الصالحية دمشق، والبويجي العزيز الذي غاب
د. غالب خلايلي
قرائي الأعزاء: أسعد الله أوقاتكم، وأرجو ألا تستغربوا وصفي حذائي بـ “العزيز”، فلست في أرذل العمر حتى أضيّع بوصلتي كما هم كثيرون، ولا قليل اللياقة بوصف ملبوسٍ تداس به الأرض في كل أحوالها النظيفة والنّجسة، كما أرجو ألا يذهب بالكم بعيداً بالتفكير بمعنى الكلمة، وفيما إذا كانت استعارة أو كناية أو غير ذلك، فلو كان هذا هو الأمر، فما أسهل أن أخترعَ لكم قصصاً عجيبة غريبة سوف يصدّقها معظمكم، لكن هذا لست أنا.
أقول بألم: لقد شكل الحذاء لي مشكلة فائقة الإزعاج منذ كنت طفلا. في أيامي المبكرة، في ستينيات القرن الماضي، لم تكن هناك أحذية جاهزة نذهب لقياسها وشرائها، هذا على الأقل ما كان في بيئتي الريفية المتواضعة التي عشت لاجئا من الجيل الثاني فيها. كانت الأحذية تُفصّل، وكانت ضاحية (جوبر) التي أضحت أرضاً يبابا مليئة بأهل الصنعة من نجارة وحدادة وكل ما يخطر على بالك فيها (ناهيك عن الزراعة الخصبة)، ولم يكن الحذاؤون استثناء، وهكذا عندما يضيق الحذاء (الأصح طبعا هو أن تكبر قدماك) يأخذك والدك إلى حذّاء منهم، فتجد عنده قوالب خشبية مختلفة المقاسات، يأخذ قياسات قدميك، ويختار لك قالباً، وبعد ذلك: عيش يا…….. (العفو منكم).
في الواقع كانت هناك مشكلتان: الأولى: هي أن قوالب ذلك الزمان ضيقة الرأس (مبوّزة) مما لا يتناسب مع عرض رأس قدمي، والثانية: هي أن الحذّاء الحاذق يتأخر بصنع حذائي أشهراً تكبر فيها قدماي، فيصبح الحِذاء وبالا عليهما، يعرف ذلك أطباء الأطفال وأهل الخبرة، لكني في ذلك الوقت لم أكن طبيباً ولا صاحب خبرة أو حتى حظوة عند أخينا الصانع، فأنا بالنسبة له طفل غير مهم أمام الكبار، والنتيجة أن على قدميّ أن تعانيا ما شاء الله، وتنضغطَ أصابعي أقصى حدود الانضغاط، وأنا أعرج في مشيي أحاول تصليح مشية البطة العرجاء، خوفا من أن أصرّح بذلك لأبي رحمه الله، يعني معقول أن أخبره أن الحذاء غير مناسب لحظة استلامه؟
في الحقيقة أمور مهمة كثيرة تجري في حياتنا على شاكلة هذا الحذاء.. لكن لنبقَ في قصتنا.
وهكذا كبرتُ، وأصابع قدمي تعاني علامات مزمنة حتى اليوم (وأنا في الخامسة والستين)، لكن تلك العلامات غير مؤلمة إلا بذكراها وذكرى مرعى الطفولة واليفع والمراهقة الفائرة.
من حسن الحظ، أي والله، أن منطقة القصاع الجميلة الراقية (وهي منطقة أغلبية سكانها من إخوتنا المسيحيين اللطفاء) كانت قريبة حتى مشيا، وكان لنا فيها أصدقاء كرام، أرجو لهم اليوم كل الخير، وأنا لا أعرف عنهم شيئا، وقد توفي كثير منهم وربما هاجر أولادهم مثل كثير من أهل بلاد الشام. المهم أن شركة أحذية مرموقة افتتحت فرعاً لها في القصاع اسمها (باتا). هذه شفت قلبي وقدميّ من المعاناة، إذ تتوفر عندها أشكال وألوان مختلفة عن الذوق القديم البالي، والأهم أنني بت أجد مقاسا مناسبا عريضا من الأمام، فأنا لم أخبركم عن صعوبة إيجاد حذاء ولّادي، لأن قدميّ أكبر نمرتين من كل إخوتي الذكور ووالدي.
آه، لقد حلّت مشكلتي تماما، ونسيت المعاناة عمراً طويلا، حتى تخرّجت طبيب أطفال، وسافرت إلى الإمارات الجميلة التي يتوفر فيها الكثير. وأنا في أوج عملي الأول (بين 1988-1998) في مستشفى العين الذي حدثتكم عنه بالأمس القريب، بدأ رأس القدم اليمنى يؤلمني بحدة دون أن أعرف السبب. فكّرت ببرد المكيف وغيره طويلا حتى جاءت اللحظة الحاسمة. فبينما كنت أنزل شكّاً من علو نصف متر تقريبا، وأنا خارج من العيادة، أريد أن أوفر وقت النزول على منحدر، أصابني ألمٌ مذهل وقدمي اليمنى تطأ بعنف الإسمنت، كأن مسمارا دخل بها، وهنا أدركت أن قدمي أنذرنتي ولم أعرف السبب، ألا وهو الرض المتكرر في المكان ذاته.. وهكذا (تربّيت).
ترى هل يستمر صفو الحياة لمخلوق يكبر ويتأثر بكل المحيط، القريب منه والبعيد؟ وما أدراكم ما كل هذا وما مشاكله التي يمكن أن تكونوا خضعتم لمثلها، إذ نعيش كلنا في عالم واحد، قربته اليوم (حتى درجة المسخ أحيانا) الوسائط المتعددة؟ لا، فهدوء البحر لا بد أن يتلوه موجٌ عاتٍ.
في سن الخامسة والأربعين تقريباً رحت أعاني من ألم في الكعب جعلني غير قادر على قطع الشارع كي ألحق الإشارة المرورية قبل احمرار عينها، فإجهاد القدم وقتها، والضغط على الكعب، بدا مثل مسمار حاد يثقب العظم. راجعت الطبيب العراقي حكم في مستشفى النور المفتتح حديثا قرب عيادتي في مكان كان أجمل بستان نخيل كنت أطالعه كل صباح. قال لي: هذا هو التهاب الصفاق المحيط بعظام العقب، والحل بالمسكّنات وتسميك بِطانة الكعب، وتوجد منها بِطانات لدِنة تباع في السوق. المهم بقيت أعاني شهرين، وصادف أنني ذهبت إلى الشام، فزرت الدكتور (أندورة) الطبيب الذي عالج ابنتي من كسر الساق ذات يوم، بعد أن ضربها سائق عسكري متهور أمام بيت حماي، ولم يختلف التشخيص ولا العلاج.
ولكم أن تدركوا أنني قلبت محلات العين مشياً وبالسيارة بحثا عن حذاء مناسب وخفّ رياضة، يرافقني صديقي الأديب والأستاذ الجامعي، دون أن أجد طلبي. في ذلك الوقت كنت سمعتُ من صديق مدرس قديم أنه يشتري أحذية مريحة جدا ولا تبلى مهما مشى المرء بها. حقا إنها غالية بعض الشيء، لكن (الغالي حقو معو) كما يقال، وكما أثبت لي الزمان في كل نفيس حقيقي.
ذهبت واشتريت زوجين متشابهين تماما، أسودَ وبنّياً، وانتهت معهما مشكلتي تماما، خاصة بعد أن تعافت مشكلة الكعبين، وإن عادت بعد مدة ولازمتني شهراً ثم زالت. الزوج الأسود قضى نحبه لا أدري بعد كم من السنين وحراثة شوارع دمشق والعين جيئة وذهابا، أما البني (العزيز) فما زال صامداً رغم نكبات المشي والظروف القاسية التي تعرض لها. أمشي به في التراب والحشيش عندما أتمشى مع صاحبي في الحديقة، وأقوم بتنظيفه فيعود تقريبا كما كان. موقف مضحك لكنه مؤلم، أرويه لكم كما هو دون زيادة أو نقصان، ففي ذات يوم كنت فيه بعيادتي، تزورني مندوبة تروّج لأدويتها، والترويج حديث ذو شجون، الحاصل هو أن تلك المندوبة كانت ضخمة، فراحت تزن نفسها بميزان الأطفال، ولما خطت خطوة كبيرة إلى الوراء، داست بكعبها العالي على مقدمة حذائي بعنف (ربما زعلت لوزنها)، فكاد يغمى عليّ من الألم، وأحمد الله أن الأمر مر على خير، إذ ذهب ألمي، والحذاء لم يثقب، لكن زال اللون مكان الدعسة، وما لبث أن عاد بعد عدة تلميعات، لا سيما عند البويجي التركماني العجوز قرب بوابة سينما السفراء الذي أحرص على زيارته سنويا كلما زرت دمشق، والمحزن أنني لم أجده في صيف 2024 رغم تفقدي له مرات متعددة، وعندما يئست زرت بويجيا آخر قريبا من محل عصير أبو شاكر الشهير في الصالحية، ولما سألته عن الشيخ العجوز أخبرني أنه عمه، وأنه (يا لحزني) كبر ولم يعد قادراً على العمل.
في صيف 2023 زرنا بريطانيا لحضور حفل تخرج ابنتي ديمة في ليدز. أقمنا في مانشستر قرب بيت صديق معراوي عزيز كان زبوني في العين (وأخبره دوما أنه وريث أبي العلاء بسبب موهبته الكتابية)، وفي مانشستر زرنا أصدقاء أعزاء أقاموا طويلا قربنا، منهم طبيبة أسنان للأطفال راقية كريمة، وأستاذ جامعي لبناني وزوجته السورية وهما لا يقلان رقياً وكرماً. المهم، خرجنا نتمشى مع الأخيرين في مانشستر، وكبس المطر! وتبللنا من رأسنا إلى أخمص أقدامنا، مع الأحذية طبعا، رغم المظلات التي لم تنفعنا. عدنا هرولة إلى البيت، وخلعنا كل ما لبسنا تقريبا، ووضعت سيدة الدار ملابسنا وأحذيتنا في نشّافة بعد أن أعطتنا ما يسترنا، وحدث الأمر ذاته يوم خرجنا مع عائلة المعراوي للتعرف إلى الوجبة الإنجليزية الشهيرة (السمك والبطاطا). يومها أمطرت السماء بغزارة، وصارت الدنيا بحرا، فعدنا إلى مأوانا القريب مبلولين، نبدل ملابسنا، فيما بدا الحذاء العزيز كأنه نُقع في مسبح. قلت: خَرِبَ، أي والله، وما عاد منه أمل، خاصة أن بطاناته انتبجت، لكن مع المجفف “السشوار” لوقت طويل عاد إلى بعض بهائه، ثم إلى كامل البهاء بعد أن اشتريت ملمع أحذية من دورست (مدينة ابنتي)، فتحمل بعدها مطر لندن العجيب.
في عقدين ماضيين، اشتريت أحذية كثيرة، لم يصمد معظمها، مع أنها من (الماركة العالمية نفسها)، وقد حاولت المستحيل أن أجد شبيها لحذائي المذكور في بريطانيا أو كندا، ناهيك عن الإمارات، فلم أجد. واللافت أنني وجدت ذات يوم النمط نفسه في أول محل اشتريته منه، فطلبت زوجين، وكأن أن أرجعتهما بعد يوم واحد، فهما بالشكل نفسه، لكن ليس بالجودة القديمة، مع الأسف، وهذا ما ينطبق على أشياء وبضائع كثيرة نعرفها، أنهكتها المنافسة، فراحت تلعب بالمواصفات. كما فاجأني يوما وجود الشكل نفسه في الشام، بسعر وجودة أقل من النصف في العين، فما أحببت اقتناءه.
هذا ما كان من أمر حذائي العزيز بالفعل، راجياً ألا يكون قد أزعج أيا من القراء، الذين لا بد أنهم يدركون أهمية الأحذية وتجارتها المربحة جدا، فهناك أسعار خيالية لأحذيةٍ لا تناسبَ بين ثمنها وراحتها، والمرء العاقل يشتري راحته وراحة قدميه بالطبع، لا شكل الحذاء واسمه، مثلما يفعل كثيرون، وتفعل كثيرات للتباهي.
ولأهمية الراحة التي أتحدث عنها، جاء في المثل الإنجليزي (Put yourself in my shoes) (ضع نفسك في حذائي)، أي: تخيل نفسك في ظروفي، ولا (تزوّدها) أو تحكم عليّ خطأ، فلكل امرئ وامرأة ظروفهما التي قد تتفاقم مع تقدم العمر، وينبغي أن ننتبه لها، قبل قطع الحبل السُّرّي للمودة.
دمتم بخير.
العين في 2 شباط 2025