عزيزة الكلاسيكية في آخر إطلالة ٢٠٢٥
د. غالب خلايلي
…وعزيزة هذه، حتى لا يذهبَ تفكيركُم بعيداً، هي سيّارةٌ اشتريتُها منذ عقدين، وباعها ابني الأصغر اليوم.
هي أيقونة مرسيدس من ميلاد 1992 (والتي ابتدأ صنعها 1991)، وعرفها قومُنا المغرمون بإطلاق التسميات الكبيرة باسم “الشبح”(1). وعندما اشتريتُها كانت كالعروس، دقّ لها ترقصْ، لها حاملُ عَلَمٍ معدني فخم في مقدمتها اليمنى، كأنها سيارة سفير أو أمير، وقيل: “لأن السيارات يسارية المِقْوَد نادرة في اليابان مُيّزت بذاك الحامل، حتى يُقدّرَ السائق الطريق”(2). والحقّ أن السيارة الكحلية ذات الثلاثةَ عشرَ عاماً كانت نظيفة جدّاً، كأنها خارجة للتوّ من المصنع، وبها ميزات يصعب وجودها في غير سيارات: زجاج مزدوج معتم قليلاً، ونوابض قوية تحمل العجلات (لا أكياس هواء كثيرة التعطّل والكلفة)، والأهم تناسبُها الفاتن مع فيزيزلوجية الجسم البشري، كأنّ صانعَها ما ترك احتمالاً مَنْطِقياً إلا وفكّر به (فأهل اللا منطق يصعب فهمهم)، وهذا ما أكّده لي المهندس الهولندي عبد العزيز (يا للمصادفة) الحجازي الأصل، والذي عمل في مصنع مرسيدس، وكنت اشتكيت له من عيوب سيارة اللومينا شفروليه أسترالية الصنع) (3)، قال بالحرف: “الشبح هذه، صنعها الألمان وندموا، لقلة أعطالها، وإن ابتغيتَ مرسيدسَ فلا تشترِ سيارة صنعت بعد عام 2000”.
والحقيقة أنني لم أكن بوارد شراء شبح في ذلك الوقت، فمعظم ما كنتُ أراه منها مهترئٌ بفعل “حذاقة” قوّادها الرُّعْن، ولم يكن بمقدوري شراء سيارة بنت سنتها، فثمنها يكفي لشراء بيت، لكن صديقاً عاملاً بالسيارات (ميكانيكي) رآها صدفة فأغراه منظرها وسعرها، ورأيت الحق معه فاشتريتها. كان ذلك بعد نحو شهر ونصف من اغتيال الرئيس رفيق الحريري المروّع في “يوم الحب، فالنتاين 2005”.
حقا إنها سيارة فاخرة، ما زال الكثيرون معجبين بها حتى اليوم، وما زال بعض رؤساء يركبونها (بعناية رئاسية، لا تشبه بالتأكيد عنايتي). والطريف أنني عندما قدتها أول مرة أربكتني مقاييسها الكبيرة (فهي تزن نحو 2 طن). شعرت أنها دبابة، إلى أن مر أسبوع تأقلم به دماغي وقياساتها. وحتى الأولاد تعوّدوا بالتتالي عليها وأحبوها سنيّ شغفهم بالقيادة، مثل معظم الشبان والشابات، حتى بدأت تشيخ وتظهر عيوبُ الزّمن عليها، ذلك أن حرارةَ الخليج ورطوبتَه قادرتان على إرخاء المفاصل وإضعاف العضلات لأي شيء، ناهيك عن أن فنّيي كوكب اليابان غير جماعةٍ لا تعالج مشكلةً ما لم تصل حدَّ الأذى، فقلّما تجد من يفكّر بالوقاية خيراً من العلاج، إذ يستكثر الرقم مهما كان تافها (ونجد مثل ذلك في الطب)، وكم من راكب مرسيدس (تدرون سرّ هذا الولع العربي) يقود فاتحاً شبابيك سيارته في عزّ الصيف الخليجي الحارق، وجهه محمرّ وهو ينفخ.
على أنني تعوّدتُ الاعتناء بالسيّارات جيّداً عنايتي بكل ما هو تحت مسؤوليتي، فتبقى السيّارة كالعروس في كلّ وقت. لكنّ من سوء الحظّ تعطّل السيّارة مرتين في أماكن بعيدة وحرّ قاتل، بسبب تهتك الأنابيب البلاستيكية الجافة (هذا أمر صعب وممكن الحدوث في أي سيارة)، فصارت عزيزة شؤماً في البيت كله، إلّاي، إذ بقيتُ مخلصاً لها، رغم مطالب الجميع ببيعها، وقد باتوا يستحون بها. بقي طلبهم سنوات، وأنا أتباطأ، وأهل بيتي يفهمون معنى تباطئي: الوفاء، والحرص على التواضع (4)، والأهم أن سعر البيع زهيد، هكذا هو الخليج بالنسبة للسيارات: تفقد ربع قيمتها فور خروجها من الوكالة، ثم 10% من سعرها كل عام، فإذا هي بعد عشرة أعوام بلا ثمن حقيقي، وكم هو الفرق شاسع عن بلاد يقدّس أهلها (دون مسؤوليها وتجّارها المتغوّلين) السيارات، فإذا بالسيارة مثل روح المرء بل أعزّ.
ومع ذلك بقيت عزيزةُ عزيزةً، فقد اشتريتُ عدة سيارات أحدثَ بعدها (بحكم حمّى الطقس وضعف المواصلات العامة وحاجة الأولاد بعد تخرجهم)، لكني لم أجد بمثل أناقتها وقوتها وسلاستها، فهي تصعد فوق أي مطبّ كالحصان الجامح، فيما يئن غيرها ويكاد يتكسّر. وكم من حادث مروري معي أو مع زوجتي مرّاتٍ، لكن قلّ أن تأثرت مثل باقي السيارات، ولولا شاحنةٌ عسكريةٌ ضخمةٌ (كأنها غرفة متحركة) صدمتني من الخلف فحطّمت (الطبّون) والزجاج الخلفي لما تأثّرتْ، وكان أن استبدلنا بالتالف جزءاً صالحاً من سيارة (خردة أو سكراب) فعادت عروساً جميلة ترفل بثياب النعيم، دون أن أفكر ببيعها مرة، مع أن كثيرين أوقفوني في الطريق أو لحقوا بي إلى البيت يريدون شراءها، فكنتُ أعتذر لهم بأدب، وإن بدا لي بعضهم بلا أدب.
أما الأطرف فهو أن عزيزة صارت أعزَّ في نظر محبي (الأنتيكات) عندما تجاوز عمرها ثلاثة عقود! أنا لا أعرف شيئاً تزداد قيمته مع الوقت (دع الذهب والعقارات جانباً في البلاد الآمنة)، إلا أن هناك عُرفاً قانونيا يقول: السيارة التي تتجاوز ثلاثين عاماً وهي صالحة للسير، تصنف كلاسيكية Classic، وتكتسب قيمة أكبر بعد فحص مروري يكلف 300 دولار عدا التأمين، فتعطى لوحة تميزها. والحقيقة أنني لم أستجب لهذا الإغراء سنتين، حتى دهى بعقلي (رجل) رآني قرب محل تجاري. كان واضحاً إعجابه مثل كل من أعجبوا بعزيزة من قبل (إلا أفراد عائلتي الذين باتت عندهم مثار تندّر مقلق)، فقال لي: لو تحوّلها (كلاسيك) لقفز ثمنها إلى 15-30 ألف دولار! في أميركا بيع مثلها بـ 25 ألف دولار.. وأعطاني رقمه، قال: إن صديقاً له مهتم بهذا النوع. شاب فلسطيني كندي (مثل جيل طويل عريض) أخبرني قبل عامين أن هذه السيارة سوف تصبح ثروة! وهكذا تحوّلت عزيزة خانم عام 2024 إلى كلاسيكية، لكنني لم أدلّل عليها، فأنا رجل مكابر معتز بكرامته فوق التصور، ناهيك عن أنني تاجر فاشل، ومتصلب عند اللزوم، فيما استمر إلحاح العائلة للتخلص من أعبائها، مع أنها مفيدة أوقات عودة الأولاد من السفر، أو تعطل سيارة أخرى، وكم يحدث أن تتعطل سيارتان في وقت واحد.
تعرفون أن قطرةً – بالمواظبة – تفلق صخرة، وأن كثرة النقّ تجلب النفور، حتى من الأعز، فما بالك من عزيزة، وهكذا بدأت أهِنُ وأتراخى من أجل بيعها، رغم أنها لا تشكو عيباً مهماً، سوى ما أضرّ بهيكلها يوم البَرَد المنحوس (حبّ عبد العزيز) قبل عام (5)، وإصلاحه صعب ومكلف، مع اقتراب زمن التجديد المكلف أيضاً. كل ذلك جعلني أعطي الموافقة على البيع، خاصة أن مندوبنا السامي تخرّج وعاد إلى المنزل، وهو ذو بال طويل في التعامل التجاري الذي أولع به صغيراً، ودَرَسَه في الجامعة هاوياً، فما مر يومان على موافقتي حتى اختفت السيارة من أمام البيت إلى الأبد!.
لحظة درامية فارقة، أي والله!.. واللافت أن الشخص الذي حمّسني في البدء اعتذر لابني (فأنا لا يمكن أن أتواصل بهذا الشأن): تأخّرتم، ثم إن المهتمّ مات! (لا حول ولا قوة إلا بالله! لكن العبرة: إن لم تكن تاجراً حَذِقاً، فإياك تصديق عابر سبيل)! وكان أن أتى غيره بعد إعلان مهاود. لم أجادل بالسعر الذي اقترحه ولدي، ولا تدخّلت، ولا أحببتُ أن أرى وجه شاريها الآسيوي، كيلا يرى نظرةَ أسف، وهو الذي امتلك عزيزتين مثلها!. وفّقه الله بها جميعا وأرضاه.
ترى: هل ترحل الذكريات مع رحيل عزيز ما؟ يا الله، عقدان حافلان من عمر عزيزة وعمرنا المنتج الفعال، كبر فيهما الأولاد وتخرّجوا في الجامعات، وتزوّج نفرٌ منهم، وسافر واغترب. عقدان مع سيارة ركبتْ فيها الوالدة العزيزة (رحمها الله) مرات.. كان أن خصّصناها بعد مرحلة النفور للرحلات القريبة إلى الحديقة، ولتنقّلي المحلي.. سيارة تحملت كل شيء، حتى نزقي في قضايا كثيرة لا تنتهي، وعالجها – عندما مرِضتْ – أعزّاءُ رحل بعضهم إلى الدار الآخرة (بلال عبد الكريم ابن الجش في الجليل ثم مخيم البداوي) أو إلى غير ديار (أيمن ابن طبرية ودمشق والذي صار فنلنديا، وإبراهيم ابن أرض الفينيق الذي عاد إلى موطنه، ورامي ابن عكّا وحمص، وراجو وبابو أبناء الهند..)..
ذكريات كثيرة محفورة في الذاكرة، لا تزول بحالٍ ما نبض القلب وسلم الدماغ، هدّأ الله بالكم والأحوال.
وكل عام وأنتم بخير.
يوم من البرد النادر في العين الخميس 2 كانون الثاني 2025
هوامش:
- الشبح: ما بدا لك شخصه غير جلي عن بعد. وشبح الشيء ظله وخياله. يقال: شبح الموت، شبح الحرب، شبح الامتحان..، أما Ghost فمسجلة في الإنجليزية القديمة بمعنى (روح، نفس) وهي من أصل جرماني.
- لا أدري سر تمسك بعض الدول (بريطانيا، الهند وباكستان، أستراليا، وحتى اليابان..) بالمقود اليميني، الذي يفتل الدماغ المعتاد على المقود اليساري، ناهيك عن عيوب التصنيع بين اليمين واليسار التي عانيت منها في سيارتي الراقصة (اللومينا).
- قصتي مع السيارة الراقصة : https://www.taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalaily-a-memoir
- المقتنيات ليست مجالا للفخر: https://www.taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalaily-braggarts
- نثر الجو على الأرض برد: https://www.taminwamasaref.com/upcoming-flower-expo-might-be-canceled-due-to-weather