تبادل الأدوار
د. غالب خلايلي
ذات مساء قريب، فاجأني في عيادتي شابٌّ طويلٌ صبيحُ الوجه، ذو لحية معتدلة، طرح السلام ثم قبّل رأسي بأسرع مما توقّعت، ولما رأى دهشتي، قال: أنت تعرفني، ولا تعرفني!.
وجلس على الكرسي مقابلي ثم أتبع بالقول: “من لا يشكر الناس لا يشكر الله“.
فكّرتُ باللغز الذي طرحه ابن الإمارات الكريم، وكدتُ أجزمُ أنه كان يوماً ما مريضي. رحتُ أتأمل ملامحه الرجولية محاولاً استرداد صورته الطفولية، ولكنّي عجزتُ، وهنا قال لي: أنا فلان بن فلان، فتذكّرتُه وقصته على الفور، خاصة أن أباه مرّ يسلّم عليّ منذ شهر، تعبيراً عن امتنانٍ ووفاءٍ نادرَيْن، مما أدخل على نفسي أعظمَ البهجة والحبور.
ولا بد أنكم تتساءلون: ما القصة؟
إنها باختصار قصة ذات السحايا الخطرة (أو الحمّى الشوكية كما هي معروفة في الخليج) التي أصيب بها ضيفي رضيعاً، قبل ثمانية وعشرين عاماً، وكنت ما أزال أعمل في “مستشفى العين الحكومي” (1988-1998)، الذي أصبح موئلا لعلاج كوفيد عام 2020، وتحول منذ أقل من عام إلى “مدينة الشيخ طحنون الطبية” العملاقة اللافتة باتساعها وجمال بنائها.
وذات السحايا مرض غير سهل. هو أحد أخطر أمراض الطفولة على الإطلاق، يأتي فيه الرضيع غائمَ الوعي مضطرباً محموماً بشدة لا يستطيع الرضاعة، يقيء كل ما يدخل معدته، إن لم تختلج عضلاته. على أنّ تشخيصه في الرضّع أصعب من الأطفال، فقد نجد علامتيّ صلابة النقرة (صعوبة ثني العنق إلى الأمام) وانتفاخ اليافوخ الأمامي المتأخرة، أو ربما لا تكونان واضحتين، ليبقى الحدس السريري مهما جدا (1)، فيما نجري الاستقصاءات اللازمة وأهمّها البزل القطني (سحب السائل الدماغي الشوكي من بين أسفل فقرات الظهر) وفحصه وزرعه.
مسيرة معقّدة من العلاج المركّز بالمضادات الحيوية الوريدية قد تطول عشرة أيام إن ثبت الخمج الجرثومي، مع التدبير الحكيم للسوائل والأملاح بما لا يؤذي الدماغ المُحاط بالقيح، والذي قد يؤدي إلى الاختلاجات في الأيام الأولى أو تبقى مع الأسف من العواقب.
كل هذا مرّ بسلام على ضيفي الوفيّ، مما ترك أطيب الأثر على حياته، وحياة أسرته التي عانت وقتها بلا شك الكثير، خاصة وأن الناس تروعهم كلمات (الحمّى الشوكية) و(الإبرة في الظهر)، وهم يتناقلون قصصاً محزنةً عن حالات حدث فيها شلل أو وفاة، ولهذا يمانعون بشدة ما لم ينل ثقتهم طبيبٌ حكيم (2).
هنا تعود إلى ذاكرتي قصة ثانية كنت فيها مناوباً في المساء المزدحم والمستشفى عينه، وكان المستشفى الأكبر (مع مستشفيي توام والواحة) في منطقة العين، قبل أن تغزوَنا المستشفيات الخاصة بعد عام 2006 (بدء التأمين) وتتكاثر المجمّعات الطبية الخاصة كالفِطر، وتسود بعدها سلوكيات جديدة.
في زحمة مريبة يتركها زميلك الذي سبقك، ويشدّك فيها الأهالي كلّ صوب ولده الذي يرى أنه الأكثر مرضاً، عليك أن تتحلّى بالحكمة والصبر. ولأنك أول من يرى المرضى، فالحالات كلّها (خام) أمامك، ومن عندك تبدأ الحكاية، فيما قد تنتظرك “ألغام وقنابل موقوتة” يجب تمييزها في هذا الزحام بسرعة، قبل أن تودي بصاحبها وبك.
بجولة خاطفةٍ اكتشفتُ رضيعاً لأب مدرّس ضفّاوي آتٍ من منطقة نائية. ولما شككتُ بالتهاب السحايا عند الرضيع، حملته طائراً إلى قسم الأطفال متجاوزاً عدة أدراج وكوريدورات نحو الطابق الثالث (وكنت وقتها فتياً)، وتاركاً ورائي الحالات التي يغلب (وترجو) ألا تكون أخطر، على أن أعود لها بعد قليل، يراه الأهل دهراً.
وتمضي الأيام.
بعد أشهرٍ كنت أنتظر المصعد في قبوِ الولادة، فإذا برجل غريب يسألني: هل تعرف أين قسم الأطفال؟ قلت: وما حاجتك إليه؟ قال: أبحث عن طبيب اسمه غالب، بحثت طويلاً عنه، ولم أجدْه.
الحقيقة أن عملي الأول كان فوق الإجهاد، بين 80 إلى 90 ساعة عمل أسبوعيا، حتى يصبح أي نومٍ أهمّ الأمنيات العزيزة. كان عملي في أماكن مبعثرة بين الحوادث في الطابق الأرضي، والولادة في قبو بعيد، والعمليات في قسم منفصل، وعنبر (جناح) الأطفال في الطابق الثالث، وقسم الحواضن في الطابق الأول، وقسم العزل في مبنى منفصل بعيد (نحو 500 متر مشيا)، والعيادات في مبنى متوسط، والاستشارات في أجنحة مختلفة، وأحياناً خارج المستشفى بتكليف رسمي، مع برنامج يتغير من يوم إلى يوم، بل من صبح إلى ليل. لكن ما سبب إصرار هذا الأب على ملاقاتي؟
قلت له: أنا ضالتك المنشودة. وكم كان فرحه جمّاً، ودهشتي عظيمة، عندما أعلمني أنه والد رضيع الحمّى الشوكية الذي تخرّج سالماً، وقد رأى أن يهديني ساعة يد تعبيراً عن شكره وامتنانه (3). حقيقة، شعرت بالخجل لهذا الموقف، فارتبك الأب، ثم كان أن قبلت هديته شاكراً، فمضى، ومضيت، والقصة في بالي على مر العقود.
قد يتساءل بعض القراء: أهذه حال كل الناس مع الأطباء؟
وأقول: ليس دوماً أيها الأصدقاء. والطبيب عندما يقوم بدوره فهذا واجبه ولا ينتظر الشكر من أحد، إنما يبتغي رضا ضميره ومرضاة ربه. هذا الشعور براحة الدماغ (أو راحة البطن إذا شئتم، لأن البطن دماغ ثانٍ) هو قمّة سعادته.. فإن حصد شكراً ولمس وفاء فخيرٌ وبركة.
إن قصص التجاهل وحتى الجفاء معتادة بعد انقضاء الحاجة إلى الطبيب (وغيره). هي قصص مؤلمة للطبيب الحق في عهد معاناة الإنسانية، مما صار، مع الأسف، مألوفاً. خذوا هذه القصة التي تتشابه بداياتها كثيراً مع القصتين السابقتين، لكنها بقيت في بالي أطول. ذلك أن الأب الأستاذ الجامعي العربي (المتأمرك) أنهيت خدماته بعد أشهر من علاج ولده، فعاد طائراً وراء البحار على أن يتواصل معي، وقد قدمت له خدمات متعددة طبية وغير طبية. مضت سنوات بصمت تام، حتى جاء يوم أتت فيه ممرّضة القسم تعلمني أن رجلاً على الهاتف يسأل عني. وكم كانت مفاجأة صاعقة عندما علمت أنه الأب ذاته عاد إلى مدينة مجاورة لي منذ سنوات، إنما ليسألني اليوم (لأنني ثقةٌ كما قال) عن زميل يريد خطبة قريبة له.
لا أدري إن تمّ الزواج (وأخمن أنه فشل)، لكن بالرّفاء والبنين لكل القراء والسامعين إن شاء الله.
العين، الخميس 30 كانون الثاني 2025
هوامش:
- الحدس في الطب (وغيره) أمر مهم، وهو موهبة تؤتى لأشخاص دون غيرهم، وفيه تنبّؤ يخرج عن المألوف والقواعد الطبية، لكن مرور الوقت يثبتها، فيما قد تودي معاندة صاحبها بالمريض.
- يؤتي الله الحكمة من يشاء، وهي أمر جميل، ومدعاة إلى التواضع، فالغرور (حتى الانتفاخ أحيانا) يعطي فكرة سيئة عن الطب والأطباء.
تتطلب مهنتي خلع الساعة (كيلا تنقل الأمراض إلى الرضع والخدج ضعيفي المناعة)، فتعودت من دونها. الطريف أنني عندما زرت دمشق صيف 2023، أخذت معي ساعة، وكان أن خلعتها أول وصولي، ونسيتها هنا