أخبار مأساوية من سلطنة عُمان
د. غالب خلايلي
يختلف الطقس بين بلد وآخر، فهو جاف قليل المطر في دول الخليج، وبارد ماطر في الغرب، وبين بين في بلاد الشام، وقد بدأ الطقس يتغير في الخليج الذي يشهد بين وقت وآخر أمطاراً عاصفة، مع حبات بَرَدٍ كبيرة أحياناً، مما يشكل مفاجأة كبيرة للناس.
تنبؤ كالخيال.. وحقيقة صادمة. ها قد انتهى شهر رمضان الكريم، وأعلن العيد صباح الأربعاء العاشر من نيسان 2024. الجوّ لطيفٌ على غير المعتاد في نيسان الخليج، هذا الذي بدأت تتغيّر ملامح طقسه في الآونة الأخيرة دون وضوح الأسباب.

السحب الكثيفة تغطي السماء، فتهبط الحرارة (وكانت قد ارتفعت لأيامٍ منذرةً بصيفٍ قاسٍ)، فأنعشت النفوس ولو لبعض الوقت. كنتُ وعائلتي على استعداد للذهاب مساء الخميس إلى دبي من أجل (جاهة) ابن عمّ عزيز في خطبته لفتاة من عائلة كريمة. آه.. لقد كبر الأولاد كلهم فجأة خارج الديار، وكبرنا نحن أيضاً.

ولأن من عادتي قبل (السفر) مطالعة أنباء الطقس، هالني المتنبّئ بأخباره المنذرة بطقس رديء يجتاح عُمان يومي السبت والأحد (13 و 14 نيسان) والاثنين والثلاثاء (15 و 16 نيسان) في الإمارات! قلت في نفسي: لعلّه خبر قديم أو رجمٌ بالغيب، لكنه مع الأسف كان (في بعض الأماكن) حقيقةً مرّةً لا تخطر على بال.

مطرٌ فجر الثلاثاء ثم عاصفة هوجاء ظهراً. تتوالى الأخبار الكارثية من عُمان: سيولٌ جارفة، وغرق تلاميذ في حافلة كبيرة، ناهيك عن أذيات كبيرة في الممتلكات.
أما عندنا، ورغم التحذير الحكومي الذي يجب أن ينتبهَ له كل فرد بجدية، فقد خرجت من بيتي صباح الثلاثاء في جو غائم مقبول. قلت: أشتري بعض الحاجات الضرورية من السوق قبل أن يصبح مخاض المطر عسيراً. صففتُ السيارة فإذا بالمطر ينهمر، وهنا فتحت مظلّتي التي تنام طيلة العام، وتوجّهت إلى جهاز الدفع للاصطفاف، ولقّمته ببضعة دراهم، كيف لا والمفتش يصوّر سيارةً قربي، وهو المخلص لما اؤتمن عليه في الحر والقرّ وفي كل الظروف؟

قضيتُ ساعتين ونصف في عيادة هادئة تماماً، ولولا أمّ حديثة الولادة نادرةٌ ملتزمةٌ بموعدها ظهراً لنمتُ على كرسيي، وأحمد الله أن تلك السيدة خرجت برضيعها قبل شلال المطر الذي راح يصب بلا حساب ولا ميزان، فأغرق الشوارع في دقائق! إذن كيف لي أن أعود إلى البيت الآن؟
كان لا بد من مغامرة. خرجت، فإذا بسيلٍ في الشارع لا بد من الغوص فيه، فما وصلت إلى السيارة القريبة إلا وأنا مبتلٌّ كليا بالمطر. مسّاحات السيارة تعمل والحمد لله بكامل طاقتها مما لم أحتجْ إلى مثلها منذ عقود، والمطر ينصبّ صبّا فوق السيارة، وأنا بالكاد أميز طريقي حيث بدأ البخار يتكاثف على الزجاج معطلا الرؤية فأمسحه بما هو مستطاع، مخترقا طرق العين التي طافت بالمياه، ومجتازاً بحيراتٍ عميقةً في بعض أطراف الشوارع. آه، السيارة تتباطأ حتى كادت تقف وهي تجاهد بل تلفظ الأنفاس في الماء، وكم خشيت أن تنطفئ فتقف، لكنها نجحت (وهي الشبح القديمة القوية) في الاختبار القاسي غير مرة، ووصلت عزيزةً إلى البيت.

نصيحة كهربائية ميكانيكية.. لا تقف في الماء. وكم توقفت سيارات وتعطلت في المطر الغزير نتيجة توقفها في الماء وهي تجاهد للخروج منه، فالتوقف يعني دخول الماء إلى المحرك لاسيما عبر المدخنة (الإكسوست أو الإشطمان) فيخرب على الفور، كما يحترق مشغّل السيارة (Self Starter)، بينما السير ببطء يبعد الماء إلى الجوانب، وهنا تكون السيارات المعقدة إلكترونياً والأضعف هي الأكثر تعطلا، لكن إذا قوي تيار الماء فيمكنه أن يجرف معه حتى السيارات الكبيرة والقوية، فيبقى من الحكمة عدم المغامرة والخروج في الجو العاصف، وإن كان القدر أحياناً أسرع فلا يغني عنه حذر.
المطر في الذاكرة بين خورفكان والعين. تذكرت، والحال هذه، موقفا صعبا مررنا به ذات يوم في خورفكان قبل نحو ثلاثة عقود في ذات مؤتمر طبي. وقتها كنت أقود سيارة شفرلية كابرس تابعة لمستشفى العين، وهي سيارة ثقيلة قوية بمحركها ذي ستة الليترات، ومع ذلك اضطررت إلى التوقف وسط ساحة تغرق، ليس لأن السيارة أبت الحركة، ولكن لأن الرؤية باتت مستحيلة مع شلال يصب فوق الزجاج، كما تذكرت يوم ولدت ابنتي الأولى في كانون الأول 1989، وجاء مطر غزير جدا إلى العين، لكن سيارة الكريسيدا أثبتت بحمد الله جدارتها في بحار المطر، ولهذا كان لها (ألف) راغب ومشترٍ يوم أحببت بيعها.
بلل تام ذكرني بمانشستر ودهشة المحاضر الإنجليزي . ها قد دخلت بيتي الآن مبللاً تماماً. ملابسي والأهم حذائي وجواربي تنضح ماء، فكان لا بد من تبديل كامل و(سشوار) لحذاء من المؤكّد أنه سوف يصدر رائحة بشعة إن لم يجفّ بسرعة.
تذكرت رحلة الصيف الماضي إلى مانشستر، حيث الجو ماطرٌ بلا توقف. ذلك معتاد في بلاد الإنجليز، ونحن نسيناه في ثلاثة عقود. المهم، لما هدأ المطر قليلا وقتها استغللنا الفرصة لزيارة عائلة صديقة، وخرجنا نجوب أنحاء مانشستر مشياً، فإذا بالمطر يفاجئنا في منتصف الطريق، فما نفعت مظلاتنا ولا ركضنا، وعدنا مبللين إلى بيت الأصدقاء، وكان لا بد من استبدال ملابس مؤقتة بملابسنا كافة ريثما تجففها مضيفتنا وأحذيتنا في المجفّفة الكهربائية، لنستدعي بعدئذ (أوبر) توصلنا مأوانا.
إن ذاكرة المطر ليست دائماً قاسية، وهنا أعود إلى ذات كانون كنا فيه في مؤتمر لأمراض الأطفال في دبي، وكان الجو ممطراً بلطف في الصباح، مما أبهج معظم الحاضرين، لكن بهجتنا أثارت فضول محاضر بريطاني زائر قال باستغراب قبل بدء محاضرته: “لا أدري مبعث سرور الناس بهذا الرذاذ”، ولو علم أن بهجة العرب بالمطر تعادل بهجة الإنجليز بالشمس لما قال الذي قاله.
الأغزر في 75 عاماً.. لكن تعافي منطقتنا سريع. هكذا أعلن المركز الوطني للأرصاد: (دولة الإمارات شهدت أكبر كميات أمطار خلال الأعوام الـ 75 الماضية). ومما لا شكّ فيه أن المطر بهذه الغزارة المفاجئة لا بد أن يؤثر على الناس والمرافق بصورة كبيرة، ليبقى بعض التسرّب المطري من النوافذ والأبواب أمراً بسيطاً أمام طوفان أغرق كثيرا من المنازل والمحلات والطرق، وربما بعض مدارج المطارات (كما أعلن مطار دبي الدولي المشهور بدقته وأناقته وازدحامه عالمياً، حيث توقّفت بعض الرحلات مؤقتا)، كما انقطع التيار الكهربائي لوقت قصير أو طويل في بعض الأماكن، وعامت بعض الساحات والأنفاق بالماء، وتعطلت سيارات كثيرة جداً سوف يكون إصلاحها مؤلماً لأصحابها، لكن الأهم في كل ذلك أن السلطات المختلفة لم تألُ جهداً ولم تنم في كلّ المرافق، وأنقذت عائلات كثيرة لم تعد بيوتها صالحة (ونقلتهم إلى الفنادق)، حتى إذا ما أشرقت شمس السابع عشر من نيسان، حسبتَ (تقريبا) كأن شيئا لم يكن في منطقتنا، ليتنعّم الناس بأيام إضافية من جو لطيف، فالصيف ومكيفاته الهادرة على الأبواب.
دمتم في كل الأجواء والأوقات بخير؛ ووقاكم الله شر العواصف بأنواعها.
العين 19 نيسان 2024