مع توفيق علي دينامو نيوكانتري والمؤتمر
د. غالب خلايلي
انطلقنا صباح السبت السابع عشر من أيار 2025 من دار الزين (العين) باتجاه فندق دوست ثاني في دار الحيّ (دبي).
لم آكلْ همّ الذهاب لأن الراعي الأصغر في العائلة سوف يقودنا في هذه الرحلة، وقد بات – حفظه الله -خبير طرق لكثرة ما سلكها ذهاباً وإياباً (ومخالفاتٍ مرورية) على مدى أربع سنوات، إلى الجامعة ومنها، وإلى أماكن أخرى في الشارقة ودبي، بين ترفيهية وتدريبية، يعرفها الشبّان أكثر مما عرفناها نحن الذين بتنا نؤثر الخلود إلى الراحة في منازلنا، وكنا قد سلكنا الطرقَ ذاتها قبل ثلاثة عقود، يوم كانت أبسط بكثير جداً، فباتت اليوم متاهة حتى لمن يتبع خرائط غوغل: متاهة جميلة لمن يرى خرائطها الجويّة الفريدة، ورافعة لضغط من يضيع أو يعلق في زحمة المرور.
والحقيقة أن الهمّ الذي حسبتُ حسابه هو قدوم بعض المرضى إلى عيادتي خلال رحلتي هذه، فتكاثرهم الذي يعاكس رغبتي أمرٌ مألوف في غيابي، لكن ماذا بوسع مستعجل أن يفعل سوى أن يبحث عن طبيب؟
مؤتمر مجاني في مهوى الأفئدة دبي:
كان الغرض من رحلتنا حضور (مؤتمر دبي الحادي عشر لطب الأطفال 11th DPC)، والذي تنظمه سنوياً مجموعة مميزة من أطباء الأطفال (باختصاصاته كافة، باطنية وجراحية)، برئاسة الدكتور سوهراب توماري الاستشاري في المستشفى الطبي الجديد، وبالتعاون مع شركة نيوكانتري للعناية الصحية (راعية ماسية)، وشركات راعية ذهبية (فايزر، جي إس كي) وغيرها.
والجميل في هذا المؤتمر أنه أولاً: يعقد في مكان جميل في دبي، مهوى أفئدة معظم الناس في العالم وكذا الشركات العالمية الكبرى دوائية وغير دوائية، وثانياً: أنه مجّاني في عصر التكاليف الصاعدة، فلا يكلّف محبّو العلم سوى أن يفرّغوا أنفسهم ويحضروا من أنحاء الإمارات أو أية بلدان، ليتم استقبالهم بكل الترحاب والكرم الأصيل، وثالثاً: هي فرصة للقاء بالزملاء والأحباء ومعرفة أحوالهم على هامش البرنامج العلمي الغني، والأهم رابعاً: ابتعاد المؤتمر عن الصفة التجارية والعروض المبتذلة، وإن كانت للشركات مصلحةٌ في عرض منتجاتها، لكن ذلك يتم في جو من الودّ والعلم، يقدم المشاركون عروضهم للمساعدة (كما في الحالات السلوكية الخاصة عند الأطفال)، وقد يمنحون عيناتٍ من أدويتهم.
لكل هذا لم يكن عندي مانع من تعطيل عيادتي، قياساً بمدى الفائدة العلمية والاجتماعية المبتغاة، مع جائزة لطيفةٍ تأتي في نهاية المؤتمر، ألا وهي الساعات التعليمية المعتمدة، والضرورية لتجديد الترخيص كل عام.
محاضرات حصيفة واستراحات لطيفة:
في قاعة المؤتمر جلس مئات الأطباء والصيادلة والممرّضين من الجنسين على كراسٍ مريحة وأمامهم طاولات تؤمن حاجاتهم من قرطاسية وماء، فيما يلقي المحاضرون محاضراتهم بهدوء وروية، حتى إذا ما انتهى كل فصل عقدت له حلقة نقاش تتناول ما طرح.
وبين فصل وآخر فسحةٌ للخروج إلى صالة العرض، لتناول الشاي أو القهوة (بأشكالها العصرية من لاتيه وكبتشينو وإكسبرسو أو بلا إضافات) أو الشوكولا الدافئة أو العصير، مع “سناك” لذيذ لمن أحبّ أو أتى دون أن يتناول إفطاره. وفي هذا الجو الحميم يلتقي المرء بزملائه وزميلاته الذين لم يرهم منذ وقت طويل، فتنفتح أحاديث طويلة أو قصيرة لا تخلو من الاطمئنان على الصحة والأولاد المهاجرين، والشفقة على حال البعض في ظروف العمل القاسية التي تكبح حرية الطبيب في تقرير ما يريد (مما يتحول إلى ظاهرة عالمية)، ولا تخلو من العتب على توقف التواصل، هذا العتب الذي يزول بعد قليل عندما تتضح ظروف كل زميل.
كما يلتقي الحاضرون مندوبي شركات الأدوية في ميعة الصبا وفي أحلى الهيئات والحلل، وكلهم أمل، مع تجمّعهم في دبي، بوافر الحصاد في نهاية المؤتمر، ثم عند جرد الحسابات الفصلية أو السنوية القاسية، ولا بد أن شيئاً من العتب حاصل إذ تنقطع زياراتهم إلى مدينة جميلة (كالعين) لا يرونها بالأهمية ذاتها في ظلال مدينة عالمية مثل دبي، فإن أتَوا بين فصل وآخر أو حتى سنةٍ وأخرى، فيغلب أن يتجمّعوا زرافاتٍ في المستشفيات الكبيرة ذات الجدوى الاقتصادية، تاركين من بقي من أصحابهم المخلصين القدماء في عياداتهم الهادئة، كأنهم آثروا صخب الحياة، ولكن إلى حين، يكتشفون فيه حقيقة الدنيا، وأنهم كبروا فجأة، وكبر أولادهم وصاروا طيوراً مهاجرة، وأنه لم يكن ضروريا كل هذا العنت والقتال المستميت، بغياب تفاصيل إنسانية بسيطة ومهمة، هي التي سوف تغذي الروح في قابل الأيام.
لوحات وزهور:
في ذات زاوية من المعرض تقف فتاةٌ في عمر الزهور، في سنتها الرابعة في كلية دبي الطبية، تحدّثك بثقة عالية -على حداثة سنّها وخبرتها – عن حالة نادرة من ارتفاع الضغط الشرياني عند طفل بلغ الثانية عشرة. تخبرك أن ارتفاع الضغط الشرياني عند الأطفال قد تضاعف أربع مرات عن الماضي، وبات يرى عند 4.5 % من مجموع أطفال العالم، وهو خلافاً لحالات الكبار ثانويّ غالباً (أي إنّ له سببا، كلوياً أو غديا، يجب البحث عنه). وطريقة هذه الطالبة في العرض هو ما يُتعارف عليه في المؤتمرات باسم اللوحات Posters، التي تعرض حالاتٍ طبيةً نادرةً أو دراساتٍ مميزة. كانت هناك نحو ثماني لوحات، وقد حدثتني تلك الطالبة (وهي شقراء محجّبة) بإنجليزية جميلة. في البدء ظننتها عربية، وتبين لي بعد قليل أنها هندية، وهذا دليل آخر على كثرة المقبلين إلى عموم الإمارات من كل حَدَب وصوب دراسةً وإقامةً وعملاً، حيث يسود مستوى عالٍ من العيش والمهنية والطمأنينة والعدالة والتنافس الذي ليس له حدود، أنى كان شكل المرء ولونه ومعتقده ولباسه، مما نرجوه لكلّ البلاد والعباد.
العودة إلى العين:
بمثل حفاوة الاستقبال كان الوداع، وفي النفس رغبة بمزيد من حلاوة العيش الرغيد، حيث يعيش المرء يوماً أو اثنين في رفاه العلم محمولاً على أكفّ الراحة، محقّقَ الرغبات. وحتى المطعم (المسمى شارع 24، في الطابق الرابع والعشرين، والذي لا تستطيع الوصول إليه إلا بأحد مصعدين تزاحم عليهما الزملاء) تجد خدمة متفانية تؤمن للضيوف شتى أنواع الأطعمة الكورية والصينية والهندية وغيرها مما تعرف أو لا تعرف، وتشتهيه لكل من يتضور جوعا في عالم متخم، وهو بالتأكيد يحتاج إلى مِعَدٍ شابة تتحمّل تلك الصنوف، وإلا سوف تعاني هضمياً إن لم تبقَ على الجبن والعنب والبطيخ.
وفي أول طريق العودة تجد نفسك في زحمة دبي، وسط شارع الشيخ زايد الشهير، وتجد على يمينك بعد قليل ما قيل إنه أجمل متحف في العالم ( متحف المستقبل) والذي يشبّهونه بـ (دار الحكمة)، ولكنك الآن تائقٌ للعودة إلى المنزل، الذي اشتقتَ إليه بعد بعض غياب، دأبك في كل سفر قصير أو طويل:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل
هكذا قال ابن جاسم أبو تمام الطائي قبل اثني عشر قرناً، حفظ الله لكم منازلكم وأحباءكم، ودمتم بخير.
العين في 19 أيار 20
