هل يغني الواتس آب عن فحص الطبيب؟
د. غالب خلايلي
قصصُنا – نحن الأطباء – مع المرضى لا تنتهي، وقد كتبتُ (وغيري من الزملاء) الكثيرَ منها إلى درجةٍ شعرتُ معها بالزّهَق (1)، لكنّ الظرفَ الذي مرّ به العالم في كوفيد 19، وما سبّبه من أزماتٍ حادة (طبية ونفسيّة واقتصادية)، وعقابيل مزمنة تتكشّف كل يوم، وانتشار التأمين بعجَره وبجَره (ومن ذلك استغلالُه المُجحِف، وإيحاؤه أحياناً بمجّانية الطب)، أفرزا حالاتٍ شاذة لم أرَ شبيهاً لها في الماضي، على أمل ألا تكون قمّةَ جبل الجليد.
وآخر القصص التي رواها زميلٌ عزيزٌ كانت لطفلة جميلة الملامح والهندام، ابنة أربع سنوات، دخلت عيادته ذات مساء صيفي حار، برفقة والدها الأربعيني “المؤثّر الاجتماعي والدكتور في التربية” كما قال. وكعادته، استقبلهم الزميل أحلى استقبال، وأخذ قصّة مفصّلة جعلت الأب يتململُ. لكن الزميل الخبير تابع الفحص بدقّة، ثم كتب الوصفة بخطّ منمّق جميلٍ (لا تشبه الخطوط الهيروغليفية للأطباء) (2)، وشرح للأب تفاصيلها ثم ناوله إياها.
زال وجع الأب ههنا، ورفع الوصفة بفرح غامرٍ وقال: يا الله!.. لوحة!.. أي والله.. منذ زمن طويل لم أرَ مثلها. وكاد يفتح هاتفه في بثّ مباشرٍ لجماعة المتأثّرين به، لكن الزميل الذي انتفخ بعض الشيء واحمرّ محيّاه، استمهل الأب وهو يسأله: بالله عليك، من دلّك على عيادتنا؟
غرّد الخبير التربوي: سيدي، أنتم البدرُ في الليلة الظلماء! صِيتكم سابق، ولا أحدَ يجهل علمكم، خاصة بعد أن تضاءل عدد الأطباء الكبار في المدينة.

أضاء وجه الطبيب، وانتشى روحُه، وشاب حمرةَ وجهه نورٌ مشعّ، فاق طاقة بطارية تِسلا ضخمة موصولة إلى عشرة ألواح شمسية صينية في مكتب جاره المقاول، وتبع ذلك حديثٌ عامّ تناول أموراً مختلفة كثيرة، وبقيت المياه تجري بعذوبةٍ لم يعكّرْ خريرَها المُمَوسَق إلا الفصل الأخير: قيام الأب دون أن يمدّ يده إلى جيبه، متجاهلاً أن العيادة لا تقدم خدماتِها بالمجّان! أو ربما ظاناً أنها سوف تدفع له مبلغاً كونه مؤثِّراً سوف يلهب مشاعر الجماهير، ويُغني الطبيب بإسهاماته!. وعندما علم أن الأمر ليس كذلك، امتقعَ وجهُه، كما لو سقط البدر فجأة من كبد السماء، فانتفض تاركاً الوصفةَ على الطاولة (وقد عرف محتواها)، ثم رمى سهماً مسموماً قبل المغادرة:
- لِمَ لمْ تخبرْني منذ البدء؟ عيادات أصحابي المجّانية تملأ المدينة.
- سيدي، اعذرني. أخطأتُ التقدير، لكن أقول لك بكلّ محبّة: وصفتُك عليّ.
وكم كان محزناً لقلب الزميل أن يمشي الأبُ بابنته تاركاً الوصفةَ، وزاد استياءه اتصالٌ مفاجئ لسيدة كانت قد زارته مرةً قبل عامين، وهي تريد الآن رقم (الواتس) كي ترسلَ صور “حفاضات” ابنتها التي تعاني إسهالاً كريه الرائحة منذ أسبوع، وتريد حلاً هاتفياً مفصلياً مفصّلاً، فارتخت مفاصل الزميل وكاد يغمى عليه.
***
بعد وجومٍ عميق لم تستطع “لدّات” العيادة الشاحبة LED إنعاشَه، زال الكدر بكأس شايٍ خمير حُضّر بتأنٍّ على مصباح كحولي بعد نفاد الغاز والكاز في البلد، فاستعاد الزميل عافيته وهو (يشفط) الشاي بصخب عمال المرافئ، وهنا صعدت إلى السطح قصّة أخرى.

قال الزميل: قبل ثلاثة أشهر، جاء أبٌ بشاربين ناعمين يكادان لا يريا وقد تجاوز للتوّ مرحلة المراهقة. كان معه رضيع ابن شهرين تفوح من ملابسه روائح التبغ المعطن، يبكي ليل نهار بحرقة أزعجت أهل الحيّ كلهم، وهو يعاني المغص الشديد، وصعوبة التنفس و(الخروج)، حتى إن الأهل (بمساعدة الجدات والعمّات والخالات والجارات) استخدموا تحاميل مختلفة الأنواع، وسقوه مناقيع عدة نباتات، دون أن يسكت ولا يتسهّل، ولم يفد أيضاً تغيير عدة أنواع من الحليب. يقول: تعلم أن الأمّهات الحديثات (المحتسبات الصابرات على الزواج والأمومة) مولعاتٌ بالحليب المعلّب، ناسياتٍ أهم (العلب) وأجملها، وأن تغيير الحليب ديدن دكاكين الصيدلة والطب التي باتت منتشرة على مفارق الطرقات. ويتابع: والله، وما لك علي يمين، قمتُ بكل لطف ودماثة بالمطلوب، ليأتي بيت القصيد: الدفع؟! لا ليس الدفع الرباعي كسيارة الأب الفاخرة والذي ادّعى أنه لا يحمل “الكاش موني” (فتىً صاحب لغات!)، ولهذا سيحوّل المبلغ عبر المصرف، فكان أن أعطيتُه رقم حساب (عيش يا كديش)، ورحتُ أنتظر رسالةً تبلّغني بوصول المبلغ، ولكن دون فائدة حتى بعد مرور أسابيع، وعندما حاولت التواصلَ مع الأب بدا مصمّماً على عدم الردّ.
يقول الزميل: أقسم أنني لم أكترثْ، لكنّني أحببتُ أن أعمّق اكتشافي النفوس، ومن ثمّ كيف سيتصرّف ذو الشارب الخفيف، فقرّرتُ أن أتّصل مجدداً بعد نحو شهرين، وقد بقي لعيد الفطر يومٌ واحد. يومها كان الأب منهمكاً، أو صائماً بشدة، أو نسيَ رقم العيادة، ففتح السماعة:
- تتذكّرني دون شكّ؟!
- بالطبع، دكتورنا، كل عام وأنت سالم.
- تتذكّر أن لي عليك حقّاً، وأنا لا أحبّ أن تتشوّه الصورة الطيبة التي كوّنتها عن مرضاي.
- حقك بالتأكيد، وأنا معترفٌ به، ولكنني مشغول الآن بذبائح العيد، ولستُ قادراً على القدوم. هل ترسل لي موقع بيتك وسآتي إليك بالمبلغ؟
- إذا تذكرتني بعد العيد، أكن لك شاكراً.
ومرّت أعياد، مع الأخ (الذي لا ينكر بالتأكيد الحق)! فكان أن طوى الزميل ملفه في إضبارة (الله كريم) الحافلة بالملفّات المشابهة. كان لا بد من كأس آخر من الشاي، كي تنتعش النفس، وتجود بزبدة الكلام: عامان مضيا، لم يأتِ فيهما المذكور، ولكن أتى من يذكّر به. رجلٌ في خريف العمر له اسم يذكّر بالأمجاد البائدة، وشكل خارجي يوحي بالوقار. بعد فحص الولد، طلب (الرجل) من زوجته (الفتيّة جداً) الانتظار خارجاً (لهذا الأمر مدلولُه كلّما حدث)، ولما تيقّن من إغلاق الباب قال للطبيب: أقسم أن رجلاً أوصلني، وبقي (البوك – حافظة النقود) معه وعاااااااد. غداً، بإذن الله، يكون المبلغ عندك، وفوقه مبلغ آخر سأطلبه منك الآن ثمناً للدواء!.
كان الطبيب على يقين تام بأنه لن يرى وجه الرجل مرّة أخرى، لكنّه تصرّف بنبلٍ يُفترض وجودُه عند معظم الأطباء، وقال للأب، وكأنه لا يعرف الفصل الأخير من الرواية: عيادتك يا سيدي.
أما لماذا يفعل أخونا الطبيب كل ذلك، وهو يعلم بواطنَ بعض الناس وخدعَهم المكشوفة، بل يكاد يقرؤها منذ البدء، فكيلا يقال ما قاله صاحب الحصان لسارقه في القصة الشهيرة: “يا أخا العرب لا تذكر لأحدٍ ما فعلت، خشية أن تموتَ المروءة بين العرب”. وحدهم النبلاء هم أحصنةُ الرّهان في زمن نضوب الأخلاق.

العين في 15 نيسان 2025
هوامش:
- أذكر بمودّة مقالات السادة الأطباء في طبيبك (سامي القباني، عبد السلام العجيلي، غسان حتاحت، موفق أبو طوق الرفاعي، صادق فرعون…)، ومقالات الأساتذة: (فضلو هدايا، وليد مدفعي، ناديا الغزي، جان الكسان..)
- ولهذا بدأت الوصفات تُطبع في العالم المتقدّم، على أننا سبقنا العالم بكثير وقبل عقود من اختراع الحاسوب والشابكة، إذ عرفنا الوصفات المطبوعة بالآلة الكاتبة والمسحوبة على (ستانسل)، عند أطباء كانوا يجهزون عياداتهم المزدحمة بخمسة أسرة للفحصن، حيث تحضّر سيدة (غالباً ما تحمل الشهادة الابتدائية) المرضى، ويدور الطبيب بينهم كالفراشة، ويوزع وصفاته كما هي أو بتعديل بسيط.