المزاجي قنبلة موقوتة
د. غالب خلايلي
ما أصعب المزاجي! تراه تارةً محلّقاً في سابع سماوات النشوة والحبور، كأنه كائنٌ ملائكي يعيش في الجنة، حيث كل شيء (على الحشيشة) رائع وجميل وفتّان وموحٍ بالتفاؤل، ثمّ، وبرفّة جفن، يهبط كالصقر إلى أعمق أعماق الجُحور، فيسوَدّ كل ما كان منيراً ومشعّاً قبل قليل. وصاحب المزاج، الناري في حده الأقصى، لا تفهم له يميناً من شِمال، ولا حقّاً من باطل، كما لا تعرف كيف تتعامل معه.
روى لي معلّمي (أبو الفرج الرّواقي) أنه رأى ببصره وبصيرته طيفاً من الأمزجة والناس، واضحةً كعين الشمس في آب الصحراء الملتهبة، أو خفيّةً كهلال شهر شباط في بلاد الضباب.
والمزاجيون الواضحون كعين الشمس أصناف:
– المزاجي اللحظيّ: موجاته الدماغية حادّة جداً، تتغير ويتغير معها صعوداً وهبوطاً بين لحظةٍ وأخرى، مثل سكّر الدم عند سكّري نهم، أخذ حقنة زائدة من الإنسولين ثم وقع في برميل عسل أو سلّة شوكولاتة، فلا يمكنك تفادي تقلّباته مهما كنت حذِقاً حذراً، ولهذا يغلب أن تبتعد عنه ولا تقاربه إلا إذا قاربك بنفسه، فتستعيذ بالله، وتُبقي (دائماً) بينك وبينه (مسافة أمان)، كي تستطيعَ الفرارَ إذا تطلب الأمر.
– المزاجي الساعيّ: موجاته الدماغية حادّة، ويتغير مزاجه بين ساعة وأخرى، أو بين صبح ومساء، فكلام النهار يمحوه الليل، وكلام الليل يمحوه النهار. وهذا يُعامل كالأول مع مقدار تفِهٍ من التراخي (لا تنقصك المشاكل).
– المزاجي اليومي: صاحب الموجات تحت الحادة المتقطعة، تراه سعيداً يوماً أو أياماً بأكملها، ثم ينحطّ في يوم أو أسبوع تالٍ، لكنك مع الزمن -إن كنت ذا بصيرة- تعرف كيف تحتاط منه، وتحسب حسابك كيلا تقع في إحدى نوبه المفاجئة.
– المزاجي الفصلي أو السنوي: وموجاته منحنية، ففي أشهر لا تصل إلى سنة، تراه كالبحر الهادئ، الذي تتمنّى أن تبقى قربَ شطآنه طويلاً دون أن تملّ، وفي أشهر أخرى تراه كالموج الصاخب لا ترغب برؤيته إلا من بعيد، ولا بالتواصل معه حتى برسالة أو بنكتة، لأنه يشبه وقتها (الباستيل) الذي تتكسّر عند جدرانه الصرخات وتتحطم الآمال.
أما أصحاب المزاج الخفي فهم أخطر بمراحل، إذ يصطنعون الانفتاح والدفء فيما هم ساخنون يغلون كالمراجل دون أن تلحظَ العينُ حتى الخبيرة ما فيهم.. ومن هؤلاء السياسيون والدبلوماسيون، والتجّار الماكرون (في التجارة والطب والهندسة والمحاماة..) أصحاب الأوجه الرخامية أو السيراميكية فلا تفهم تعابيرهم مهما كنتَ حاذقاً، لأنهم، بالطبع والتدريب، خبراء في رسم حركات الجسم، ووزن نغمات الكلمات، فلا تدري متى ستحلّ عليك لعنتهم، وهم يبتسمون أو يضحكون.
ومما أخبرني به معلّمي أبو الفرج هو أنّ المزاجي شخصٌ يرى (ولو ادّعى التواضع) أنه أفضل منك في كل شيء: في المدرسة (أشطر) منك، ورأيه أرجح من رأيك، وحبّه للوطن أكثر من حبك، وأولاده أفضل من أولادك، وسيّارته أحسن من سيارتك، فلا تحاول أن تثبت العكس.

والسؤال الآن: هل يوجد من هو (صِفر المزاج)؟ وهل يوجد إنسان رائق بالمطلق كصفحة الماء العذب في كل وقت؟
في الظروف العصيبة المزمنة، أشكّ أنه يوجد شخص رائق. لكن حتى في الظروف العادية (أيام زمان رحمها الله) أعتقد أن مثل هذا الشخص مستحيل الوجود، ما لم يكن في أتمّ البلادة، أو تحت تأثير التخدير العام، أو مصاباً بالفدامة (البلاهة) الناجمة عن قصور الغدة الدرقية المتقدّم، ولهذا يكون البشر طيفاً واسعاً من الأمزجة، تبتدئ بالحليم الرائق وتنتهي بالصاخب.
وكم هو صعبٌ يا سيدي أن تكون طيب القلب واضحاً وصريحاً، وأنت مضطرٌّ إلى التعامل مع مزاجيّ، بدءاً بالقريب الأدنى من حبل الوريد، وانتهاء بالأبعد من حبل المصاهرة، ثم مروراً بالجار أو زميل العمل، أو ربّ العمل.
لكن الأصعب هو أن تكون أنت نارياً مثل (أصحابك)، وهنا الحرب الشعواء المدمّرة واقعة لا محالة، ولو بعد تحيّة أو سلام، أو مشاركة بفكرةٍ أو بمقال، إذ لا يوجد ههنا أيّ مجال لحُسن النوايا، وما داحس والغبراء وأمثالها ببعيدة عنا.

ويا أخانا الناري:
بارك الله لك بمزاجك! ترفع به ضغطك وضغط أقرب الناس إليك.
لكن لا تنسَ يا سيدي، أن للناس أمزجةً أيضاً (ولهم أعينٌ وألسنٌ مثلما لك)، فاحذر الحليمَ إذا واظبتَ على إزعاجه، وهو ساكتٌ لك، لأنك ستجده، دون سابق إنذار، بركاناً مروّعاً.
ويا أخانا الرائق:
اتّق المزاجيين حتى الطيبين، ولا تقتربْ منهم إلا بحذر.
وأنصحُك لوجه الله ألا تزوّجهم أو تتزوّج منهم، وألا تشاركهم تجارة أو عملاً، وألا تمازحَهم أو حتى (تستمزج) رأيهم، لأنهم سيُنشِبون مخالبَهم وأنيابهم في لحمك، مهما طال السلام بينكم.
والله الغنيّ.
العين 26/11/2025






















































