د. غالب خلايلي
بكل ما أوتيتَ يا صديقي من موهبة الكلام.. ودماثة الخلق.. ورقّة القلب.. تحاول أنتَ الكاتبُ الذي وهب جلّ عمره للكتابة الهادفة التي تعالج ولا تجرح.. تُسعِد ولا تُحزن.. تنير عتمة الطريق ولا تُضِلّ.. تسعى سعي المستميت إلى بطون الكتب والملفات للبحث عن الحقيقة.. تجلوها للقراء التائهين في بحر لجّي من التضليل والكذب.. لا تنافق ولا تداهن ولا تبدّل جلدك كالأفاعي حسب الفصول.. تفكّر بقلبك وروحك الشفّاف لتكشفَ مَنطِقية هذا الموضوع أو ذاك.. تبحث عن شمس الحقيقة في جو من العتمة الخانقة والكآبة والعيّ والجهل والوساوس والتردّد والترصّد السلبي..
وبكل ما أعطاكَ الله من موهبة الطب وحسن التدبير.. تحاول أنتَ الطبيبُ علاجَ أرواح البشر قبل أجسامهم.. ودفع الأذى عنهم لا إرباكهم بالكلام المخيف أو السخيف أو غير المفهوم.. وبالتغافل عما يحرم عمله من الإجراءات من أجل نهب أموال الناس وقضّ أعضائهم النبيلة ومضاجع نومهم.. أو حلب بطاقاتهم التأمينية وجرم عظامهم مسايرةً لمدير طماع بلا ضمير أو إشباع شهوات دنيوية دنيئة أو ملء عيون جائعة..
بكل هذا وذاك من النبل.. وأنت تكافح من أجل العيش والبقاء.. تحصدُ الشوك وكل ما يعلّ النفس والجسد مع شديد الأسف.
أنتَ يا صاحِ لستَ صغيراً على الاستجداء ولا المناكفات الصبيانية، والأمراض الاجتماعية والنفسية..
جسدك الرقيق المغطّى بالأدوية على مدار الساعة ما عاد يتحمل.. ولا عاد قلبك المرهف قادراً على ضخ المزيد في نوبات الغضب..
ومع هذا تحصد ضرب الخناجر والحناجر.. ونار السكاكين والبراكين.. وغدر اللّكمات والكلمات.. ولا من يشفق على جسدك الضعيف الذي أبليته في قراع الخطوب وكشف الأكاذيب..
تتلقى طعان الغدر بالتشكيك بكل نواياك وأهدافك.. وحتى بأصلك وفصلك! وكأنك لست من هذه الأرض الطيبة.. ولا رضعتَ لبن عروبتها.. ولا حتى من بني آدم.. إذ يريد بعضهم أن يقتلعك من جذورك وأنت الزيتونة العملاقة الضاربة جذورها في الأرض حتى نواتها.. والتاريخ حتى مبدئه.. يريد أن يقتلعك وأنت السنديانة الشامخة تتحدى عالم الظلم والبهتان.. يرى أغصانك تتقطع وتحرق وهو فرح.. ويرى النار تصل جذعك والجذور وهو أصمُّ أعمىً أبكمُ لا يفقه كلاماً ولا يقرأ نُذُراً.. غافلاً عن أنه باحتراقك سوف تمتد النار إليه وتحرقه..
آه من نار الغدر لاسيما إن جاءت من أدنى الموثوقين.. وآه من غربة الجسد والروح وبرد المواقف وصقيع العواطف أيام العواصف .
تقتل نفسك لإسعاد من حولك.. فإذا أنتَ لا حول لك ولا قوة:
أعدى عدوك أدنى من وثقتَ به
فحاذر الناس و اصحبهم على دخل
وحسن ظنك بالأيام معجـــــــزة
فظنّ شرّاً وكن منها على وجـــل (1)
ولكنك أمام واجبكَ وضميركَ الحيّ لا تتوب، ولا تيئس، وتبقى تحاول زرعَ الأمل ورسمَ البسمات على الوجوه الحزينة المتعبة التي أنهكها الخذلان وصمت الحملان.. غير آسف على دنيا الخداع.. فما عند الله خير وأبقى.
في وداع عام واستقبال عام تشعر يا صديقي – ولا أدري لماذا – بالبرد والوحدة.. مثل كل عام!..
لم أنت كذلك أيها الطيب؟ هل أنت مبرمج على الحزن، تشعر ببرد الضعفاء والمظلومين.. تذبحك صرخاتهم المكتومة قسراً.. وتشعرك بضعفك المطلق.. فلا تجد منجداً سوى المطلق، جلّ في علاه؟
لا ألومك يا صديق.. فما أصعب السباحة في بحر من الصخب والجهل، عالم يصعب الخوض فيه مع ذئاب شرسة، ولا يمكن فيه لعاقل أياً بلغ من الحكمة أن يتفوق على مريض نفسي ذكي، يصعب أن تتكهن بما يدور من أفكار شيطانية في تلافيف دماغه.
أيها العام الجديد:
في يدينا لك أشواق جديدة..
في مآقينا تسابيح وألحانٌ فريدة..
سوف نزجيها قرابين غناء في يديك..
يا مطلاً أملاً عذب الورود.. يا غنياً بالأماني والوعود..
ما الذي تحمله من أجلنا.. ماذا لديك؟
أعطنا حباً ، فبالحب كنوز الخير فينا تتفجّر..
وأغانينا ستخضرّ على الحبّ وتزهر..
وستنهلّ عطاءً.. وثراءً.. وخصوبة.. ونعيد..
أعطنا أجنحة نفتحْ بها أفق الصعود..
ننطلق من كهفنا من عزلة –
أعطنا نوراً يشقّ الظلمات المدلهمّة
وعلى دفق سناه.. ندفع الخطو إلى ذروة قمّة.. نجتني منها انتصارات الحياة..
كل عام أنتم بخير.
العين في 30 كانون الأول 2024
إضاءات:
- الشعر من لامية العجم للطغرائي، ومطلعها: أصالة الرأي صانتني عن الخطل
- صلاة إلى العام الجديد، فدوى طوقان/ كانون الثاني 1958.