عدم الإكتراث بصحة المريض
د. غالب خلايلي
لقي مقالي الأخير (صرخة في وجه التوحّش الطبي) ردود فعل كثيرة، أغلبها إيجابي ناضج أكّد على غياب فكرة التعاطف نهائياً من عالمنا، وبعضها برّر لـ (زملاء) سلوكهم الخشن (الاضطراري أمام مرضى عدوانيين أو غير متفهمين) أو برّر مغالاتهم المادية، فالأطباء ذوو حاجات أيضاً في عالم غدا كله متوحشاً، فيما طلب بعضهم التفريق بين الدماثة واللطف (بوجود مصلحة) والتعاطف النقي. ولا عجب أن تكون الردود بمثل ذلك النضج، فأنا أتحدّث عن عينة مختارة من أبناء جلدتي ودفعتي (خرّيجي طب دمشق 1984)، لكل منهم خبرته الواسعة في مروحة بلدان عربية وأجنبية، ومروحة اختصاصات غنية، ومن أصدقاء تميزوا بطول التجربة وعمق القراءة. وإنني أعد هذا المقال استثنائياً بقلم مجموعة مخلصين، دوري فيه التنسيق، الأصعب بكثير من كتابة مقال شخصي.
***
- كتب الصديق المتقاعد منذ نحو عقد في مسساجا، كندا، الأستاذ الدكتور عبد الحميد البياتي، الجراح الشهير في بغداد والعين: “التعاطف هو جوهر الرعاية الصحية الجيدة. اللهم اشهد أنني أدّيت رسالتي كذلك، والحمد لله أتلقاها اليوم في بلد المهجر”.
- وكتبت الصديقة الفنانة نجوى نحاس: “فعلاً أعلى أشكال المعرفة هو التعاطف. كم يفتقد كثير من الأطباء هذا الشعور حيث طغت المادة على المشاعر، ويا حبذا لو يدرس موضوعه في كليات الطب المختلفة”.
- أما طبيبة التخدير لينا حسيني فقد كتبت: “التعاطف مهم، ولكنه في هذه الأيام يكاد يُسَجل في خانة الخيال العلمي! هل هو موجود الآن في مشافي بلادنا؟ يبدو وكأنه شبه معدوم، لكن يبقى الأمل موجودا ليس لاستعادة الطبيب إنسانيته وتعاطفه فحسب، ولكن ليتحسّن كل ما هو سيئ في هذا العالم المتوحش”.
- وكتبت الصديقة الدكتورة (ل ح): “أصبح التعاطف من الكماليات، وفاقد الشي لا يعطيه. الطبيب مثقل بهموم الحياة ومصاعبها، والمريض لا يحترم الطبيب ويستكثر عليه أي مبلغ رغم دفعه الأضعاف في المطاعم وعمليات التجميل. أخالفك الرأي بالمقدمة فقط، فخيار المشفى الخاص أحياناً هو لصالح المريض، ونصيحة طلاب الطب بالسفر ليسخطأ مطلقاً، كلّنا سافرنا للاختصاص خارجا، ولعلك لو جلست بيننا أطول لعذرت الأطباء وغيرهم على تغير أخلاقهم”.
- وكتبت طبيبة الأطفال صونيا الحلبي رسالة مختصرة عميقة: “للأسف، التوحش الطبي صار القاعدة، والتعاطف والرحمة هما الاستثناء. القضية شائكة، ومعالجتها من جذورها معقدة، وتبدأ من الخطوات الأولى التي يُنتقى فيها الطبيب، ويُسمح له أن يسلك طريق هذه المهنة التي توصف بالإنسانية.
- وكتب الدكتور (س د) اختصاصي تقويم الأسنان: للأسف كل يوم هناك قصة عن تجارة الطب. الموضوع متشعب مادياً ومعنوياً، وأطباء كبار لا يرحمون، وخرّيجون جدد يريدون فوراً بيتاً فخماً وسيارة حديثة، لكن لا يخلو الأمر من إنسانيين، مع ملاحظة أن تكاليف المعيشة صارت غير معقولة، وكمثال عن نفسي: قيمة المعالجة عندي حالياً لا تتعدى 20 % عما قبل الأحداث، وهناك كثر مثلي. أما موضوع الهجرة فهو واقع متداول مع الأسف.
- الصديقة الدكتورة (ف ط) كتبت: للأسف إنها الحقيقة، عندما أصبح الأطباء تجاراً، ولكن يبقى التعاطف بين الطبيب والمريض أقوى عامل يدفع الأخير ليثق بطبيبه ويعدّه ملاذه الآمن. أتكلم عن تجربة شخصية طويلة. لطالما كان الطبيب هو المثل الأعلى ويتوقع جميع الناس منه الكمال، لكنه في النهاية بشر له عائلة ومتطلبات، وقد تكون معاناته أصعب ممن هم خارج المجال الطبي، فيقاسي وهو يعلم ما هو المتوقع منه”.
- وكتبت صديقة مختصة بالأمراض الداخلية: “الحمد لله أهتم كثيرا بالتعاطف ومشاركة المريض معاناته، وألمس عند كثير من المرضى الراحة والاطمئنان. يدخلون عيادتي بوجه خائف وبعد النقاش يخرجون كأنهم ولدوا من جديد، وكثيرا ما يذكرون أمامي أنهم لا يتجرؤون على نطق حرف زائد أمام غيري. لا أنكر أنني أتغير في أوقات أخرى، مثل حالي بعد أن أكون قد قضيت وقتا طويلا بالشرح، فتعود المريضة وتسألني: لماذا لم تطلبي لي صورة، أو تحليل دم؟ ولهذا أردد دائما أمام المرضى أنه تنقصهم ثقافة التعامل مع الطبيب. مثال آخر لمريض شخص حالته بنفسه ووضع العلاج الذي يجب أن يتضمن مضادا حيويا! تبدو هنا مشكلة إقناع المريض بما يحتاجه فعلا، فإذا به يخرج وقد أسف لدفعه الكشفية لأنني لم أكتب له حتى الفيتامين الذي أكرهه كره العمى. وأخيرا يجب أن نقدر أن الطبيب إنسان له متطلباته المادية، وتحقيقها ليس بعداً عن الإنسانية إلا في حال الغش وإيهام المرضى بما ليس فيهم أو بطلب تحاليل وصور ليس لها استطباب. أقدر دور التعاطف جدا، ففي ذات يوم بعيد أصيب زميل هندي بصدمة تأقية نتيجة دواء سيبروفلوكساسين وكاد يموت، وكم سر بزيارتي القصيرة عقب إنقاذه ومصافحتي العفوية له.
- أما الزميلة الدكتورة (س ع) فقد كتبت: فعلا التعاطف من أهم احتياجات المريض كلنا بشكل أو بآخر أصبنا بأمراض بعضها كان خطيراً نسبيا، وكنا بحاجة في هذه الأوقات للتعاطف لا للشفقة نحتاج من يفهم ما نعانيه كي يساندنا.
- ابتدأ الصديق الأستاذ الجامعي القدير (ب ص)، جوابه ببيت شعر:
بلايا الدهر بين الناس شتّى وأعظمها يصاب بها العظيم
أنا موافق على كل ما تفضلت به، وعندي إضافات وأمثلة (قول على قول): في لقاءات مع أطبائنا الجدد، من جملة ما أقوله لهم: إن أحب الألقاب على قلبي اللقب الذي أتمنى ان أكون أهلا له (حكيم). لقب استاذ أو دكتور أو معلم أو استشاري كلها عادية. وهناك مفهوم (التنمر) في الاتجاهين، والأسوأ أن يكون على الطبيب. أرى التعاطف والإنسانية وتحمل المريض إلزاميا منذ اليوم الذي اخترت فيه هذه المهنة، لكن لا تنسَ مقولة (اتّق شرّ من أحسنت إليه) وإن كانت (لا تزر وازرة وزر أخرى). إن المريض يتذكر كل كلمة يقولها الطبيب مازحا أو جادا. بعضهم يحفظ الود، وبعضهم يسيء الفهم.. والبعض (ممازحاً) إذا لم أحببه، سبحان الله لا يشفى على يدي. وعندما يقول الطبيب للمريض: ما رأيك في أن تجلس مكاني؟ لا أعتقد حدوث ذلك (من الباب للطاقة) كما يقال، ففي كثير من الأحيان يكون المريض (مطلّع عين الطبيب)، لكن للأسف يُدان الطبيب بكلمته الأخيرة تحت عنوان (لماذا اسمك دكتور؟). مؤسف أيضا أن يلعب زميلٌ حاقد دورَ محرّض للمريض على زميله، أو أن يسيء الناس فهم النتائج في الحالات الصعبة التي يعد إنقاذ الحياة فيها إنجازا كبيرا (حادث سير مروع مثلا)، وإن بقيت آثار لاحقة مثل نوب الاختلاج إذ يعدها الناس وصمة.
- وسجل الزميل الجراح (م غ) من بلد عربي رسالة مطولة تصلح لمقال، أكد فيها على تحول الأطباء المؤسف إلى ماديين عبر ممارسات غير مقبولة، وحمد الله أن المستشفى الخاص الذي يعمل به لا يضغط على أي طبيب من أجل زيادة المكاسب، وإن وجد أفراد يسعون إلى ما يسعى إليه جمع كبير من أطباء العالم. كما ذكر مثالا سيئاً عن طبيب أطفال رأى أماً تبكي ملهوفة على صغيرتها المتعبة. أصر على خروجها بعد وضع الطفلة على السرير، حيث فحصها بيد بينما الأخرى في جيبه لم يخرجها. ركضت الأم وراءه تسأله: “شبها بنتي”؟ أجاب بلا اكتراث ودون أن ينظر في وجهها: “شو شبها؟ ماتت!”.
- أما الصديقة طبيبة النساء في العين غزل ماهري فقد أيدت برسالة صوتية كل ما ذكرت، واكتفى أصحاب كرام برسم القلب الأحمر الصغير أو علامة الإبهام المرفوع.
- وكتب الصديق الجراح (م ش) من فرنسا: “كل ما ذكرته صحيح وواقعي نلمسه كل يوم في ممارستنا، لكن مع الأسف فإن الضغوط الإدارية والقانونية والأنظمة تجبرنا على اختصار الوقت لكل مريض والابتعاد عن الإنسانية. لكن، ولله الحمد، تربينا على أسس وتقاليد المعاملة الحسنى مع الآخرين والمرضى الذين يلجؤون إلينا، ولا أنسى ما أوصتني به والدتي – رحمها الله – يوم تخرجي أن أعالج كل مريض كأنه أحد أفراد عائلتي، وكم أمسكت بأيدي مرضاي عمداً لحظة التخدير، قائلاً بنفسي (باسم الله) عوضا عن المخدر.
- أما الزميل الدكتور علاء العجيلي صاحب فكرة التعاطف في المقال، فقد عد مجمل الردود نجاحا مهما، وهو بيت القصيد (تحريك الحوار).
اللطف غير التعاطف، وأمثلة:
الصديق الدكتور أيمن الشربجي، زميل الدراسة في ثانوية ابن خلدون وكلية الطب، والذي يعمل في شركة عالمية لتطوير الأدوية رد بأمثلة وقام بشرحها:
- في مستشفى عربي خاص، كانت طفلة بين الحياة والموت في العناية المشددة. كلف الطبيب المقيم ممرضةً بمراقبتها ليلا، دون أن تزعجه دون داع. قلت له: أليس من الأنسب أن تراها بنفسك؟ أجاب: “وهل أنا عبد أبيها”؟. هذا شذوذ في الشخصية أقرب إلى السيكوباتية، فراحة الطبيب أهم من حياة طفلة. طبيب كهذا يجب طرده من المشفى ومن المهنة، إذ لا أظن أن تدريب التعاطف سيغير سلوكه.
- في مستشفى جامعي غربي، وفي العيادة العظمية، عين طبيب أوربي حديث العهد بالمجتمع. دخل المريض المسنّ ببطء وإعياء، وقدما الطبيب فوق الطاولة. قال للمريض بسخرية: كيف أستطيع خدمة حضرتكم؟ هذا طبيب اعتاد على غطرسة السلطة. أنا طبيب إذا أنا أعلى مقاما من المرضى. لحسن الحظ تعلم مع الوقت أن سلوكا كهذا لا يقبل في مجتمع تسوده المساواة.
- مركز للطب العام في إحدى الضواحي الغربية، وفيه نحو عشرة مرضى مع طبيب واحد عليه فحصهم كلهم، وتشخيص المرض، وكتابة الوصفة، في وقت قصير بين الساعة التاسعة والعاشرة والنصف صباحا. معالم الكرب stress ارتسمت على وجه الطبيب الشاب. قل كلامه، وركز على الأعراض فقط، ليقاطع المريض مباشرة إذا أراد التعبير عن ألمه أو قلقه. لا وقت للعواطف! نقص التعاطف هنا ناجم عن سوء التنظيم، والوقت المتاح لمقابلة المريض عامل أساسي في بناء الثقة.
- اللطف واللباقة غير التعاطف الحقيقي: فأطباء العناية الخاصة ألطف مع المريض (الدفّيع) دون أن يعكس ذلك تعاطفا صادقاً.. ثم إن الجشع إذا استشرى قتل أي تعاطف.
اللطف مع زبون بنحو أربعين ألف دولار: في معرض حديثي مع زميل مخدر، بطل حسب وصف زملائه، الأمر الذي جعله محط لوم لا بطولة، والسبب أن المنشأة التي يعمل بها تريد مكاسب صافية، وترى أن تحويل المريض الخطر إلى مستشفى حكومي هو التصرف الحكيم. المهم، قلت له: كم كان الزملاء لطفاء معي يوم كنت بحاجة إلى استشارتهم؟ قال لي ضاحكا: وهل غير اللطف مع زبون بنحو أربعين ألف دولار (قيمة الدراسة والعمل الجراحي)؟ وهنا أضيف قول الأخ أيمن: قابل بيل غيتس مرة فريقا من مؤسّسات خيرية، وصرح في الختام أنهم كانوا لطفاء جدا معه، فانفجر الجمهور ضاحكا.
العالم كله توحّش: هذا مختصر رسالة من صديق قديم (ت ن)، درس الكيمياء في لبنان، وعرفته في العين مندوبا أخلاقيا لشركة حليب لأطفال شهيرة، ثم تحول إلى العمل الصناعي في لبنان، فأوربا. يقول: صحيح 100%، ليس التوحش فقط عند الأطباء، بل في كل مكان. أراه كل يوم في الشركات (جميع المجالات). لا مزيد من التعاطف مع الموظفين، خاصة إذا كانوا يمرون بأوقات صعبة. أرى ذلك في مدارس بلادنا حيث أصبحت عملاً بحتًا (بزنس). كان التدريس، مثل الطب، مهنة، وليس مجرد وظيفة. المعلم يشكل المستقبل من خلال تربية الأطفال ليصبحوا قادة الغد. لقد فقدنا هذا في منطقتنا. في سويسرا على سبيل المثال، لا يزال المعلّمون يحظون باحترام كبير، ويختارون بعناية فائقة خلاف كثير من الأماكن الأخرى. أرى ذلك أيضًا هذه الأيام في العائلات والأقارب.لا مزيد من الرحمة حتى بين الإخوة. يبدو الأمر كما لو فقد الارتباط العاطفي.. وهكذا، الحقول تلو الحقول، لم تعد الرحمة موجودة.
هل الطمع حديث عهد؟ وما واجبنا تجاه الأجيال القادمة.
ليس الطمع حديث عهد بالتأكيد، فمنذ زمن بعيد كان هناك رحمانيون ومستغلّون، وكانت هناك ملائكة وشياطين. لكن نَظْم الاحتيال والقسوة المادية بازدياد، مع تهاوي منظومة الأخلاق. في النهاية: كل يتصرف حسب أصله وأخلاقه.
سؤالي الجوهري هنا: هل تبرر قسوة الحياة أن يقسو الناس بعضهم على بعض؟ سوف يمر كل من يفعل ذلك بالتجربة ذاتها وسيقسو الناس عليه. هل نسرق كي نأكل؟ هل نترك أوطاننا لأنها تمر بمصاعب؟
سوف ينتقد بعض قرائي أنني وعددٌ ممن كتبوا هنا، لا نعيش في بلدنا، ومن ثم لا نقدر متاعب الناس. معهم حق إلى حدّ ما، إذ لا يعرفون كيف نفكّر ونتصرّف وطنياً. لكنهم هم أيضاً لا يعرفون متاعبنا وماذا نقاسي. مرة ذكر لي زميلي ع ح، يوم كان يختص في أميركا، مثلا شائعاً يقول: “ما في الضفة الأخرى أحلى”. هكذا طبع البشر.
إذن، على الأقل، لنفهم بعضنا بعضا، ولنكن، ونحن في خواتيم حياتنا الوظيفية، القدوة الصالحة للجيل الآتي، ولنتحِ الفرص لهم وندرّبْهم، لأنهم هم من سوف يعالجوننا في وقت ما.
ختاماً، وفيما كنت أطالع رسائلي، رأيت هذه المقولة المحزنة للإمام عامر بن شراحيل الشَّعْبي (21- 103 هجرية): (تعايش الناس زمنا بالدِّين حتى ذهب الدين، ثم تعايشوا بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعايشوا بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم تعايشوا بالرغبة والرهبة.. وسيتعايشون بالجهالة زمنا طويلا).
يا الله.. كم مرّ وقت طويل على جهالة البشر! هل من لا يرى شمساً لم تحجب حتى بمنخل؟
العين / الخميس 29 آب 2024
تذكرة بمقال (صرخة في وجه التوحش الطبي): https://taminwamasaref.com/dr-khalayli-5/