التصوير ضروري في مثل هذه الحالة
د. غالب خلايلي
أخبرني صديق عزيز أن ابنته الرضيعة ذات الأشهر السبعة وقعت على رأسها مساء خميس قريب، بينما كانت نائمة في الفراش مع أبويها!.
حالة من الفزع أصابت الوالدين حديثَيّ العهد بالوالديّة، خاصّة وأن الرضيعة راحت تبكي من الألم، لكنها ما لبثت أن نامت حتى الصباح، وكانت كل الأمور طيبة، لا بكاء، ولا قيء، ولا ضعف رضاعة، ولا تغيّم وعي.
وصادف أنني زرتُ صديقي بعد يومين من تلك القصة، وخلال ساعاتٍ قضيناها معاً كانت الرضيعة من أحلى ما يكون.
في اليوم الرابع أفاقت الأم على بكاء طفلتها في رابعة الصباح، وقد أحسّت بيدها تورّماً بسيطاً في جهة الرضّ، فأصابها الهلع. وكان أن هرعت وزوجها على الفور إلى أقرب مستشفى.
ومع أن الحالة السريرية للرضيعة لم تشِ بغير تسنين مؤلم، وبعض الوذمة مكان الرض (مع غياب الأعراض المنذرة المذكورة كافة) قام الطبيب بتصوير الرأس تصويراً طبقيا محوريا ليَطمئنّ على حالة الدماغ، ولمَ لا ما دام التأمين موجودا، وما دامت المبرّرات جاهزة، وأهمها رعب الأهل، لم لا نزيد رعبهم من أجل عمل التحاليل والصور؟
وتبين وجود كسر شعري في الجانب العلوي الأيمن من الجمجمة، مع غياب أي نزف داخلي، وعلى هذا قام الزميل يتحويل الطفلة إلى مكان أكبر وأكثر تخصصاً من أجل رؤية طبيب الأعصاب، الذي سأل الأسئلة المعتادة (عن القيء، والوعي، والحركات غير المعتادة..)، ثم أرسل الطفلة إلى البيت منبها إلى ضرورة متابعة أي تغير.
ترى، في حالة بسيطة مرّت عليها أيام من غير اختلاطات، أما كان ممكناً تجنّب كل ذلك من الفحص الأول، ومن ثم توفير القلق والتوتر عند الأهل لأيام تالية، عدا عن توفير ثلاثة آلاف دولار (مبلغ تقديري مني، ربما يكون أكثر)، وكذا الحماية من الأشعة التي تتعرّض لها أنسجةُ رضيعةٍ غضة؟
(طبعا هناك من سوف يجد مبرّراً في مثل هذه الحالة، ولا مجال هنا لمحاضرة).
***
قبل يومين، حضرتُ مساء إلى عيادتي، فوجدتُ أمّا هلعةً شاحبة الوجه تنتظرني. هي زبونة مخلصةٌ وأم لأربعة أطفال (أي خبيرة إلى حد ما) ما زالت تثق بطبيبها القديم في زمن المنافسة الشرسة، وزمن الحصحصة، ولو دون مبرر قوي.
قالت لي: رضيعتي، ابنة ستة الأشهر، وقعتْ على رأسها قبل ساعتين. لا أدري كيف حدث ذلك أيها الطبيب، مع أنني حريصة جداً (وأنا متأكد من صدقها)، إلا أنها انقلبتْ في غمضة عين. لم يحدث تغيّم وعي أو قيء، ولكنها كانت تريد أن تنام فمنعتُها حتى آتي إليك!. أنتظرك منذ ساعة.
من عادتي تأمل أوجه مرضاي فيما يتكلّم أهلوهم. وقبل الفحص طمأنتُ الأم إلى أنّ ابنتها بخير حتى تهدأ وترتاح. ثم قمتُ بفحصٍ دقيق بيّن لي أن كل شيء على ما يرام، سوى علامة بسيطة في الجهة اليمنى من الجبهة. أخبرتُها أن لا داعيَ لشيء، سوى بعض الباراسيتامول المسكّن، وأن علامة الرضّ قد تزرقّ، وقد يحدث تورّم بسيط فوق العين، وكل ذلك يزول خلال أيام إن شاء الله.
وأنا عندما أقول ما أقول، لا أعطي أملا كاذباً، ولا كلماتٍ مخدّرة للأهل، فكل شيء سوف يتضح بهتانه أو صحته بعد وقت، ومن ثم لا مجال للعب. كما لا أؤيد الهجوم الشرس على الأمهات المكلومات والصراخ بوجههن: أين كنت تتلهين يا سيدة؟ هل شغلك هاتفك أو مكياجك؟
لقد رأيت مثل هذا السلوك الجارح الذي يجعل بعض الأمهات ينهرنَ، ألا يكفيهن ما فيهن؟
أكتب إليكم بعد يومين من قصة مريضتي، التي أخبرتني أن كل شيء على ما يرام، وأن علامة الرض تكاد تزول.
على أنني يجب أن أكون دقيقاً وأخبركم أنني اكتشفت (من الملف الإلكتروني) أن مريضتي راجعتْ مستشفىً كبيراً بعد ساعات من زيارتي، لكن السبب لم يكن الأم، إنما إصرار الأب. لا أدري لماذا أثيرت مخاوفه؟ أحدّثته الأم عن قصة رويتُها لها؟ أم تملّكه الخوف من تجارب بعيدة؟
وعلى أية حال لا يلام الأهل إن خافوا على أولادهم.
والمهم أن الطبيب، جزاه الله خيراً، أخبرهما بعد انتظار ساعات بعد منتصف الليل أن كل شيء طبيعي، ولا داعي للقلق.

***
عندما كان أطفالي صغاراً، وقعوا جميعاً على رؤوسهم (وغير ذلك…)، وتوجّعنا معهم كثيراً، وتوجعنا كيف لم نأخذ كل الاحتياطات المناسبة، مع أنّنا نراعي أموراً كثيرة مثل وضع الطفل في سريره، ووضع مخدّات أو فراش إسفنجيّ سميك حول السرير. لكنّ الأطفال (خاصة إذا كانوا مثل أطفالي، الذين كبروا الآن) يفاجئونك بما لا تتوقع! ولا تعجب أن (يتعربش) أحدُهم على حاجز السرير ويرمي نفسه، ولا أن تقوم رضيعةٌ بعد سنتها الأولى بالتسلّق إلى أماكن لا يتخيل المرء عادة أنه يمكن الوصول إليها.
لا بد للأهل من عيونٍ ساهرة ومفكّرة في كل الأحوال، ولا بد للطبّ أن يكون أكثر شرفاً في التعامل مع الناس، بدلاً من إثارة الذعر والمخاوف، من أجل مزيد من الربح.
ويبقى كل ما نحن فيه يسيراً جداً أمام ذعر رهيب رآه العالم يومياً على الهواء، ذعرٍ ووجعٍ يجعلك تشعر أن أية معاناة، مهما تكُن، سخيفةٌ أمام أهوال الحروب وأوجاع الشعوب.
عافاكم الله وعافانا.
العين في 4 تشرين الأول 2025