في مطار دبي د.خلايلي و عقيلته وطائرة الإمارات
د. غالب خلايلي
لم نكن بوارد زيارة الشام في هذا الوقت من العام، إلا أن حادثا مروريا ألمّ بعزيز لنا جعلنا نقرر السفر في اليوم الثالث من عيد الأضحى المبارك.
على طيران الإمارات
ليس أسهل من الحجز على هذا الطيران. خمس دقائق على هاتفك المحمول، فإذا أنت قادر على السفر إلى أية وجهة تريد. ليس مثل ذلك سهلا حتى على الخطوط المشهورة، خاصة أن ما قبل العيد واليوم الأول منه مزدحم بشدة، وانني على العموم لا أحب المفاجآت، ففكرة السفر مربكة لي حيث أحب الاستقرار أكثر من الحركة، تلك التي تتطلب تنسيقا مهما على صعيد البيت والعيادة ونشاطي الكتابي، إذ تشكل الكتابة لي خبزا يوميا وأكسجين نجاة، وإن كانت لا تسد رمقا ولا تغني من جوع، اللهم سوى الجوع العاطفي والفكري الذي يعتريني في عالم بات أغرب من الغرابة ذاتها.
من العين إلى دبي فبيروت:
ما زلنا نستفيد من خدمات ولدي خريج التقنية سامي في التنقّل ريثما يجد له مستقرا يحقّق له أحلامه الأكاديمية والعملية والإنسانية.
انطلقنا من العين في العاشرة والنصف من صباح الأحد الثامن من حزيران 25 وكنا في مطار دبي الدولي في الثانية عشرة.
وهذا المطار، على ضخامته، قمة في الجمال والترتيب واليسر. ما زلت أتذكر ذلك المنظر الرهيب أثناء تحديثه قبل نحو عقد أو أكثر من الزمان: غابة من الرافعات تعمل فيه.
شاب إماراتي مشرق الوجه رآني أستفسر، فسهل لي أموري على (الكاونتر) فإذا نحن بعد قليل في مراقبة الجوازات، وجوازي، وثيقتي، ربما هو الوحيد في العالم التي لا يفتح إلكترونيا، حيث لا بد من مقابلة، وهي على أية حال مقابلة تحبها أذ لا تأخذ أكثر من بضع ثوان مع موظف أو موظفة في منتهى الدماثة التي عهدتها في مطارات الإمارات على مدى 38 عاما.
ها نحن أولاء، زوجتي وأنا، في بهو الانتظار الكبير، بعد تفتيش دقيق خلعنا به كل معدن حتى الحزام والأحذية.
بإمكاننا الآن أن نرى الطائرات من مكاننا، ويمكننا قضاء وقت ممتع في سوق كبير جدا فيه كل ما تشتهي النفس، مما لا أقربه عادة، لكن يحلو لي تأمل ذلك التنوع البشري الهائل الذي يمكن ان تصادفه في مطار عالمي. واجلس ما طاب لك الجلوس، ولا تخش العطش، فالماء متوفر بالمجان، ولا تخش دخول الحمام، فالحمامات فائقة النظافة متوفرة أنى توجهت.

في الصف 41 من البوينج 777
انتقلنا بكل سلاسة من قاعة الانتظار إلى مقاعدنا، حيث يدعى الناس للصعود تبعا لفئات محددة، تبدأ بركاب الدرجة الأولى، ثم العائلات التي معها أطفال، وتنتهي بباقي الفئات أ ب ج د.
في الجهة اليسرى من الصف 41 جلست قرب النافذة، وجلست زوجتي بيني وبين جدّة لبنانية أرمنية جميلة كانت في زيارة لابنتها في دبي. أحاديث شتى فتحت طيلة الرحلة التي اختصرت مؤخرا من أربع ساعات إلى ثلاث ونصف، بعد فتح المجال الجوي السوري للطيران، لم يقطع تلك الأحاديث سوى غفوات قصيرة، وصراخ توأمين صغيرين قربنا طيلة الرحلة، حيث كان أحدهما مصابا بالتهاب اللثة واللسان المؤلم (قلاع)، وأخيرا تقديم الطعام.
تسأل المضيفة الصينية اللطيفة: ملوخية بالدجاج أم أوزي (أرز ولحم وبازلاء وقليل من القلوبات)؟
فضلت الملوخية وفقا لنفسي الأمارة بالطعام والتي لا تعاف الملوخية في أية حال، وكانت لذيذة بالفعل، ولو أنها لم تتجاوز ثلاث ملاعق رجوت في سري لو أنها كانت أكثر. أما جارتاي فقد اختارتا الأوزي، فكان عليهما الانتظار حتى ينتهي توزيع الطعام عند ركاب الدرجة الأولى، وكان نصيبي (دواقة) من صحن زوجتي مثلما ذاقت هي ملوخيتي، فكان لا بد من قطعة الجبن بعدها، وعينة من متبل الباذنجان والحمص تعلوهما خرطة بندورة، ثم صحن حلوى طيب من مسحوق الفستق الحلبي أو صبغته لا أدري، أكلت نحو نصفه الأقل حلاوة، فيما لم أستسغ قطعة الشوكولاتة المرافقة، بعد أن تعودت على النوع الداكن منها.

من مطار بيروت إلى دمشق
وهبطت الطائرة بعد طواف فوق البحر المتوسط، وكانت قد تجاوزت صحراء موحشة، ثم جبالا بعضها مغطى بقليل من الثلج، فطبيعة خضراء ذات مبان جميلة، وعندما حطت في الخامسة والثلث عصرا ارض مطار رفيق الحريري صفق الجمهور، حتى إذا ما استقرت تماما وقف معظم الركاب وملؤوا ممرات الطائرة، ففضلت البقاء في مكاني ريثما تتاح حرية الحركة.
في ردهة الجوازات كان نحو ثلث الركاب لبنانيين اتجهوا يسارا، فيما اتجه الباقون لبنانيين بجوازات أجنبية، وسوريين بجوازات مختلفة الألوان من شتى الأصقاع والبلدان إلى اليمين.
ومع أنه أحد وعيد، إلا أن موظفي الأمن العام كانوا كثرة وما من زحام. أخبرنا خاتم جوازاتنا أنه ختم في دوامه نحو 300 جواز سوري. سألته: هل أستطيع البقاء في بيروت؟ قال: وجهك إلى الحدود، معك 24 ساعة. أكثر من ذلك يحتاج إلى موافقة الضابط.
قلت: كان بودي أن ابقى قليلا عندكم. ولكني مستعجل إلى الشام.. وشكرته على لطفه.
في جمارك المطار لم يكن معنا شيء نصرح به، وعندما عرف المفتش أننا من الإمارات تركنا نمر دون تفتيش، إلى حيث ينتظرنا سائق من الشام.
الطريق من بيروت إلى الشام ظريف، وهو في مساء الأحد شبه خال في هذا الاتجاه (عكس الطريق العكسي الذي يغص بالعائدين من إجازة العيد). الجو لطيف والهواء بارد منعش مع غروب الشمس.. بشامون، عاليه، صوفر، بحمدون، جنة الله على الأرض، ثم شتورة على يسار سهل البقاع، وجبال لبنان الشرقية، حيث تختلف الطبيعة وتكثر حركة التسوق والسفر. يجد السائق الفرصة سانحة لتعبئة البنزين.. السعر ذاته في سوريا، لكنه أفضل أوكتانا، هكذا قال، كما وجدها فرصة لشراء مياه صحة، وكروز دخان، فدعوت له أن يخلصه الله من هذا البلاء.

على الطرف اللبناني من الحدود (المصنع) الحال ذاته كما العام الماضي عدا غياب المتسولين والمتسولات ممن صادفتهم بكثرة فيما مضى (ترى أناموا أم انتهى دوامهم؟)، فتفاءلت بغياب دعواتهم. أما الملاحظة الثانية فكانت عن كلاب سارحة بين المخلفات، وجراء خمسة ترضع من أمها وسط الطريق.
في الطرف السوري (الجديدة) الأكثر ترتيبا رحب بنا المسؤول، وقام بواجب ضيافة العيد، لنتابع طريقنا بيسر حتى البيت، ولولا الزحام الشديد في ساحة الأمويين وجسر الحرية، لوفرنا ما لا يقل عن نصف ساعة في طريق لا يحتاج إلا إلى بضع دقائق.
وفي البيت المطل على قاسيون الشامخ، كان كل شيء على ما يرام.. الكهرباء والنت والماء البارد والهواء العليل.. فحططنا الرحال وأجرينا الاتصالات الضرورية، وغططنا في نوم عميق.
دمشق 10 حزيران 2025