في ساحة الأمويبن أمام السيف الدمشقي
د. غالب خلايلي
استيقظت باكراً صباح الإثنين التاسع من حزيران، في اليوم الأول في الشام، والنوم ما زال في عينيّ.
حاولتُ النوم ثانيةً فلم أستطع، فخرجت إلى الشرفة المطلة على حديقة منزلية جميلة، ولبستُ ما يكفي من الثياب وقايةً من عضّات بعوض قليل ينتشر قرب نهر تورى (فرع من بردى يمر عبر الجسر الأبيض إلى غوطة دمشق).
شجيرة الميرمية مثابرة على الإنتاج في الشرفة، بينما شجيرة الملّيسة مسكينة فقيرة بل أفقر مما كانت عليه العام الماضي، فعينها ليست قوية، مع بنية هزيلة، ومع غياب قريبتي التي كانت تعتني بها منذ أسابيع، إذ سافرت لحضور فرح، ما لبث أن تحول إلى حزن عميق عقب عودتها، عندما ضربتها سيارة في لحظة شرود، فكُسِر مرفقُها الأيمن ونزَفَ دماغُها نزفاً شديداً فوق الجافية لكسرٍ في الجمجمة وقاعدتها.
كان البيت فارغاً إلا من أشياء بسيطة وشاي تركناه قبل عام، فشربتُ وأم العيال كأساً منه مع الميرمية، وما لبثنا أن تحركنا باتجاه أوتوستراد المزة إذ دعتنا عائلة صديقة إلى الإفطار.
الطرق رابع العيد في النهار شبه خالية، وإفطار أصدقائنا غني بالمنتجات السورية اللذيذة من أجبان ومربيات وزبدة ومكدوس وزيتون وزعتر ومناقيش.

وبعد حديث ودّي عن ذكرياتنا القديمة في العين (وكنّا جيرانا) توجهنا إلى حيث تعالج مريضتنا في مستشفى خاص يتمتع بسمعة جيدة نسبةً إلى مستشفيات ما زالت تعاني ويلات الماضي القاسي، وتتطلع مع كل الناس بعيون الأمل إلى مستقبل مشرق.
كان انطباعي عن حالة (قريبتنا) أفضلَ مما توقعت مع أنها معصوبة الرأس (بعد تفريغ ثانٍ للنزف) ومثبّتة الطرف العلوي الأيمن (بعد وضع صفيحة وبراغ على العظام)، فيما هي مقيدة إلى السرير بأنابيب نزح السوائل وأسلاك مراقبة الضغط والنبض.
يا ربّ.. أنت الشافي المعافي.
بعدها توجهنا إلى بيت المرحوم أخي إبراهيم، وكم فرحت بنا ابنتاه لارا وليدا وولده الصغير ألمار، حيث بقينا معهم حتى وقت متأخر، لنعود إلى بيتنا ب(التاكسي)، ونصادف من جديد زحمة مرورية غير عادية، تربكها هذه السنة دراجات نارية كثيرة بعضها متهور، مما أعاد إليّ صورة شوارع بيروت.
وفي البيت نمنا بلا هز.

اليوم الثاني في الشام
إنه يوم الثلاثاء العاشر من حزيران. استيقظتُ في الخامسة نشطاً على أصوات زقزقة العصافير المختلطة بهديل الطيور ونعيق القاق الأسود (الغراب) الذي لا يزعجني حقيقة، ولا يدعوني إلى التشاؤم، فرب العباد أدرى بعباده، ما دام قد كتب المصائر.
الجو بارد جميل لا تعكّره أصوات السيارات بعد، والأشجار حولي تسبّح ربها بحفيف لطيف.
فجأة تذكرت أنني لم أتناول أدويتي طيلة يوم أمس والبارحة، وكأنني صرت شخصاً آخر في الشام، فسارعت إلى تناولها، حبة أسبرين وأخرى منظمة لعمل الشرايين، فيما تجاهلت حبة الكولسترول التي تقض مضاجع عضلاتي.
في التاسعة توجهت إلى فرع شركة الاتصالات أول طريق أبو رمانة النازل، وطلبتُ من الموظفة المستبشرة شريحة هاتف بدلا عن شريحتي الضائعة.
القاعة شبه خالية من الزبائن بعد انتهاء عطلة العيد، ولم يكن هناك سوى موظف آخر هو ذاته الذي جمرك هاتفي العام الماضي بمليوني ليرة سورية (نحو 135 دولار وقتها). الحمد لله لم تعد هناك اليوم جمارك كادت تفوق قيمها أثمان الهواتف.
كلفتني الشريحة نحو سبعة آلاف ليرة (ثلاثة أرباع دولار)، وأخبرتني الموظفة عن عرض العيد خمسة أيام بنحو 15 ألف ليرة (دولار ونصف)، ووجدت أن لغة الدولار سائدة بين الناس على مستوياتهم المختلفة.
الجميل أن ذلك العرض سخي من أجل مكالمات الواتس آب وغيرها (مع أنني قليل المهاتفات)، لكن غير الجميل أنني لم أستطع الاستفادة منه لأن رسالتيّ الإعدادات لم تصلاني طيلة 24 ساعة تالية، ولم أعرف كيف أسأل، فقلت أنتظر الصباح التالي.

بعدها توجهت إلى محل قريب فتح أبوابه هو الآخر بعد العيد، واشتريت بعض الحاجات من محارم ورقية ومعجون أسنان ومرتبان رب البندورة متوسط الحجم وقطعة جيدة من جبن القشقوان وقطعة زبدة محلية متوسطة وعلبتي سائل جلي وصابون بقيمة بلغت 120 الف ليرة (13 دولار)، وبعد إفطار بسيط من جبن وشاي ورغيفي خبز فائقي الصغر (حملناهما معنا من الطائرة) وكم حبة تمر، توجهت وزوجتي إلى سوق الجمعة (سوق الشيخ محيي الدين) القريب مشياً وصعودا يحرك عضلات الجسم، واشترينا ما يلزمنا من خضار (بندورة وخيار وبقدونس ونعناع وبقلة وجزر)، و فواكه (مشمش وكرز ودراق وبطيخ أصفر) وخبز أسمر وبيض، وحمص وفول، كلفتنا نحو مئتي ألف ليرة أي أكثر من عشرين دولار بقليل، وعدنا محمّلين نتعاون على حقيبة ثقيلة في جو حار (37 درجة مئوية)، وعندما وصلنا البيت كنا مبلّلين تماما، كما لو غطسنا في بركة ماء، وهذا يذكرني تماما بالمشي في الخليج على مدار العام.
بعد أن استرحنا قليلا زارنا صديق مهندس، وذهبنا معا إلى المستشفى للاطمئنان على قريبتنا، فوجدنا أنها أفضل من الأمس، وكان أن كرّرنا بعدها زيارة بيت أخي، وجلسنا حتى الليل، وعدنا هذه المرة مشياً إلى البيت.

ساحة الأمويين تحولت إلى رمز وطني
افتقدتُ أخي العزيز الذي سلكت وإياه طريق (البرامكة ساحة الأمويين حديقة الجاحظ) مئات المرات. نحن من عائلة تحب المشي، فكم سرت مع المرحوم والدي مسافات طويلة من خط قاسيون إلى وسط الشام، أو من حينا القديم في الغوطة الشرقية حتى باب توما وباب شرقي ذهابا وإيابا، يحدثني عن الأدب والشعر والعروض وغير ذلك. ومع أخي الأصغر إبراهيم كم تحدثنا بشؤون التاريخ والآثار والسياسة شتى الأحاديث. لم يكن مجرد أخ بل توأما للروح.
الطريق نزولا من ساحة الجمارك إلى ساحة الأمويين سهل. رائحة الياسمين الشذية تفوح في الليل، فشجيراتها في دار الأوبرا تعطر كل الطريق حتى أشهر ساحة في التاريخ القريب. إنها ساحة الأمويين التي تغص بالجماهير من كل حَدَب وصوب، تأتي من كل الأصقاع ملتحفة بالعلم السوري الجديد ذي النجوم الثلاث الحمر، وتتصور ووراءها السيف الدمشقي الشهير.
وجدتها فرصة مناسبة لأخذ صورة وزوجتي، صوّرتنا فتاة حمصية في ريعان الصبا ومنتهى العفوية والحماسة والجمال، لنتابع السير صعودا بحذاء المكتبة الوطنية، وعبرنا حديقة الجاحظ (بين شارعي أحمد شوقي وخليل مردم) وسط زوارها الكثر وفيهم عدد من المدخنين، ثم لنصل إلى الطرف الأشهر قرب مطعم ومقهى التوليدو وجامع بدر، فإذا بالمنطقة تغص بشارعها ومطاعمها بالساهرين والساهرات، والمدخنين والمدخنات، والمؤرجلين والمؤرجلات، والمتفتلين بسياراتهم الفخمة والمتفتلات، في شبه كرنفال ألفته عبر السنين، لم يتغير في أحلك الليالي.
وتابعنا مسيرتنا إلى البيت، وكانت الكهرباء في طور الانقطاع (حيث عاد نظام 2 ساعة نور / 5 ساعات انقطاع بعد العيد)، وكذا كان الماء الذي يأتي يوما أول الليل لساعات وينقطع اليوم التالي)، فتركت وجبة ملابس في الغسالة التي سوف تعمل وحدها عند عودة الكهرباء.. ونمنا بعدها دون هز.

اليوم الثالث في الشام:
سيناريو الصباح يتكرر.. لكن الجديد هو زيارتي لهيئة الموسوعة السورية قرب بيتي، للاطمئنان على عافيتها، واستعادة لذكريات قديمة في مكتب جلس عليه الأستاذان عدنان تكريتي وإبراهيم حقي رحمهما الله.
وبعد كأس ماء بارد وفنجان قهوة أعطته الأخت مسرّة، توجهت صعودا إلى ساحة الجسر الأبيض أطمئن على صديقي سليم الدبس استشاري تقويم الأسنان قرب بلدية الصالحية، ثم صديقي وخريج الطب ١٩٨٤ ماهر عبد ربه استشاري أمراض الهضم، استرجع معه ذكريات الدراسة والاغتراب، وكنت بين الزيارتين قد عرجت على محل بيع القهوة (المسماة تركية) وبعض الشوكولاتة، وراعني جفاء بعض البائعين بسبب استفساراتي مع أن أسعارهم سياحية، وعلامات النعيم بادية عليهم. ترى هل مالت عقولهم في النعيم؟
ومع ذلك اشتريت ما أريد، فلا وقت لدي للتغيير، لكنني لن أعود إليهم ولو اضطررت.
وفي نزولي من الطلياني رأيت بائع فواكه بسيطا طيبا يبسط بضاعته على الرصيف فاشتريت منه مشمشا حديث النزول.. آه كم كان لذيذا ولا يشبه البتة المشمش الصلب (منظر فقط) الذي يباع في غير بلاد.
في المساء كنا على موعد مع نجمتي مجموعة أطباء 1984، الدكتورة ربيعة نحاس استشارية طب المختبرات (ترافقها أختها الأكبر الرسامة نجوى)، والدكتورة يسرى حدة استشارية أمراض العيون ورئيسة فرع اختصاص العيون فيما يسمى البورد العربي، وأذكر للأختين تفانيهما في تقديم المساعدة لمريضتنا التي تم تخريجها ظهر اليوم (على أن تتابع طبيا في المنزل)، وكانت سهرة عامرة بأحلى الذكريات وأطيب الأمنيات.

وقد أهدتنا السيدة نجوى مجموعة قيمة من (بوستات) لوحات فنية لزوجها الراحل الكبير الفنان ممدوح قشلان، فيما ابتكرت د. يسرى هدية ظريفة، طاقة من أغصان المشمش بأوراقها الخضر ومشمشها الملوح (بين الأخضر والمشمشي) مع فروع خضر من نبتة إكليل الجبل (الروز ماري) رائعة الرائحة، جلبتها من أرض الخصب يبرود، بعدما كنت قد سألتها في الصباح عن نضج كرز يبرود الشهير ومشمشها، وبدوري قدمت لضيوفي بعض كتبي عربون صداقة وتواصل فكري بات مثله عزيزا في الأجيال الجديدة.
لكل زمان دولة ورجال.. أليس هذا ما يقوله الناس؟
وإلى جزء ثالث في دمشق الفيحاء بعون الله..
دمشق 12 حزيران 2025