إبراهيم خلايلي أمام مكتبة البيت العامرة
زميلنا الأديب وطبي الأطفال د. غال خلايلي فجع قبل يومَيْن بوفاة شقيقه الباحث في التاريخ القديم والتاريخ الكنفاني د. ابراهيم خلايلي، أثر أزمة قلبية صاعقة لم ترحم شبابه ولا أولاده الثلاثة، ولا تعب سنين كانت مضنية وصعبة ولكنه قاومها كما قاوم المرض ومضى مكافحاً يحمل مشعلاً للإضاءة على حقائق تاريخية أراد البعض أما تطمس ولكنه أبى.
في هذه القطعة الوجدانية بقلم شقيقه وتوأم روحه ورفيق دربه وأعزّ ما عنده في الدنيا، يرتقي د. غالي خلايلي بالرثاء الى مرتبة الأدب الرفيع الممزوج بنكهة انسانية قد لا يفهمها الا من شرب من الكأس نفسها. فله نتمنى الصبر ومن أين يأتي الصبر؟
وللفقيد الراحل نسأل الله أن يُجلسه في مكان لا يدخله الا من كان يُناضل للحق والحقيقة ومن كان لا يعرف الا لغة التضحية ولو كان ثمنها الموت. والى عائلته أقول: من تدفا بحرارة د. خلايلي لا يُمكن أن يبرد، ولن تبردوا، ولن تترككم رحمة الله ولن تسهى عنكم عيناه وهو فوق في الجنة يتابع ما بدا وأنجز.
أما لزميلنا العزيز د. غالب فأقول: أدرك ألمك، وأعيش حزنك، قرأتك وبكيت، وسألت نفسي مراراً وأنا أتابع حروفك بشغف: كيف تمالكت لتكتب ما كُتب، وفي ما كتبت من الأدب قدر ما في من الحزن.
رحمه الله..
فضلو هدايا
د. غالب خلايلي
لماذا استعجلتَ الرحيل يا أبا ألمار؟
خبرُك يا إبراهيم جاء مبكّراً جداً.. وألمار ما زال صغيراً حتى يحملَ مشعلَ التاريخ. ظنّكَ – المسكينُ – تمازحُه وأنتَ تهوي على الأرض، ولم يعلمْ أنّ نَفَسكَ في حبّه وحبّ الوطن السوري كان الأخير، وأن قلبه المثخن بالجراح على مدى 57 عاماً لن ينبض بعد اليوم.
أعلمُ أنك تعبتَ كثيراً.. وناضلتَ كثيراً.. وشقيتَ فوق الشقاء في أرض الله الواسعة ذات الطول والعرض كي تحصلَ على رزق أولادك الصغار، زُغبِ القطا، فهناك من قتّر عليك، وآخرُ منعك عنه أكثر من عقد من الزمان.. وقبل ذلك شقيتَ وأنت تجني العلم، في سورية الحضارة، وتونس الخضراء، ولو احمرّت عليك أعينٌ هنا وهناك، ومع ذلك جمعتَ من المُحبّين والمحبّات ما يكفي الكرة الأرضية كُنوزَ محبة، وأدهشك بعد ذلك، مثلما أدهشني، أن الناس في عالمنا لا يحصدون سوى الكراهية والجوع، رغم كل الخير في الأرض، وأنك لم تحصد غير تعب البال والعناء.
مقالاتك في التاريخ الآرامي والكنعاني لو جُمعتْ تحت قدميك للامسَ رأسُك السماء، وجهدُك البحثي في رسالتيّ الماجستير والدكتوراة الذي ملأ نحو ألفي صفحة لم يجد من يطبعهما كي يستفيدَ منهما عشّاق التاريخ ومتعطّشو الحقيقة، كما لم يجدْ -ويا للعجب- من يعترفُ بهما في المكان الذي ابتعثك مشكوراً تسع سنوات، فيما بقيتَ أنتَ، وأنا أحياناً معك، نشقّ الأرض بحثاً عن رجل شجاع واحدٍ ينصفك، وما أفلحنا.
عجباً يا أبا ألمار! أإلى هذا الحد أزعجتْهم بحوثُك العميقة فما قبلتْكَ كليّةُ التاريخ التي تخرّجت فيها، ولا هيئة الآثار والمتاحف التي تخصّصت بها، ولا حتى أراحتْهم مجلتك المرموقة التي أسّستَها (مهدُ الحضارات)؟ أتذكر يوم زرنا “التعليم العالي” ذات يوم ظنّناه أبيض؟ أتذكر كيف خرجنا شاحِبَيْن وقد غار الدم في عروقنا، إذ جاء ضيفٌ أكثر لمعاناً فخطف أبصار المسؤول، وخرجنا نجرّ أذيال الخيبة؟
مكتب الثقافة كان أشد نكالاً، وهو بيتك الذي عرفتَه وما خرجتَ منه طوعاً.
رحيلك يا إبراهيم هدّني ونكّس رأسي غصباً عني، وأنا الذي حرصتُ كل حياتي على أن أبقى مرفوع الرأس مهما اشتدتِ الأزماتُ وعظمتِ التضحيات. كنتَ صديقيَ الأوحد بحقّ، فأنتَ الوحيد الذي كنتُ أستطيع فهمَه والحديثَ إليه في عالم غوغائي قليل الإدراك، بليد الحواس. وتذكر كيف عملنا سنتين بكل قوة وتصميم، أنتَ بعلمك في التاريخ وجَلَدك، وأنا بما أستطيع من تنسيق، على تجديد كتاب والدنا المؤرخ الشاعر خليل خلايلي (تاريخ جسكالا)، بعدما استجدّ من معلومات.
ولمنْ تركتَ تاريخ أرض كنعان يا إبراهيم، وكلٌّ يحاول أن ينهش ذلك التاريخ، وينفي عنا كل أصالة وعروبة، وأنتَ الذي ناضلتَ كل عمرك يا حبيب القلب في سبيل إعلاء كلمة الحق مع كثرة المزوّرين والناعقين، شرقاً وغرباً؟
قبل عشرين عاما بالتمام والكمال، وفي حرّ الصيف، وقفتَ مساءً أمام باب عيادة أخيك في الجسر الأبيض، وقد ألهمك الله أن تضع حبة موسّع الشرايين الإكليلية من النتروغليسرين تحت اللسان، ريثما يحضر أخوك، وقد أدركتَ بفطرتك أن شرايينك لم تعد تحتمل ثقل الحياة وظلمها. كنتَ في الثامنة والثلاثين، معجونا بالهّم والقلق ودخان السجائر، وما إن أتى أخوك حتى نقلك على الفور إلى مستشفى النور في دوما، وهرعنا إليك (إذ كنّا في إجازة دمشقية)، وهناك وضعوا لك ثلاث دعامات، وعاد قلبك ينبض بالحياة.
وتزوجتَ يا عزيزي متأخّراً ابنةَ الأكرمين من آل سويد من أهل صفد، وأكرمك الله بـ (لارا) في آب من عام 2011، في المستشفى الدوماني نفسه. أتذكرُ كيف حضرنا إليك وأم غالب (والدتنا رحمها الله) وفداً للمساعدة، وبقيت زوجتي التي تعزّك وتعزّ عائلتك فوق التصور تحاول وتحاول حتى نجحتْ لارا في ابتداء الرضاعة. يومها عُدنا مع الغروب، والوجوم يخيم على الوجوه، ورجال الحواجز في حرستا ودوما والقابون، ذوو وجوه لا تفسّر، فيما كنا نسمع أصوات رصاص غير بعيد. بيتك الذي زرناك فيه يومها، ما عاد له وجود، مع الأسف، فقد صار أطلالاً بعد أن تركته في يوم عصيب من أيام 2013. أتذكر قولك وأنت تجمع ما تقدر على جمعه بيديك ويدي زوجتك، لتركضا بعدها في الأوتوستراد: يوم من أيام التاريخ. يا لها من أيام عصيبة، كتبت لي فيها الكثير مما هو مضحكٌ مبكٍ بروحك السّاخر حتى العظم. هل تتذكر الأقوال التي شاعت يوم جمعَ كل بيتٍ عائلتين أو أكثر: (إجوا ولزّقوا مع إنو بمنطقتن ما في هاون!… حبيبتي مو عند إمو؟ لا تحلمي يردّ عليك! قال ما في بنزين بالسيارة، مع إنو كل الناس عم بتعبي!.. يخرب بيتا! لك حكت مع كل أهلا عالأرضي…الله يعين حماتي عالفاتورة).
ثم جاءت الجميلة (ليدا) بعد سنوات، وأخيراً (ألمار) الذي أصررتَ على تسميته اسماً آراميا، مثلما أصررت على التمسّك بمبادئك، في أصعب الأزمان.
صباح هذا اليوم، الخامس من شباط 2025، جاء نَعيّك القاسي في الصوت المتهدّج لابن أخيك (ابني لؤي) يعزيني، وفي الوقت نفسه تقريباً في صوت صديق العائلة (إيلي). لم أعلم بخبرك في الليل، إذ نمتُ مبكراً على غير عادة، بعد يوم متعب، فيما وسائل التواصل في كل الأصقاع تضج بالحديث عنك. أفقتُ على أحلام مزعجة جدا عرفتُ سرّها بعد قليل. خالتي أم محمود من كاليفورنيا اتصلت تعزّي وولدها عاصم، وعمتي أم إياد من حلب، وابنتي ريم من كندا، وابنتي ديمة من بريطانيا، وما مرت ساعة حتى غرقتُ بالاتصالات من كل حَدَب وصوب. زملائي في العين وأبو ظبي ودبي والشارقة ما قصروا، وكذا زملاء التخرج الكرام عام 1984 وزميلاته الكريمات، وأصدقاء العمر من كل مكان، في سورية، ولبنان، ومصر والنرويج والسويد.
اليوم ترقد وحدك في (مقبرة نجها) في الشام، وتبكيك في البرد زوجتك الصابرة على ظلم الأيام وبنتاها وولدها، تبكيك عيون أحبتك، وسوف تفتقدك كثيراً يا مهجة الروح وحبيب القلب.
في أمان الله.
العين في يوم حزين 5 شباط 2025
الدكتور إبراهيم خليل خلايلي
في سطور
- مكان وتاريخ الولادة : دمشق 1967/11/30
- دكتوراة في التاريخ القديم بمرتبة مشرف جداً، جامعة تونس الأولى 2002، عنوان الأطروحة: الحياة المدنية والدينية في المدينة الكنعانية الفينيقية في ضوء العهد القديم والحوليات الآشورية ) إشراف الأستاذ الدكتور محمد حسين فنطرمع ملحق بعنوان: الفينيقيون ، تعريب لكتاب Phoenicians الصادر عن متحف لندن عام 2000 لمؤلفه Glenn Markoe
- ماجستير(الدراسات المعمقة) في التاريخ القديم بمرتبة حسن، جامعة تونس الأولى 1995، عنوان الأطروحة: مصادر البحث عن الحضارة الفينيقية البونية في تونس.
- دبلوم الدراسات العليا في التاريخ القديم بمرتبة جيد جداً -جامعة دمشق
- الإجازة في الآداب قسم التاريخ بمرتبة جيد، جامعة دمشق 1989
- له العديد من المسلسلات التلفزيونية والدعايات المتلفزة والكتابات الجادة والساخرة.
- 2004-2003: معاون مدير التنقيب والدراسات الأثرية في المديرية العامة للآثار والمتاحف/وزارة الثقافة – دمشق.
- 2006-2005: باحث رئيس في المديرية العامة للآثار والمتاحف-دمشق.
- 2008-2006: مدير مركز البحث والتدريب الأثري- دمشق
- 2008–2010: مدير متحف دمشق التاريخي.
- 2010-2012: معاون رئيس دائرة آثار ريف دمشق.
- 2012-2013: باحث في اتحاد الآثاريين العرب/دمشق.
- 2014- : مكلّف من قبل وزارة الثقافة بالإشراف التام على مشروع إعادة تأهيل مدينة معلولا الأثرية.