تصفرّ الدنيا مع التهاب الكبد
د. غالب خلايلي
هل من تعريف واضح للمرض؟
كتب المؤلّفون الطبّيون كتباً لا نهاية لها في وصف الأمراض وعلاجها حتى غدت بحراً، ومع ذلك لا يمكن تعريف المرض مهما قرأنا عنه.
فماذا لو وصفتُ لك البحر وأنت في الصحراء، هل تدرك ماهيّة البحر؟ وماذا لو وصفتُ لك النعيم، وأنت لم ترَ غير الجحيم يوماً، هل تدرك معنى الجنة؟
أن تصابَ مرّةً بالحمّى أو القيء أو الغثيان أو الألم الممضّ أو القَمَه (فقدان الشهيّة حتى لأطيب طعام) أو صعوبة التنفس والاختناق يجعلك تدرك ما هو المرض.
أغلب الناس إذن – إن لم نقلْ جميعهم – خبروا المرض بأنفسهم أو راقبوه عند الأحباء، ومَن أكثرُ من الأمّ معرفةً بالمرض وهي التي عانت يوم حملتْ، وسهرتْ بعد ذلك الليالي، سواءٌ أبعد لقاح (حارّ) لرضيعها أم خلال غزو إنتاني؟
ولا بدّ أنّ مَنْ عانى مِن المرض أو رآه قريباً منه عرف أنّه دائماً ذو شقين: بدنيّ ونفسيّ..
والمؤسف أن أغلب الناس (والأطباء!) يركّزون على الشقّ البدني (وربما المالي)، وينسون غالباً الشق الأهمّ (النفسيّ)، وهو الذي يترجم لنا المعاناة الحقيقية من المرض.
ليلة واحدة من الحمى أو ألم نزول حصاة حالبية يجعلك توقن أن المرض بؤس.
ليالٍ من فقدان الشهية لكل شيء مع غثيانٍ عند شم أية رائحة في التهاب الكبد مثلاً شيء لا يطاق.
هلوسةٌ وذعر لأيام بسبب حقنةٍ دوائية أو حمة كوفيد مثلاً أو أنفلونزا حادة تعدل الدنيا وما عليها.
التعب الخرافي أثناء علاج السرطان رهيب.
إن المريض إنسانٌ ضعيفٌ هشٌّ شفّافٌ مهما كان قبل مرضه قوياً جبّاراً أو متغطرساً، فيشعر وقد كان كالنسر في الأعالي أنه انطرح أرضاً بلا حراك، ليتجرّأ عليه أدنى زاحف ضعيف.
لا شك إذن أنّ في المرض درساً من دروس الحياة لكلّ قويّ متجبّر لا يرحم، عندما يكتشف أن بعوضةً صغيرة يمكن أن تهلكه، لا بل إن حُمَةً (فيروساً) لا ترى حتى بمجهر عادي يمكن أن تقلبه رأساً على عقب، وتجعله في حالةٍ يرثى لها من الضعف والارتخاء وغياب الشهيّة وفقدان الرغبة بأي شيء.
أما المتواضع أصلاً فهو لا يحتاج إلى هذا الدرس، وإن زاده المرض شفافية وتواضعاً.
سمعتُ من أحد أساتذتي المتواضعين يوماً (وقد رأيته يكنس الدرج المؤدّي إلى عيادته، إذ مرضتِ المستخدمة يومها) أن المرض ذلٌّ يصيب الإنسان، أخبرته بذلك سيدة عجوز عجنتها التجارب وأنضجتها الأيام.
والواقع أنّ في المرض شيئاً من الذلّ، إن لم نقلِ الكثير، خاصّة إذا شعر المريض أنّه بعيدٌ عن الاهتمام والعطف والرعاية، أو غير قادر على تكاليف العلاج، وما من يتكفّل بذلك في أيام ضعفه وشيخوخته، في عصر غياب الشفقة والتكافل، وغياب الضمان الاجتماعي والحكومي، بل حتى الكلمة الطيبة من الأقربين والمنتفعين في سابق العهد، فيشعر أنه ريشةٌ في مهبّ الريح، وأنه أضاع عمره هباء في خدمة أناس لا يحفظون الخبز والملح، أو منح الثقة لمن ليست عندهم حميّة ولا إنسانية.
وعلى أية حال، كل الناس سوف يمرضون ويضعفون عاجلاً أو آجلاً.

صحيح أن المرض مزعجٌ ولا يحبّه أحد، لكن فيه من جهة أخرى (لنقل: فلسفية) عبرة، ولعلّني لا أجانب الصواب إن قلت: إن المرض هو زكاة العافية.
فعندما يكون المرء في تمام قوتّه يشعر أنه يملك الدنيا وما عليها فلا يأبه لشيء، وعندما يدفع تلك (الزكاة) يعود إلى تواضعه.
المرض أيّها السادة حقيقة في الكون، ولا بد أن فيه سرّاً وحكمة، ومن ذا الذي سيبقى قوياً إلى الأبد دون أن تدركَه شيخوخةُ الأعضاء، وتنكشفَ الحجب.
فقليلاً من التفكّر والتواضع والإحسان أيها الإنسان.
العين في 21 كانون الأول 2025






















































