في حضرة الغياب.. من الراحلين الأعزاء
شوق وحنين إلى مرابع الطفولة يشتدان لاسيما في المناسبات والأعياد. مع الجزء الثاني من رحلتنا إلى أرض الياسمين.
في دمشق.. حمانا الشوق من وطأة الشمس
وصلنا بيتنا مساء الأربعاء الثاني عشر من حزيران 24. الجو حارّ كما أسلفت، والكهرباء مقطوعة وكذا المياه (وقت الوصول)، فكلتاهما تخضعان لسياسة التقنين منذ سنوات الحرب القاسية، لكن الجميل أن الماء متوافر في الخزّان، والبطارية العاكسة للتيار Inverter التي ركبناها العام الماضي بغرض الخدمات الصغيرة تعمل والحمد لله.
ألواح الطاقة الشمسية التي شاعت فوق معظم الأسطح، كأنها قانونٌ لازم، كما هي الحال في لبنان، غير متاحة لنا الآن.
وفي مصادفة مُربكة، كانت كل الهواتف في حوزتنا معطّلة. هاتفي الشخصي توقف عند الحدود إذ لا بدّ من جمركته عقب دخوله الثاني إلى البلد، وهاتف البيت (مع بوابة الشابكة) طالتْه يد البِلى بعد طول غياب، إذن كيف نتواصل مع العالم؟ حتى (الرطوبة) تستشعر غيابنا الطويل، وتتسلل إلى معدات الماء والكهرباء، لاسيما الخارجية (أعني خارج المنزل)، مما يعني أن “ورشة” لا مهرب منها آتية في الطريق.
على أنه لا سبيل في المساء لاستدراك أيّ شيء مع إغلاق المراكز أبوابها، ولهذا لم نستطع أن نخبر أحداً بوصولنا.
هنا خرجنا باتجاه بيت (قريبةٍ) لنا وسط سوق يعجّ بالناس، ويزيده اقتراب العيد ازدحاماً، لاسيما أن المَعْلَم الأهمّ فيه هو محلّ شاورما ودجاج مشوي أو مقرمش (بروستد) بأسعار عالية. مثلا لفافة الشاورما بخبزتها السابحة بالمايونيز المثوّم مع رقائق قليلة من الدجاج تباع بمبلغ 25 ألف ليرة سورية (ستة دراهم وربع؛ أي أقل من دولارين)، وسعر الدجاجة المقرمشة مع طبق صغير من البطاطا ومسحوق الثوم بـ 120 ألف ليرة (ثلاثين درهما أو نحو تسعة دولارات)، وهي أغلى بكثير من دول مرتاحة، ومع ذلك ترى ازدحاما، لكنه لا يعبّر بالتأكيد عن واقع الحال في مدينة عدد سكانها نحو ستة ملايين تعرضوا (وما زالوا) لحصارات خانقة على مدى عقد ونيف من حرب ظالمة.
في الصباح التالي كنت وزوجتي أول زوار مؤسسات الهاتف. كلّ واحد منا يتابع حثيثاً في مكان تفاديا للعطلة القريبة، حتى إذا ما اشتد أوار الحرّ في الظهيرة استتبّ كل شيء، وعادت المياه إلى مجاريها في المنزل، فيما فشلتُ في جمركة هاتفي مع زحمة العيد ودخول العطل، وإن حلّ جهاز قديم احتفظتْ به قريبتي المشكلة الرئيسة.
في ثلاثة الأيام التالية أعترف أن الشمس كادت تهزمنا. كان النوم صعباً جداً مع الحرّ والتعرّق الغزير.. وكذا التنقّل بسيارات قديمة، تبدو ناراً بعينها، والتكييف رفاه لم يحوِه قاموسها؛ فهي بالكاد تلتقط أنفاسها مخرخرةً مثل مدخّن عتيق لا يريد أن يوقف سجائره البائسة ولو تسرطنت كل أعضائه واهترأت رئته وشرايينه.
والمؤسف أن هذا النموذج المستهتر شائع أنى توجهت إلى بيت أو مطعم أو سوق أو حديقة، ناهيك عن المقاهي التي تحتل قارعة الطريق، فمع كل التلوث البيئي (من سخام وسائل النقل وتوليد الكهرباء والقمامة المرمية حتى في شوارع بديعة رائعة) يأتيك من يزيد الطين بِلّة بتدخينه.. والأدهى أنه (يزيدها) عندما يعلم بأنك تتأذى، ولا تسل عن التدخين حتى في السيارات الفخمة التي يلف بعضها ويدور في الأمكنة المزدحمة، نوعاً من التفاخر الانتفاخي الفارغ والتباهي، وكأن التدخين والأرجلة من لوازم المرجلة، وإن فاق تدخين النساء الرجال، بطريقة مقزّزة أحيانا.
على أننا – رغم حمّى الطقس – لم ننهزم، إذ حمانا شوقنا لمرابع الطفولة، وحبنا لدمشق الياسمين، على حد قول الشاعر الأبله البغدادي في العصر الأيوبي (وسمي بالأبله لشدة ذكائه):
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعانيها
دمشق.. في حضرة الغياب..
جزء مهمّ من حب الشام ومشاعر الشوق إليها هو ذكرى الغائبين الذين يحضرون في ضمائرنا ووجداننا، ولهذا نشعر بالازدحام رغم مشاعر الوحدة القاسية وخيبات الأمل من كثيرين، لندرك أن الموتَ ليس غياب النبض والتنفس، بل غياب الروح.
كثيرون هم الأموات على قيد الحياة، وكثيرون هم الأحياء تحت التراب، وتعجب أحياناً أنك تحاول نفخ الروح في بعض البشر وتفشل، هم كتل يأسٍ لا يلبث أن ينتقل منهم إليك، لتضعهم بعدها في خانة الموت أو النسيان.
أذكر ولا أنسى والديّ (خليل ومريم) رحمهما الله اللذين تركا فراغا قاسيا، وبيتا كانت تخفق الأرواح فيه ثم تبعثرت في بقاع الأرض. الصدفة البحتة هي أن اليوم (19 حزيران هي الذكرى الثانية عشرة لوفاة الوالد). أتذكر الأساتذة الراحلين: عدنان تكريتي، سامي القباني، صادق فرعون، إبراهيم حقي، برهان العابد، زياد الصواف، هاني مرتضى، وقبلهم الأديب الطبيب عبد السلام العجيلي، الرحمة لهم أجمعين، فهم وإن رحلوا فذكراهم باقية على مر الزمن لما تمتعوا به من ثراء روحي، ولما تركه معظمهم من آثار أدبية وعلمية خالدة.
ومع ذكر الغياب، نقتبس من كتاب الشاعر محمود درويش (في حضرة الغياب) هذه الكلمات:
وتسأل: ما معنى كلمة وطن؟
سيقولون: هو البيت وشجرة التوت وقنّ الدجاج وقفير النحل ورائحة الخبز والسماء.
وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات وتضيق بنا؟
في حضن قاسيون والجمال الدمشقي
لا، لا تضيق بنا، فالوطن بأحرفه الثلاثة الغالية يتسع لكل معنى طيب مهما طاله التشويه الممنهج والتعديات على الحرمات، أكبرها دمار كبير لحق به حتى الزلزال، وأبسطها قيام جار ببناء سطح أو ملحق غير قانوني أو فتح بيته على حديقتك ليضعك تحت ما يسمى (الأمر الواقع)، وكذا أن يستغل طيبتك مؤجرٌ جشع أو مستأجر طمّاع.. أو ينصب عليك تاجر أو فاجر.. فكل هذا الفحش مصيره الزوال مهما طال الزمن.
مع مجيئنا هذا العام، صادف يوم الخميس الثالث عشر من حزيران انتهاء امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية، فعادت الهواتف والإنترنت إلى طبيعتها دون انقطاع في الصباح، وانتشر الشبان والصبايا في الطرق، لتصافح عيناك جمالا سورياً مبهراً بحق، وحيوية أرجو لها أن تبقى في بلادها بعد أن هاجر عدد غير قليل من جيل الشباب إلى ألمانيا والسويد وبقاع الدنيا، في مزيد من النزف الوطني والخسارة الاقتصادية والإنسانية، يكسبها الغرب جاهزة تماما.
العيد في الشام هو ما قبل العيد
ما يجذب النظر في الشام أن مظاهر الاحتفاء بالعيد تأتي في الأيام السابقة للعيد بما تشهده الشوارع من ازدحام غير عادي يتسوّق فيه الناس، ويتذوقون (الأطايب) من بوظة دمشقية مميزة جدا، وشاورما وسجق وفلافل وعرانيس ذرة مسلوقة او مشوية، وعوجة (اللوز الأخضر) وجانرك.. حسب الموسم السائد، كما يتقاطرون إلى مراكز بيع العطور التركيبية، لغلاء العطور الأصلية الفاحش وندرتها، وبذا يصنعون بهجة شمّية تغطي حرائق الحياة.
ولا عجب في الشام أن تشهد التحام المارة الحميم بالسيارات في مشهد لا أظنّه يتكرّر في غير مكان.. وكذا سير المارة في الشوارع إذ تحتل السيارات الأرصفة ولا تترك سنتيمترا للعبور، حتى لو كان العابر مسطّحا أو فرّوجا مسحّبا. ومن عجب أنك لا تكاد تجد سيارة غير (مشحوطة أو مبعوجة أو ممعجنة…) مما يعد عاديا ومألوفا لا يحتاج إلى إصلاح، وقد تجد سيارات أكل عليها الدهر وشرب وشرشر حتى تعجب كيف تمشي. طبعا ليس هذا حال كل السيارات؛ فهناك الكثير من الغالي والفاخر.
وعندما يطلّ صباح العيد بعد تكبيرات المصلّين المنعشة للأرواح، تجد الشوارع مقفرة وشبه خالية من أي حركة، وترى المحلات التي كانت مزهوّة بالأمس مغلقةً لا حياة فيها.. عرفت ذلك منذ أمد بعيد وزاد مع الأيام.. ومن فاته شراء حاجاته سوف يتعب في العيد.
اللطيف ليلة هذا العيد، هو أن نسماتٍ رقيقةً أنعشت أرواح الناس وجعلتهم ينامون نوما هانئا إلى حد ما، وكم رجونا أن تعمّ تلك النسائم فاقديها.
واللطيف أيضا في أول الصيف هو انتشار الفواكه من مشمش ودراق وكرز لكن بأسعار خرافية في أماكن، وأسعار معقولة في الأسواق الشعبية مثل سوق الجمعة (سوق الشيخ محيي الدين) وسوق الهال وسوق باب سريجة، يلفت النظر أن التجار استغنوا عن ثلاثة أصفار عند كتابة الأسعار، فإن رأيت الليمون بعشرين مثلا فلك أن تفهم أن الكيلو بعشرين ألفا (خمسة ريالات أو دراهم)، حتى باتت قطعة خمسة الآلاف ليرة هي الأكثر تداولا تخفيفا لوزن رزمات المال!.
يبقى أن اللحم، بيت القصيد، ذو أسعار كاوية مقارنة بالدجاج (بين مئة وتسعين للبقري، ومائتين وثمانين للضأني)، وإن كانت أضاحي العيد، عندما توزع على المحتاجين، من عوامل تخفيف “حمّى اشتهاء الأُزاد وحُمَة القَرَم” اللتين ذكرهما بديع الزمان الهمذاني في المقامة البغدادية، ولهذا يبقى صحن الفول الدمشقي الشهي المميّز جدا سيداً لا يجارى، وكذا صحن التسقية أو مسبّحة الحمص الذي لا يوجد عديل مكافئ له في غير مكان، ناهيك عن مآكل لا حصر لها في أرض خصبة معطاء.
أول أيام العيد يكشف غربتك
في جو الاضطرابات العالمية والحروب يصعب حقيقةً أن تسمّي العيد عيداً أو تفرح به.
فالعيد ليس حالةً شخصية بل هو احتفاءٌ عام، ومن ثم لا بهجة له إن لم يدخل كلّ بيت.
ومع تفرّق ناسنا وأهلنا حتى الأقربين منهم في شتى أنحاء العالم يصعب أن تشعرَ بالعيد وبهجته، خاصة إذا كنت من النوع الذي يتأمل الدنيا بعمق.
تعيش عمراً في مكان، وتبقى فيه غريباً، ولهذا تعود إلى مدينتك أو قريتك في المناسبات، كي تشعرَ بالاحتضان والأمان، فكيف إذا لم تكن لك قرية أو مدينة، أو كنت لا تستطيع أن تعود إليها لأسباب مادية أو معنوية؟
لا جدال إذاً في أنك ستجلس وحيداً في منزلك يوم العيد، إذ لا تجدُ من يفرح بك أو يسلّم عليك لأنك لستَ أولويّة عنده (وهذا طبيعي جدا)، إذ لا يجدُ لك وقتاً، خاصة إذا كان منشغلا بعمل لا يرحم حتى في العيد، غير غافلين اليوم عن المصاعب الاقتصادية التي تصعّب التواصل الحقيقي بما يكلّفه من أجرة مواصلات مثلاً أو تكاليف ضيافة، ولا غافلين عن الحالة الصحية (التي يشعر صاحبها معها بمشقة الحركة) أو النفسية والاجتماعية (شعور بالعزلة والكآبة..) أو حتى حالة الطقس التي تقتل كل رغبة بالتواصل.
إن غربتك تتضاعف مع طول الغياب، فتنساك حتى الأشجار التي لا تصافحها عيناك على الدوام، وتنساك أحجار الطريق التي لم تعد تطؤها، لهذا يبقى الناس يردّدون مع المتنبي قوله الصامد عبر القرون: (عيد بأية حال…)، هذا وهو مالئ الدنيا وشاغل الناس، فكيف هي الحال عند باقي العباد؟
تابع النظر في هاتفك.. فهو (عدا ندرة من الأصدقاء) اليوم ملجؤك.
وإلى جزء جديد بعون الله.
د. غالب خلايلي
دمشق في 19 حزيران 2024