مع الأستاذ السويدي لندبلاد وزملاء
د. غالب خلايلي
البدايات صعبة غالباً، لكن يبدو أنّ نتائجها مقدّرة، وبين البحث عن عمل إلى البحث العلمي (الذي عملت به خمس سنوات) رحلة شائكة شائقة، وهي ذات شؤون وشجون. واليكم التفاصيل..
بعد تخرّجي طبيب أطفال في دمشق الفيحاء 1988، جرّبتُ حظّي في أوسلو، عاصمة النرويج العملاقة ذات الامتداد المتطاول حتى ثلوج القطب الشمالي، وذات التعداد السكاني الضئيل (وكان أربعة ملايين)، لكن ضعفَ خوافيَّ وقلّة حيلتي أوهنتا قدرتي على المناورة في مفاوضات الحياة1.
هأنذا أخيراً في الطائرة السابعة الرابضة فوق أرض مطار دمشق، بعد تأجيلٍ إسعافيّ لخدمة العلم، وبعد وداعٍ قصيرٍ مخنوقٍ لعروسي ونفرٍ من المقرّبين. طرتُ (مع عدد قليل جداً من الركاب) فوق خليجٍ ما برح يشهد صراعاً دامياً، لأحطّ الرّحال في الشارقة، يوم الأربعاء (13 تموز 1988) الصيفي اللاهب الصادم لمثلي القادم من فردوس دمشق. وبعد عدّة رحلات مكّوكية بين الشارقة ورأس الخيمة ودبي وأبو ظبي، بمساعدة نفرَيْن من أقرباء كرام وصحفيّ تعرّفت إليه، وَهَنَ حبلُ الأمل كثيراً حتى كاد ينقطع، لكنّ رحمة الله انتهت بي يوم السبت 13 آب 1988 إلى مكتب الوكيل المساعد لوزير الصحة، في الطابق الثامن من البناية القديمة للوزارة في أبو ظبي، شارع المطار القديم)، حيث عُيّنتُ (بعد اجتياز امتحان مستشفى الجزيرة) وأُرسلتُ إلى مدينة العين مساء الثلاثاء 27 أيلول 1988 الرّطب المغبرّ. وفي اليوم التالي أُوصِلتُ إلى منشأة قيد التجهيز للعناية بمجموعة أطفال، فأسّستُ لهم دارهم وأثّثتُها من الألف إلى الياء، حتى إذا ما استوتْ نُقِلتُ إلى قسم الأطفال في مستشفى العين يوم الثلاثاء 28 شباط 1989.
1-المصادفة الأسعد: التعاون مع كلية الطب. وكم كانت مصادفةً سعيدةً بل هي الأسعدُ أن ألاقي على باب المستشفى البروفيسور الأسترالي جورج ماكسويل، يسأل كلانا عن قسم الأطفال، أنا الشاب المُقبِل على الحياة، وهو العقل المدبّر لكلية الطب الناشئة، وقسم الأطفال فيها، والذي سيظهر أثره الجليّ في القسم، إذ تحوّل العمل من بدائيّ نمطيّ إلى أكاديميّ متقدّم مع نخبة من أساتذة العالم، إنْ هيَ إلا أيام قليلة، حتى ضمَّني البروفيسور السويدي بو لندبلاد B. S. Lindblad إلى فريقه البحثي، لأعمل خمس سنوات في (الداء السكري الطفلي، وولدان السكّريات، والداء السكّري الحملي).
والأستاذ لندبلاد هو كبير الباحثين في معهد كارولينسكا السويدي المرموق، والمختص بالأمراض الهضمية عند الأطفال، وهو الذي راح يصغي لنا باهتمام بالغ، فإذا به بعد وقتٍ قصير، يختار ثلاثةً ليعملوا معه في البحث، كنتُ واحداً منهم، ثم الوحيد الذي استمر معه (ومع أستاذ الخديج والوليد البروفيسور النيجيري داوودو) إلى النهاية.
2-اللقاء البحثي الأول، وامتصاص الصدمة.. في لقائي الأول معه سألني الأستاذ: ما الموضوع الذي تحب الخوض فيه؟ أجبته: الداء السكري. قال: عظيم. فلتكتب لي إذاً مشروعاً تشرح لي فيه أهمية الداء، والكيفية التي ستعمل بها لتحقيق الهدف.
في ذلك الوقت لم يكن الحاسوب معروفاً، فيما كان الأستاذ يملك واحداً محمولاً. طلب مني أن أطبع عنده ما أريد، ولكنّي لم أكن ذا دراية، فطلب أن أتعلّم الطباعة بسرعة. ومن أجل توفير الوقت والمال طبعتُ (مشروعي المكوّن من عدة أسطر!) بجهد بالغ، باستخدام آلة كاتبة كهربائية مُحوسَبة، اشتريتها بسعر مبالغ به هو (500 درهم)2. كانت أجهزة الحاسوب قليلة وبطيئة وغالية جداً، وحتى ذلك الوقت لم أكن قد رأيت حاسوباً واحداً في كل مستشفى العين بل كلّ الأمكنة الرسمية التي مررتُ بها.
قدّمتُ مشروعي المتواضع إلى الأستاذ، وأظنّ أنه صُدم، لكنّه أخفى صدمته، وعاملني بلينٍ وصبر، وأعطاني ورقَتَيْن فيهما طريقة كتابة مشروع علميّ، ثم منحني فرصةً ثانيةً كي نلتقي بعد أسبوع.
3-أسبوع أول حافل ولا سبيل سوى المكتبة.. كان عليّ أن أزور مكتبة كلية الطب الغنية في ذات ركن هادئ من المدينة، كي أطالع كل البحوث حول الداء السكري، فيما سُمّي وقتها (الخطّ الطبي Medline)، إذ لم تكن الشابكة (الإنترنت) قد عُرفت (أو لنقل: قد وصلت). كانت المعلومات مخزّنةً في أقراص مدمجة CDs تحتوي على عدد هائل من البحوث الأصلية الموثوقة، خلاف الدسّ الكبير في الشابكة اليوم، والذي يحتاج إلى فكر ثاقب ممحّص لكشف العكر والعورات، في الطب وكل مجال. أذكر وقتَها أنني حصلتُ على نحو 4 آلاف بحث عن الداء السكري عند الإنسان والحيوان، لم يكن فيها بحث عربي واحد. هذا أصابني بإحباط شديد، فأنا أعرف أن زملائي المتقدمين في دمشق كتبوا رسائل تخرّج قيّمة، منهم الدكتورة لينة فتّال ورسالتها (الداء السكري عند الأطفال)، والدكتور عبد السلام طوير ورسالته (ولدان الأمهات السكريات)، فرحتُ أبحث عن نسخ من رسائل زملائي، إضافةً إلى المختصرات التي حصلتُ عليها في الخطّ الطبي. والحقيقة أنني بذلتُ جهداً مضنياً في كتابة أوراقي الثلاث وفق المعطيات الجديدة، وعندما أعطيتُها لأستاذي كانت المفاجأة: ملأها خطوطاً حمراً، من أجل مراجعتها.
في تلك الآونة، رحتُ أتعلّم مبادئ الحاسوب في معهد (اليوسف الخاص) عند أستاذين من بلاد الشام. وبعد أن قضيتُ شهريّ الإجازة السنوية من خريف 1990 في تعلّم مبادئ الحاسوب (وكم في ذلك من تضحيةٍ جسيمة لم تكن ضرورية لو وجدت الأجهزة المتطورة)، اشتريت حاسوباً بـ 6500 درهم عُدّ وقتها – على بطئه وضعفه – الأحسن. رقم يتجاوز نصف راتبي، لكني آمنت دوماً أن: الوقت أهم من المال. ومع ذلك هو رقم كبير، فبخمسة أضعافه اشتريت سيارة كريسيدا جديدة كانت بمثابة الحلم في ذلك الوقت الذي لم يعرف التفاخر والتناحر المادي (الآتي عمّا قريب). أما المسألة التي وددتُ لو نصحني أحدُهم بها فهي: أن أنتظر أسبوعين ينتهي بهما معرض (جيتكس دبي) السنوي للحواسب، حيث تنزل أنواعٌ أحدثُ وأرخص، لكن: ما أضنَّ معظم الناس بالمعلومات وما أضعفهم أمام مصالحهم، في ذلك الوقت وكل وقت.
على أن الدروس النظرية شيء، والتطبيق العملي شيء آخر.
كانت برامج الحاسوب متخلّفةً، والطباعة تحتاج إلى صبر أيوب، قبل أن ينزل برنامج النوافذ (وندوز) على الحاسوب عديل IBM (وكان من قبل ينزل على الماكنتوش و IBM الأصليين الغاليين جداً). فَتْحُ الحاسوب وحده كان يحتاج إلى صبرٍ شديد، يمكن خلاله تحضير إبريق شاي خمير، كما أن أي صدفة تعيسة ينقطع فيها التيار الكهربائي سوف تخرّب جهد ساعاتٍ من الطباعة. هنا ساعدني مشكوراً المهندس الدّمث طريف البيطار قبل أن ينتقل إلى الكويت، إذ قضينا معاً أوقاتاً طويلة فهمتُ فيها برنامج الطباعة المعقّد، فيما رحتُ أطبع ملفاتي في طابعات كلية الطب المتطوّرة، لكن أزمتي مع الحاسوب لم تنتهِ حتى أمكن تطبيق برنامج (وندوز) الساحر، وحتى اشتريتُ طابعة ليزر جديدة بمبلغ ألفي درهم (وكم هبطت الأسعار فيما بعد).
استمرّتْ مشاوير الكتابة والمراجعة مع الأستاذ لندبلاد ثلاثة أشهر، وكان في كل مرّة يملأ لي الصفحات بالخطوط الحمر، حتى… أبدى أخيراً إعجابه بالمخطّط!.
4-مقارنات مؤلمة.. كان لا بد أن أقارنَ ما تعلّمتُه من أستاذي السويدي وبين ما أنجزناه من قبلُ تحت مسمّى (البحث العلمي) في جامعة دمشق، فاكتشفتُ – ويا للأسف، مع انشغال معظم الأساتذة في شؤونهم – أن الحظ لم يحالفنا وأستاذ يضعنا على سكّة البحث العلمي الصحيحة مرّة واحدة. ولهذا، مع مئات الرسائل العلمية المهمّة التي أنجزها طلابنا، لم يكن لنا اسم واحد بين الباحثين في العالم، أو يرقَ بحثٌ واحد إلى مصافّ البحوث العالمية، ناهيك عن ضعفنا الواضح باللغة الإنجليزية وبقواعد (اللعبة). حتى كتابة السيرة الذاتية لم نكن نجيدها، وعندما كتبتُها لأستاذي السويدي ورآها، ناولني سيرته الذاتية المؤلفة من صفحات، وطلب مني تقليدها3.
كان الأستاذ لندبلاد دمثاً لطيفاً (أكابريا) بحق، وكان حسّاساً ومتواضعا جداً (وهو الأهم)، بما يليق بأستاذ وباحث كبير، وعندما حنّ إلى الأرض التي عشقَها بعد بلاده (باكستان) والتي تزوّج منها، لم يتردّد، ليذهب ويعود بعد عام، ثم ليترك البلد نهائياً بعد عامين، فيصبح رئيس قسم الأطفال في جامعة آغا خان الباكستانية.
5-ذكريات بحثية مضيئة وأخرى معتمة.. البحث العلمي هو عملٌ حثيثٌ مضنٍ مكلفٌ فيه متعةٌ وفيه تعبٌ شديد أيضاً. متعة الوصول إلى معلومات قيمة ونتائج مفيدة لا تعادلها لذة عند من يتذوّق ذلك من ندرة من البشر، يتمتعون بالجد والصبر والأخلاقيات العالية4. والبحث الحقيقي لا يتم دون تعاون عدة جهات بعضها مع بعض، وكذا النشر لا يتمّ قبل مراجعات دقيقة يلعب اسم الباحث الكبير دوراً مهمّاً فيها (وهذه إحدى قواعد اللعبة). على أن الأمور ليست بهذا الجفاف دوماً، ففي الاحتفاليات بالنتائج لقاءاتٌ اجتماعية غنية بالشخصيات العلمية المشاركة، ولا تخلو من أطايب الطعام في أماكن سياحية.
ومن الأمور المعتمة في البحث:
أن تصبح اللقاءات المذكورة و معرض صُورها في وسائط التواصل هي الهدف عند نفرٍ بعيد عن التواضع محبّ للتباهي، وربما للتقليل من شأن الذين لا يملكون قدراتٍ بحثية، كأن الفهم مقتصرٌ عليهم وحدهم.
–الابتعاد عن أخلاقيات العلم، والغش في العمل والنتائج، وهذا وحده موضوع كبير.
–صرفُ سنواتٍ من الوقت والجهد غير العادي كما فعلتُ للخروج من شرنقة العمل التقليدي، توزّعت ما بين عملي (المضني جداً أصلاً) والبحث الذي يتطلب الذهاب إلى المستشفى (خارج أوقات عملي) مع كل ولادة لأم سكّرية، من أجل جمع العينات من الأم وسرر الوليد ونقلها إلى المخبر، ولاحقاً إلى مختبر البحوث، ثم إلى المكتبة والحاسوب للبحث والكتابة والتوثيق، ناهيك عن كتاباتي الأدبية والطبية الغزيرة، ولهذا أستطيع القول: إن الضغوط وقلة النوم هي من أهم أسلحة الدمار الشامل للطبيب وغيره. كان يمكن لحياتي الاجتماعية أن تكون شقيّة بغياب زوجة متفهّمة (وهي أصلاً ابنة كاتب مرموق عرفتْ معه سحرَ الورق والمحابر).
–أما الصدمة المؤثرة فكانت يوم حاولت في آذار عام 1992 أن أزور معهد كارولينسكا في ستوكهولم بوجود الأستاذ لندبلاد في الصيف هناك، علّني أستطيع تقديم رسالة دكتوراة هناك. يومها كتب لي الأستاذ رسالةَ توصية لا يكتب مثلها أبٌ لابنه، ومهرها بخاتم كلية الطب، ولكنّ الفيزا السويدية الغالية (ناهيك عن سوء معاملة موظفة السفارة “العربية” لنا) أبت (تشريفنا)، وأتت بالرفض بعد ستة أشهر، فبهتّ وبُهت أستاذي الذي بدأ يفهم “قصة” لم تمرّ عليه من قبل.
أذكر ثانيةً أن الأستاذ لندبلاد متزوج من سيدة باكستانية راقية، ولهذا سمّى نفسه (بدر سليم)، وقد دعوته وزوجته ذات مرة إلى إفطار رمضان في بيتنا المتواضع عام 1991، فأبدى دهشته للطعام الشامي اللذيذ وكثرته، ولم يكن الأستاذ في سنّه المتقدمة أكولاً، فبقي معظم ما طبخنا5.
وقبل أن أختم حديثي عن الأستاذ، أودّ أن أذكر هذه الحادثة المعبّرة: ففي يوم من الأيام رآني أكتب ملاحظاتي وراء أحد المحاضرين الإنجليز باللغة العربية، فسرّه هذا الموقف جداً، ورأى أن اللغة الأم هي الأجدى في تعلّم الطب، مخالفاً بذلك الكثير من أحبائنا الأطباء العرب الذين باتوا لا يتحدثون إلا الإنجليزية حتى في مواقف التحية والسلام وغيرها.
5-مراجعة للنفس بعد عقود.. مرّت عقود ثلاثة على ما رويت، وتكوّنت لديّ خبرة طويلة في طب الأطفال والكتابة، فيما ابتعدت عن البحث. ولو سألت نفسي: هل كانت تجربة مفيدة؟ أقول بلا شك: نعم. كانت مفيدة شخصياً إذ طوّرت تفكيري وعرّفتني إلى أوساط علمية شفافة ومرموقة، وأخرى منافقة مباهية، وإن لم تخرجني من (الشرنقة) لأسباب ما زالت قائمة، ومع ذلك تجاوزت الأسباب، وأخرجت نفسي بصورة مقبولة في عالم ضبابي. أما إذا استفاد أحدٌ من تجاربنا وغيرنا، فإن جوابي مبهم، مع الاعتياد على وضع البحوث المكلفة على الرفوف وضياع الجهود.
العين في 25 آذار 2024
هوامش
- الخوافي هي صغار الريش الضعيفة عند الطير، وتكون تحت كبار الريش القوية في مقدمة الجناح (القوادم)، ومن أشهر الشعراء الذين ذكروها الشاعر العباسي الضرير بشار بن برد: ولا تجعل الشورى عليك غضاضة فإن الخوافي قوةٌ للقوادم
- سعرٌ مبالغٌ فيه كثيراً لآلة بسيطة جديدة في ذاك الزمان، مثل كل جديد، يستغله الصانع والبائع، وكم ندفع من أموال طائلة من القديم وحتى اليوم لأهل التقنيات.
- كتبتُ رأيي هذا في المجلة الطبية العربية التي كان المرحوم أ.د. عدنان تكريتي رئيساً لتحريرها من عام 1963 إلى عام 2000، وذلك في العدد 120 (أيلول 1993). أما قضية ( قواعد اللعبة) فربما نوضحها في مقال آخر.
- الناس فيما يعشقون مذاهب، وللتقريب: لذة البحث تشبه لذة التدخين وشرب القهوة أو لعب (الطرنيب أو الطاولة) عند نفرٍ، أو عشق الموسيقى أو القراءة… عند نفر آخر.
- اليوم، بعد أن تجاوزت الستين من العمر، أستطيع أن أفهم كيف كان بعض أساتذتنا الكبار لا يستطيع أكل ما يأكله الشبّان.