وردة تشمّ وردة
د. غالب خلايلي
يعتمد ذكاء الآلة (الصنعي) على ذكاء من يلقّنها المعلومات ويبرمجها، ليصبحَ التطبيق، بعدئذ، بأيدي المستعملين، فماذا لو كان الغباء هو سيد الموقف؟
***
يحمّسُني صديقي المهندس الشابّ المفتون بالتقنيّة، بعد زجّي عنوةً بين زبائنه (بصفتي طبيباً لا نعجة له ولا خروف في الموضوع)، وإذ ذاك تلمعُ عيناه الحالمتان وهو يتحدّث عن (الذكاء الصناعي AI)، مالئ دنيا اليوم وشاغل الناس، وأن اليدَ العليا ستكون له في كل شيء (كل شيء!)، إذا…. إذا برمجه صاحب عقل مبدع وخَيّر. وآخر خبر منه قد يغير العالم هو أن غوغل أعلنت عن شريحة تدعى الصفصاف Willow تحل أضخم مشكلة في خمس دقائق، بينما كانت تحتاج سنوات ضوئية في أسرع الحاسبات.
وأنا لا أشكّ بعلم صديقي ولا بخبرته، ولا (وهو الأهم) بأخلاقه، فلدينا أكثر من دليل على تحكّم ذلك الذكاء بكثير من مفاصل حياتنا، بل بأعصابها وشرايينها، إذ لا يستطيع شخصٌ أن يتنفّس تنفّساً غير محسوب دون أن يومضَ ضوؤه الأحمر، وما أخشاه هو أن تبدأ عينُه بالاحمرار وإطلاق الشرر في يوم قريب تبعاً لنوع الصيغة المورّثية!
وفي هذا المقام، دعوني أيها الأعزاء، أنا الكاتب السّاخر الذي يرى الأمور بغير منظار، أبتعد قليلا عن الذكاء بنوعيه (الطبيعي والصناعي)، لأحدثكم عن (الغباء الطبيعي) المنتشر في العالم، وعن أثره المدمّر في غياب الذكاء البنّاء والمِقدام.
والحقيقة هي أن أوّلَ ما جذب نظري إلى الغباء المنتشر وأنا ناشئ، قولُ برنارد شو (على ما أتذكّر): “إذا أبدى 90 % من الناس إعجابهم بلوحةٍ فنية ما، فاعلم أنها سخيفة”. لم أكن واعياً كثيراً لمراميه، ولا لما قاله المتنبي قبل ألف عام عن “شقاء ذي العقل، ونعيم ذي الجهل“، ولكنني كلما زدتُ نضجاً ازددتُ قناعةً بترسّخ السذاجة وقلة الحيلة في المجتمع، مما يجعل الناس فرائسَ سهلة للنصّابين والمحتالين في كل مجال (الاقتصاد، الإعلام، السياسة، الدبلوماسية، الطبّ، التدريس..)، ولا أدري كيف ستكون حالهم مع تقنياتٍ تسرق الكحلَ من العين؟
أنظر حولي فأرى من مظاهر السذاجة وربما الغباء ما هو مريع حتى عند من لا تتوقع غباءهم:
–فمن الناحية الصحّية: تنتشر العادات السيئة بين الناس بشكل عجيب حتى لكأنّ الشيطان يحكمُهم، وألفُ عاقل لا يديرون رؤوسهم. تكلّمتُ على ذلك مرات، وأكّدتُ على النّهم والبِطنة والخمول وانتشار التدخين بين الناس، حتى لو عانَوا قصور القلب والرّبو… والسرطان. العائلة كلها تؤرجل من الأجداد والجدّات إلى الأحفاد، بصفاء وهناء، وفخر حتى في أحلك الظروف! ومهما حاولتَ النصحَ فأنت كالنافخ في قِربة (مفخوتة)، وستغدو مجالا للتهكّم والتندّر. وإذا جُلتَ ببصرك رأيت التشوّه يغزو الوجوه والأسنان، حتى التي كانت جميلة، باسم التجميل، هو السمُّ الزّعاف ينتشر، ويروّج له عبيد المال معدومو الضمير، وكم على الدماغ المبرمج على سلامة المنظر أن يعاني ويتأذى!. ولا بد هنا أن نضيف عواقب الحملقة بأجهزة الحاسب وشاشات الهواتف من جفاف العيون واحمرارها كالدم وعلل العنق والظهر والأصابع التي تلحقها آلام مبرحة قد تحتاج لاحقاً إلى جراحة تصحيحية، أو ربما لا يمكن تصحيحها.
–ومن الناحية الاجتماعية والوطنية: تتضاءل الأخلاق، وينعدم الحسّ الوطني بأحقاد تقلب اتجاه البوصلة، وبخلافات غبية ومناحراتٍ جانبية ترى الدخان ولا ترى النار، ويزداد الانفلات من عِقال العقل نحو الغرائز الحيوانية والمادية القصوى، فتنتشر العدوانية (الحروب، التنمّر) والأفكار السامّة (كالمِثلية والتحوّل الجنسي)، ويتحوّل الإنسان إلى آلة صمّاء تسيطر عليه الوسائط الاجتماعية التي تسطّح دماغه وتعدم قدرته على التفكير، فإذا بمن يُسَمَّون مؤثّرين Bloggers (وما أشدّ تدميرَ معظمهم) أهمُّ شخصيات المجتمع! يجمعون أموالا طائلة من أهل السذاجة، يصبح معها مروّجو فكرة الحظّ و”الماركات” وشياطين المال قُدوات، وإذا بالتذاكي والفهلوة عُمَدَ نجاحٍ بدائلَ للجد والتعب، حتى ليبدو المناضل الشريف شخصاً غبياً يضيع وقته ما دام لا يكسب إلا حلالاً من عرق الجبين.
–أما من الناحية التقنية، ناظمة نبضنا اليوم: فكم يدهشُك تطبيقٌ تجاري يبيعك كل شيء من الإبرة إلى السيارة، ولا يتباطأ أو يخطئ. عجيب، أي والله عجيب، وهو يقدّم خدماتِه للملايين في غير قارّة دون إبطاء. وفي الطرف الآخر تنصلب ساعات وربما أياماً وتشخص عيناك ويشحّ بصرك أمام تطبيق محلّي محدود تضطر إليه، فتُقتَل لبُطئه وغبائه، ويبقى يلفّ ويدور ساعاتٍ، معيداً إياك إلى نقطة الصفر، حتى تظنّ بنفسك الظنون من أنك لا تفهم، أو أنّ الشابكة (النت) لا تعمل، أو أن جهازك قد تجمّد (بلّط)، فإن بقيت مصرّاً فلا بدّ أن تنتهيَ بتشنج عضلات عنقك وكتفيك وعينيك، وشلل دماغك، عسى أن تنتهي من مصيبتك بأقل الخسائر في وقت قريب، دون منّةٍ من مديرٍ صلفٍ لا يفهم، أو مهندس نجح (شحطاً) فشحط معه جمهوراً بأكمله، فيما ترفع عقيرتك مع (عبد الحفيظ حالم): “واللي شبكنا يخلصنا“.
ألم يكن حريّاً بهؤلاء (الأذكياء) سؤالُ صاحب متجر صغير (للتوفير!) فينوّرهم قليلا؛ إن لم نقل سؤال مهندس مبدع حارَ – في عصر ضغط النفقات الأساسية – في أمر تدبير خبزه؟
والجميل، بعد كل هذا العَنَت، بروزُ مساعد افتراضي لا يُسعِد ولا يُساعد، إذ لا يعرف سوى إجابة واحدة على أي سؤال: (لم أفهم ماذا تقصد!). واعلم أنك مهما (تَنَّحْتَ، العفو منك) وحاولتَ، فإنك واصلٌ إلى الغباء ذاته الذي ينتهي بعدد من الأوجه (ايموجي) من حُمرٍ عابسةٍ إلى صفرٍ باسمة، يُطلَب منك اختيار أحدها، على أساس أن الفريقَ المُطوِّرَ ينتظر رأيك على نارٍ، فيما أنتَ تتقلّبُ على جمر الغيظ.
–أما الأجمل بعد كل هذه المادية المقيتة في كل أنفاس العباد فبدعة “الأدب الذكيّ”، يعني ما ستدبّجه يراعة الذكاء الصناعي!.. والحقّ أنني أخشى هنا أن تقضي هذه البدعة على الأدب نهائياً، مكمّلة مهمّة طغاة العالم، وحمقى المنصّات الاجتماعية، مع أن صديقي المتفائل يؤكد أنه إذا تمكّن العلماء والأدباء من تلقين الأجهزة مبادئ اللغة والكتابة، فإنها سوف تنتج أدباً سويّاً.
جميل جدا أيها الأصدقاء! ولكن هل بلغت وردة بلاستيكية مهما اشتغلتْ عليها يد الصانع مقام وردة طبيعية تفوح شذىً؟ وهل بلغ حليبٌ صناعي، شركاتُه أقوى من الدول وأمرّ، مقامَ لبنِ أمّ حنون بـ “أوعيتها” الخلابة؟
الأدب الجميل مثل كل الفنون هو إبداع (خارج الصندوق)، وفيه روحٌ فنّي لا يمكن نفخه في الآلة، وحتى لو شاء المبرمجون حجْرَنا في صناديق محكمة الإقفال، فلن يقدروا على حجْر عقولنا، بسوى التسطيح الذي تحدّثنا عنه آنفاً، وصار – يا للعار- من علامات الأكابرية!
واليوم، أيها الأعزاء، مع فوضى معلومات الوسائط (الميديا) المغلوطة جهلاً، وعلى الأغلب قصداً؛ والتي تكاد تمحونا بمحو حتى أسس اللغة والجغرافيا والتاريخ، ومع فوعة الذكاء الصناعي، لا سيما عند محبّي “البروظة”، ولأغراض لا أظنّها تخدم الناس العاديين أكثر من الأنظمة المترصّدة، أخشى ما أخشاه أن يكون الغباء (الطبيعي) هو سيد الموقف.
حينئذ على المسالمين البسطاء شآبيب الرحمة المضاعفة، فهم بالذكاء البدائي لم يسلموا، فكيف إذا وقعوا بين فكّي تمساح عاتٍ: عُلوي من غباء فائق، وسفلي من ذكاء مرعب، فأين هم منتهون؟
العين في 20 كانون الثاني 2025