الناس في الحصول على قهوة سهلة التحضير، بإنتاج آلات تحضر فنجانا واحدا باستخدام محافظ (كبسولات) القهوة. وقد أكسبتها سهولة استخدامها شعبية واسعة، على الرغم من تعرضها لانتقادات بسبب نفاياتها البلاستيكية. وهناك القهوة سريعة الذوبان الشهيرة الناجمة عن تجفيف سائل القهوة المُحضّرة، عن طريق التجفيف بالرش (باستخدام غاز ساخن) أو بالتجميد. وهذه العمليات مُعقّدة، وتختلف أساليبها. يتراوح متوسط العائد بين 25-30% من وزن البن المطحون، مما يُقلّل من تكاليف الشحن. وتتمتع القهوة سريعة الذوبان -عدا عن سرعة تحضيرها – بصلاحية أطول من حبوب البن، لكنها تمتص الرطوبة بسهولة، لذا يجب الحفاظ عليها جافة. ويُعتقد على نطاق واسع أن طعمها أقل نكهة، علماً أن لها أنواعاً متباينة الجودة والسعر، ومن مساوئها كلما غمقت غناها بمادة Acrylamide الناجمة عن الحرارة العالية (حال القلي والتحميص والشواء)، ولها آثارها العصبية والمسرطنة.

هل القهوة الباردة أم الساخنة أفضل؟
هناك تقليد راسخ بأن أفضل طريقة لتقديم مشروبات القهوة هي أن تكون “طازجة وساخنة” في غضون لحظات من تحضيرها. لكن ليس هذا هو الحال بالضرورة. صحيح أنه يجب الاستمتاع بالإسبريسو فوراً، قبل أن تتبدّد روائحها، لكن القهوة المخمرة الساخنة جداً تحرق اللسان، والأهم أنها تخفي مجموع النكهات، فالأفضل أن تبرد قليلاً حتى يمكن التقاط النكهة الكامنة.
ولهذا ينتظر متذوّقو القهوة المحترفون عادةً نحو خمس دقائق قبل التذوق.
يتبع…..
العين في 11 أيلول 2025
هوامش:
- القهوة، الحلقة الأولى https://taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalayli-coffee-benefits/
- القهوة، الحلقة الثانية https://taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalayl-coffee/
- أول من قال (مرحبا وأهلا وسهلا) هو الملك الحِمْيري الصالح سيف بن ذي يزن، لسيد قريش عبد المطلب بن هاشم.