إدمان السكريات.. وتعمية الشركات
د. غالب خلايلي
السكّر.. من منا لا يعرف حلاوته اللذيذة.. مع الشاي والقهوة والعصير.. ومع الحلويات والمربيات بل مع كثير من الصلصات والمآكل.. أو يَرُشّ فوق المجدرة عند الأغنياء (كما يتهمهم المثل)؟ ومن منا لا يعرف صياد الأذواق لا سيما عند الرضع فإذا بهم يدمنونه ولا يستطيعون منه فكاكا، ولو دمّر الأسنان والمناعة وتراكم شحوماً حول الكبد والقلب أو سبّب الداء السكري؟ عن السكر ومخاطره والتعمية بشأنه سيكون حديثنا..
صينية المعقود.. والجهل:
يرشّ الناس السكّر بلا هوادة على كل شيء تقريبا، حتى إن مصطلح سكر وسط يكاد يعني أن نصف الكأس سكر والباقي قهوة أو شاي. يقتلون العصير بالسكر، وينوّمون الصغار بوضع سكر في الحلق، هذا هو المتوارث المؤسف، ولعل من أكثر المناظر إثارة والتي رأيتها في حياتي وبقيت في ذاكرتي حتى اليوم (أربعة عقود ونيفاً)، منظر مرضى السكّري في مستشفى المواساة الذين افترشوا الأرض وتحلّقوا حول صينية كبيرة من مربى المشمش (المعقود) يأكلونه بنهم شديد، غير سائلين عن حمية ولا تعليمات طبيب.
طنّ سكّر في أغذيتنا ولا ندري..
تخرّجنا أطباء ولم نكن – مع الأسف – على دراية تامة بمخاطر قريبة منا، تذوب في كؤوس شاينا وقهوتنا وعصيرنا وصحون حسائنا، أو تمزج مع الرز بحليب والمهلبية، وتكاد تشكل الجزء الأعظم من البوظة الشامية وغير الشامية (فيها طنّ سكّر كما اعتادت زوجتي على القول)، هذا مع أننا درسنا الغدد الصم (التي تفرز الهرمونات المختلفة)، وعرفنا الداء السكّري ومخاطره المتعاظمة على الشرايين الصغيرة (العين والكلى..) والكبيرة، لكننا كما تقول الآية الكريمة (صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ فهم لا يعقلون – البقرة171)، فما من أحدٍ نبهنا (وسط كمّ هائل من المعلومات التي ربما لن نسمع عنها شيئاً في مستقبل الحياة العملية) إلى تلك المخاطر حتى رُحنا ننتبه إليها وحدنا، فما السبب يا ترى في جهل معظم الناس لتلك المخاطر؟ أقول إنه: الجهل والتعمية!
من تاريخ السكر.. من حكر على الملوك إلى أفقر الناس:
خلف حلاوة السكر التي رافقت أفراح الناس واحتفالاتهم عبر التاريخ تكمن معاناة هائلة، كما جاء في قصة هذا المنتج التي رواها أستاذ التاريخ الفخري بجامعة “يورك” جيمس والفين في كتابه “تاريخ السكر المذهل.. تاريخ العالم”، منطلقا من الأضرار الكارثية بالنسبة للقوى العاملة من العبيد وعمال السخرة الذين زرعوه، والأضرار البيئية المروّعة في مناطق زراعته، ناهيك عن أضراره الصحية. وبسبب الشراهة أو الاستشفاء، أو لإظهار الثروة والقوة، أصبحت “الأطعمة والمشروبات السكرية معروفة لدى بعض الحضارات منذ آلاف السنين”، فاستُهلك السكر أولا على شكل عسل، وسرعان ما صُنع من قصب السكر في الهند قبل قرنين من ميلاد المسيح. ويبدو أن ثقافة قصب السكر انتشرت في أفريقيا والشرق الأوسط وفي حوض البحر المتوسط، وبحلول عام 1400 زرع قصب لسكر في مصر وسورية والأردن وشمال أفريقيا وإسبانيا، وربما إثيوبيا وزنجبار، ثم عبر المحيط الأطلسي، وبدأت قصة السكر المأساوية “بالانفجار الكبير في إنتاجه في الأميركيتين بعد عام 1600 م ليشبع نهم الشركات، ولكن ثمن ذلك كان ألما كبيرا، تمثّل في جلب العبيد من أفريقيا، ثم استبدال عمال آسيويين بهم، ولم تكن ظروفهم المعيشية أفضل، ثم بتدمير الشعوب والمناظر الطبيعية والتنوع البيولوجي في الأميركيتين بسبب مزارع قصب السكر العملاقة.
في البدء كان استهلاك السكر حكرا على الأقوياء، وكان تذوقه في البلاط الفرنسي والإنجليزي وراء ما عُرف عن لويس الرابع عشر أو إليزابيث Ayer من أسنان تالفة، قبل أن ينتشر التسوس بين عامة الناس فيما بعد. ومع زيادة الإنتاج أصبح السكر والمنتجات المصنعة منه كالدبس والعصير المحلى، وسيلة غير مكلفة وفعالة لزيادة السعرات الحرارية التي يحصل عليها أفقر الناس.
ولذلك فإن وباء السمنة اليوم جاءت بذوره من الثورة الصناعية، والأرباح الناتجة عن تجارة السكر، التي خلقت تكتلات كبيرة كانت تسهم في الحروب الاستعمارية وتملي قراراتها السياسية.
ويعد السكر مادة حافظة ممتازة، وهو حجر الزاوية في صناعة الأغذية، الذي مكنها من تحويل طعام منخفض التكلفة إلى ذهب تجاري، وخلق عالما يكون فيه الطعام غير الصحي أكثر ربحية من الطعام الجيد (١).
السكر يجعل الخلايا تشيخ ويجعلك أكبر سنا:
وجدت دراسة جديدة أن تناول كمية معينة من الطعام السكري قد يكون مفرط التأثير على الساعة الحيوية للجسم ولو كان باقي الطعام صحيا، وهذا قد يفسر لماذا يبدو أشخاص متماثلون في العمر أصغر مما هم عليه أو أكبر. ففي دراسة أجرتها جامعة كالفورنيا على 343 امرأة في منتصف العمر، تبين أن من تناولن سكراً فوق المعتاد بَدَوْنَ أكبر سناً. وفسرت عالمة التغذية بابارا لارايا أن التخلص من 10 غرامات من السكر المضاف يوميا أشبه بإعادة الساعة الحيوية بمقدار 2.4 شهر، إن استمرت النسوة بالأسلوب نفسه، وقد تحدث تغيرات تعطل المورّثات والصيغة المورثية (الشفرة الجينية) للجسم بعض الوقت.
جشع شركات الأدوية نشر الأمراض المستعصية:
إن أكبر الفضائح التي لم تتداول على المستوى العام هي فضيحة شركات السكر في طمس الحقائق العلمية التي تثبت ضرر السكر على الصحة العامة، فقد اشترت هذه الشركات في ستينيات القرن الماضي الباحثين في جامعة هارفرد، وتبرعت بأموال طائلة لتحويل الانتباه عن ضرر السكر باتجاه ما يعرف بنظرية الدهون والكولسترول. هذا التزوير العلمي تسبّب بتغيير النظام الغذائي العالمي وزاد انتشار البدانة والداء السكري وحتى انتشار بعض السرطانات.
الأول: بحث جامعة كالفورنيا:
في بحث أجرته (جامعة كاليفورنيا سان فرانسيسكو) بعنوان: صناعة السكر تخفي أدلة على المخاطر الصحية للسكروز، نشرته الكاتبة (إليزابيث فرنانديز) في مجلة PLOS Biology (21 نوفمبر 2017) أظهر أن صنّاع السكر دفنوا الأبحاث العلمية التي أشارت إلى التأثيرات الصحية السلبية للسكر منذ ما يقرب من 50 عامًا، وتوقفوا عن تمويل الأبحاث عندما انعكست سلبًا على مصالح الصناعة. نعم، صناعة السكر تلاعبت بالعلم من أجل حماية المصالح التجارية، والتأثير على اللوائح والرأي العام.
ووفقًا للدراسة، مولت مؤسّسة أبحاث السكر (SRF) أبحاثًا على الحيوانات، تسمى مشروع 259، لتقييم آثار السكروز على صحة القلب والأوعية الدموية. وعندما بدا أن الأدلة تشير إلى أن السكروز قد يكون مرتبطًا بأمراض القلب وسرطان المثانة، أنهت المؤسسة البحث دون نشر النتائج أو الكشف عن أي دليل على الضرر. تقول المؤلفة الرئيسية كريستين إي. كيرنز (دكتوراه في جراحة الأسنان، ماجستير إدارة الأعمال)، التي اكتشفت وثائق الصناعة: “أثبتت جمعية السكر لنفسها عام 1969 أن السعرات الحرارية من السكر لها تأثيرات أيضية مختلفة عن السعرات الحرارية من النشاء، وهذا يتناقض بشكل صارخ مع موقفها العام، آنذاك والآن، بأن جميع السعرات الحرارية متساوية”.
في السابق، كشفت كيرنز وزملاؤها في جامعة كاليفورنيا عن مجموعة وثائق الصناعة التي تكشف أن صناعة السكر بدأت في العمل بشكل وثيق مع علماء التغذية في منتصف الستينيات لتحديد الدهون والكوليسترول كأسباب غذائية لأمراض القلب التاجية، والتقليل من أهمية الأدلة على أن استهلاك السكروز كان أيضًا عامل خطر. أفاد الباحثون أن مؤسسة أبحاث السكر موّلت سراً مراجعة عام 1967 في مجلة نيو إنجلاند الطبية، هذه التي قللت من أهمية الأدلة التي تربط استهلاك السكروز بمستويات الدهون في الدم وأمراض القلب التاجية. وكذا أنكرت جمعية السكر (مجموعة تجارية لصناعة السكر في الولايات المتحدة مرتبطة بمنظمات سكر دولية مماثلة) باستمرار أن السكروز له تأثيرات أيضية مرتبطة بالأمراض المزمنة بما يتجاوز التأثيرات الحرارية.
في الدراسة الجديدة، قدم الباحثون بيانات تشير إلى أنه منذ خمسة عقود، حجبت مؤسسة أبحاث السكر الأدلة عن الجمهور بأن الميكروبيوم قد يكون عاملًا مُسهِمًا مهمًا في ارتفاع الدهون الثلاثية الناجم عن السكروز، وأن استهلاك السكروز، مقارنة بالنشا، قد يكون مرتبطًا بسرطان المثانة. قال المؤلفون: إن النتائج الأولية للمشروع 259، إذا تم تأكيدها ونشرها، سوف تعزز فكرة أن السكر يرفع الدهون الثلاثية، لذا أنهي المشروع، لأنه غير مواتٍ للمصالح التجارية، واستمرت مجموعة التجارة في التقليل من أهمية دور السكر في أمراض القلب. يقول المؤلف الرئيس ستانتون أ. جلانتز، أستاذ الطب ومدير مركز أبحاث مكافحة التبغ في جامعة كاليفورنيا: “هذه الحالة هي مثال آخر على أن صناعة السكر، مثل صناعة التبغ، لديها تاريخ طويل في قمع النتائج العلمية التي لا تدعم مصالحها الاقتصادية” (٢).
الثاني: مقال بعنوان: “قبل خمسين عامًا، دفعت صناعة السكر العلماء بهدوء لإلقاء اللوم على الدهون”، نشرته (كاميلا دومونوسكي) في JAMA Internal Medicine يوم 13 سبتمبر 2016، تكشف مجموعة من الوثائق أن صناعة السكر قلّلت من مخاطر السكر في الستينيات، وسلطت الضوء على مخاطر الدهون. يستند المقال إلى وثائق داخلية لإظهار أن مجموعة صناعية تسمى مؤسسة أبحاث السكر أرادت “دحض” المخاوف بشأن الدور المحتمل للسكر في أمراض القلب، ثم رعت أبحاثًا أجراها علماء من هارفارد. نُشرت النتيجة في مجلة نيو إنجلاند الطبية في عام 1967، دون الكشف عن تمويل صناعة السكر. وقد أشارت الدراسة إلى وجود مشاكل كبيرة في جميع الدراسات التي تناولت السكر، وخلصت إلى أن استبعاد الدهون من الأنظمة الغذائية الأمريكية هو أفضل طريقة لمعالجة أمراض القلب التاجية. ويقول مؤلفو المقالة الجديدة: إنه على مدى العقود الخمسة الماضية، كانت صناعة السكر تحاول التأثير على المناقشة العلمية حول المخاطر النسبية للسكر والدهون. وقال المؤلف المشارك ستانتون جلانتز لصحيفة نيويورك تايمز: “لقد كان الأمر ذكيًا للغاية من جانب صناعة السكر، لأن أوراق المراجعة، وخاصة إذا تم نشرها في مجلة بارزة للغاية، تميل إلى تشكيل المناقشة العلمية الشاملة”.
المال على المحك: كيف تتلاعب صناعة الأغذية ببراعم التذوق باستخدام “الملح والسكر والدهون”؟
لا يحاول المؤلفون جلانتز وكريستين كيرنز ولورا شميت في مقالهم إثبات وجود صلة بين السكر وأمراض القلب التاجية. ويقولون: إن الوثائق تكشف عن محاولات صناعة السكر التأثير على البحث العلمي والنقاش. ويشير الباحثون إلى أنهم عملوا في ظلّ بعض القيود: “لم نتمكن من مقابلة الجهات الفاعلة الرئيسة المشاركة في هذه الحلقة التاريخية لأنهم ماتوا”. ويشيرون إلى أن منظمات أخرى كانت تدافع أيضاً عن المخاوف بشأن الدهون. ويقولون: لا يوجد دليل على أن مؤسسة أبحاث السكر حررت بشكل مباشر المخطوطة التي نشرها علماء هارفارد في عام 1967، ولكن هناك أدلة “ظرفية” على أن مصالح جماعات الضغط في مجال السكر شكلت استنتاجات المراجعة. ففي عام 1954، كما يلاحظ الباحثون، ألقى رئيس مؤسسة أبحاث السكر خطاباً وصف فيه فرصة عمل عظيمة: إن إقناع الأميركيين باتباع نظام غذائي منخفض الدهون ـ من أجل صحتهم ـ يعني أنهم سوف يحتاجون إلى استبدال هذه الدهون بشيء آخر. ومن الممكن أن يرتفع استهلاك الفرد الأميركي من السكر بمقدار الثلث.
الأمر مماثل تماما في “سياسة المشروبات الغازية“، فشركاتها الكبرى على مفترق طرق بين الربح والصحة العامة.
لوبي السكر: “معايير الشفافية لم تكن هي القاعدة”
قالت جمعية السكر التي تطورت من مؤسسة أبحاث السكر: “إنه من الصعب التعليق على أحداث وقعت منذ مدة طويلة. نحن نعترف بأن مؤسسة أبحاث السكر كان ينبغي لها أن تمارس قدراً أعظم من الشفافية في جميع أنشطتها البحثية، ومع ذلك، عندما نُشرت الدراسات، لم تكن الإفصاحات التمويلية ومعايير الشفافية هي القاعدة كما هي اليوم”. “بشكل عام، ليس من المؤسف فحسب، بل إنه من الظلم أن يتم وصف الأبحاث الممولة من قبل الصناعة بأنها ملوثة”!!!.
إن الوثائق المعنية عمرها خمسة عقود، ولكن قضية الساعة الأكبر، كما تشير ماريون نيستل في تعليق لها في العدد نفسه من مجلة الجمعية الطبية الأميركية للطب الباطني: “هل صحيح حقا أن شركات الأغذية تعمدت التلاعب بالأبحاث لصالحها؟ نعم، صحيح، ولا تزال. في عام 2015، حصلت صحيفة نيويورك تايمز على رسائل بريد إلكتروني تكشف العلاقات الحميمة بين شركة كوكاكولا والباحثين الذين ترعاهم في دراسات تهدف إلى تقليل آثار المشروبات السكرية على السمنة. كما حصلت وكالة أسوشيتد برس على رسائل توضح كيف موّلت جمعية تجارية للحلوى دراساتٍ لتظهر أن الأطفال الذين يتناولون الحلوى يتمتعون بأوزان صحية أكثر من أولئك الذين لا يتناولونها” (٣).
يا حلاوة…
المراجع:
- https://www.aljazeera.net/lifestyle/2020/9/25/%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D9%85%D9%86%D8%AA%D8%AC-%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%BA%D8%B2%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%83%D8%B1
- https://www.ucsf.edu/news/2017/11/409116/sugar-industry-suppressed-evidence-health-risks-sucrose
- https://www.npr.org/sections/thetwo-way/2016/09/13/493739074/50-years-ago-sugar-industry-quietly-profit-scientists-to-point-blame-at-fat