استقبلوا الضيف بالخبز و الملح
د. غالب خلايلي
«الخبز والملح» قصّةٌ لها بعدٌ اجتماعي عميق عند معظم الناس، إذ تعبّر عن المحبّة والتآخي والأصالة، وربما عن التاريخ والآمال المشتركة، ومن يعرفْ معناها يصُنِ العِشرةَ، حتى شاع أن يُقال للمتنكّر بكل الأسى: (يا حيف على الخبز والملح!).
يقول الكاتب كارل كورلانسكي في كتابه (الملح: تاريخ عالمي) الذي وُصف بأنه «وجد العالم في حبّة ملح»: يستحيلُ على الجسم البشري أن يفيد من الأكسجين أو أن ينقل الشارات العصبية أو يحرّك عضلاته، دون ملح (كلور الصوديوم). ولا عجب أن تشتقّ كلمة الراتب Salary من سالاريوم اللاتينية عندما كان الجندي الروماني يقبض معاشَه مِلحاً.
والخبز والملح معاً ضيافة رمزية شائعة. في بلادنا كثيراً ما نقول: بينهم خبز (أو عيش) وملح، وكثيراً ما (كنّا) ننادي في الدعوة إلى الطعام: تعال مالحْنا. وفي ألبانيا عرفٌ لإكرام الضيوف يقول: «استقبلوا ضيفكم بالخبز والملح والقلب»، إذ كان الملح أثمنَ موجودات ذلك الزمان. أما الروس فيصفون المضياف بأنه «ذو الخبز المالح، كليبوسولني»، أكثر الأطعمة تقديراً وغلاء في ثقافتهم. من هنا شاعت تحيّة تقليدية «كليب دا سول: خبز وملح» يقولها الضيف تعبيراً عن أطيب أمنيّاته، وشاع في حفلات زفافهم أن تستقبل الأم العروسين بالخبز والملح فوق قماشٍ مطرّز.
***
وللقمح تاريخ يقارب بدء البشرية، إذ عُدّ منذ آلاف السنين أهمّ الحبوب، فمنه يُصنع الخبز ومآكل كثيرة، قمحاً أو طحيناً أو سميداً أو برغلا… وقد قيل: إن أقدم خبز صُنع في مصر منذ ثمانية آلاف عام قبل الميلاد، كما عرف في الحضارة الكنعانية منذ الألف السابعة قبل الميلاد، استناداً إلى مكتشفات من العصر الحجري في أرض كنعان (فلسطين وجوارها)، إذ عرف الكنعانيون حجر الرحى والتنّور، وسمّوا الحنطة حطة، وكان للحبوب عندهم إله يدعى (دجن)، وكانت السنبلة أهم رموزهم، وخبز التنور أهم مآكلهم، وصنعوا الكعك للمناسبات الاجتماعية والدينية.
تاريخ طويل مرّ على الخبز، من قدماء المصريين والسوريين، مروراً باليونان والرومان وغيرهم، لكن المثير أن أغنياء الرومان عدّوا الخبز الأبيض أجود وأنسب للمتعلّمين والأثرياء، وفضلت الطبقات العليا البريطانية في العصور الوسطى الرغيف الأبيض الناعم ، وتركت أرغفة الجاودار (الشيلم) والنخالة والخبز الخشن للطبقات الفقيرة.
***
ما أشبه الليلة بالبارحة!.. إذ يسود هذا السلوك المخزي اليوم، والذي أصفه بغير الصحّي في أقلّ تقدير. وحتى الخبز ما عاد خبزا، ولا الملح (الراتب) ملحاً عند جماهير غفيرة من البشر المطحونة، فماتت شاراتها العصبية وضمرت عضلاتها. والأنكى أن الخبزَ الذي تتزاحم عليه جمهرة الجياع في عالم بطران متخم، لم يعد ذاك الذي نعرفه بعد أن أضافت إليه (دول الحضارة) مواد كيميائية وسكّراً جعلته أكثر بياضاً ونعومة وحلاوة، وأطول عمراً، عند الخزن بالثلاجات، وربما.. أقول ربما.. معقِّماً.
لعلّ الكيماويات، وقلّة الملح، والتثليج، بلّدت أحاسيسَ بعض البشر ولاسيما (النخبة) الجشعة، فلم يعد يشبعها شيء، في تجارة تتحكّم بالرقاب، وفي صلفٍ على أشدّه، بقدر ما تفجّر من الفقر والجوع والتشرّد.
يا ضياع الأخلاق!.. يا ضياع الخبز والملح!.
العين في 5 نيسان 2025