قبل الحضور وبعده تحت سماء دبي
د. غالب خلايلي
مثلَ طفلٍ صغيرٍ مفعَمٍ بالبراءة، رحتُ أستعجلُ الأيام للِقاء نخبةٍ من الزملاء القدامى (خرّيجي الطب بدمشق 1984) في دبي.
ما سرّ هذا الشوقِ العارمِ الذي يدغدغ القلب، بدءاً من أول لقاء جمع عشرةً منّا صيفَ 2024 (في داماروز الشام)؟ شوقٍ راح ينسج خيوط محبّة آسرة ما عرفنا مثلها حتى أيام صبانا وعزوبيتنا.
هو اللقاءُ الرابع خلال عام، ما بين دمشق مرّتين، وديترويت مرّةً، وأخيراً في دبي التي تحمل سحراً غريباً لمعظم من يسمع بها في أنحاء العالم، حيث الأجواء الجميلة الحالمة – وإن كانت مكلفة – في شتاء خليجي وقور. لقاءٌ أُخِذ قراره في وقتٍ مبكر جداً من السنة الماضية، حتى راح صاحب “البصلة المحروقة”، مع تكاثر الأحداث العالمية وتعاظمها، يخمّن أنه لن يأتي، فإذا به حقيقة واقعة في شبه غمضة عين.
حركة جوية وبرية نشِطة، تقاطر معها الزملاء من ولايات أمريكا الشمالية والممالك: المتحدة والسويد والسعودية والأردن، وإمارة الكويت، والجمهورية العربية السورية، ناهيك عن إمارات أبو ظبي (ببرّها الأخضر الساحر: العين) ودبي والشارقة، حملت معها كمّاً ضخماً من الأشواق للّقاء، مثل عشاق في ميعة الصبا، اضطرمت نيران عواطفهم (دون تشبيب) على الرغم من أن أصغرهم تجاوز الثانية والستين، فلا أجدُ هنا لوصف الموقف، والحق يقال، أبلغ من قول الشاعر الأبله البغدادي (وما هو بالأبله 1):
لا يعرف الشوقَ إلا من يكابدُه ولا الصبابةَ إلا من يعانيها
جُمعة مباركة بحق، وإفطار متأخر:
والشمس غافيةٌ في خدر أمها، وقبل صياح أي ديك، استيقظتُ صباح الجمعة 24 يناير 2025 (الشتويّ!) البارد. تلمّستُ أخبار الزملاء الذين لم يناموا في مجموعة الخليج، من وصل منهم البلاد ومن تأخّرت طائرته، ومن لم يستطع القدوم لـ “أسباب تنظيمية”، وكذا أخبار جماعة (صباح الخير وجمعة مباركة) المعهودة، وقد كانت جمعة مباركة بحق، ففيها بُشّرتُ بصدور ترخيص عيادتي الثامن والعشرين بعد شهر من تحضيرٍ لأوراقٍ ثمينة وعقود، وبعد خمسة أيام من ضنىً إلكتروني (لجهليَ أنا المنحوس الإلكتروني)، وفيها – بالأهمية ذاتها – لقاء الأحبّة في المساء.
الجو رائع جميل بعد شروق الشمس، والإفطار المتأخّر بصحبة أم العيال ومربّية الأجيال -حفظها الله- أروعُ في يوم العطلة، فهو إفطار تُكسَر به بعض القيود الأسبوعية بما يتناسب مع وظائف الأجسام التي خدمتنا لعقود (وماذا نحنُ من دونها في أي مكان؟)، في نيّةٍ لتجاوزِ الغداء أيضاً، استعداداً لعشاء شهيّ بهيّ في دبي، بصحبة الزملاء والزميلات، بعد عقود اربعة من فراق.
الكتب أولاً، ورحلة شاقة بين دمشق ومدينة البنفسج (العين):
الاستعدادات في البيت قائمةٌ على قدمٍ وساق تحضيراً للقاء. هذا سهلٌ جداً نسبياً إذا عرفنا أننا لا نعيش في غير قارة، وليست أمامنا مشقّة السفر (واضطراب التوقيت المضني Jet lag)، وقبلها مشقّات سِمات الدخول ما دمنا من الفئة التي عليها أن تثبت حسن نواياها في كل سفر. على أن أوّلَ عملٍ مهمٍّ قمتُ به قبل أي شيء آخر هو توضيب كتبي التي سوف أهديها للأصحاب. ليست لديّ نسخٌ كثيرة من هذه الكتب في العين، فقد كنتُ أحضر ثلاث نسخٍ من كل كتاب صدر خلال أربعة العقود الماضية (أهديت منها نسخة كاملة لابنتي ريم في كندا). من اثنين وعشرين عنواناً، صدرت ثلاثة عنوانات (2) في أبوظبي والعين (وكانت طبية حصراً)، كنت أحمل نسخاً منها إلى دمشق، أحتفظ ببعضها وأهدي الباقي (باقي العنوانات صدرت من مطبعة فؤاد اليازجي، رحمه الله، في دمشق)، ذلك أن فكرة بيع الكتب لم ترق لي على الإطلاق، فهي فكرة مُذِلّة بكل المقاييس (ويا لعَناء الكتّاب)، فالكتاب ليس أي بضاعة. لي خبرة واسعة في ذلك (كتبي وكتب والدي خليل وحماي وليد مدفعي، مع أنهما عاشا في عصر أغنى ثقافياً). هل تعجب أن أهم مكتبات دمشق مثل ميسلون وغيرها أغلقت أبوابها في العقد الماضي؟ وأن مكتبة النوري الشهيرة مقابل البريد أشبه بأطلال مهجورة؟ أما ما يحرق القلب فهو تلك النسخ التي كنت أحتفظ بها في منزل صيفي بخان الشيح (لم ننم فيه ليلة) في ريف دمشق، فقد احترقت كتبي جميعها في البيت المنهوب المحترق قبل عام 2015.
أحصيت كتبي التي يمكنني إهداؤها اليوم، فنالت أصابعَ يدي تشقّقاتٌ مؤلمة (إكزيما التماس) من أثر السنين على الكتب. قمت بكتابة الإهداء بخط منمّق، ووضعته في كيس بنفسجي، مع قليلٍ من تمر الإمارات الشهي، ولأذكر هنا أن البنفسج هو لون مدينة العين الأثير (ولون عيادتي منذ إنشائها)، واللون الأصيل لفريق كرة القدم فيها، حتى تقمّصت العينُ البنفسجَ، فما من أحد يدعو البنفسجي فيها إلا (العيناوي).
رحلة المساء إلى الجميرة، دبي:
مع أصغرنا سامي الأخبر بالطرق، نكون – بعون الله – في أمانٍ من رُهاب المرور وعُصاب الشوارع، ونحن نكبح جماح عنفوان السرعة، وملله من لقاء جيل أبيه. حركة الحج إلى دبي حثيثة من كل اتجاه، لاسيما أنه مساء الجمعة (بداية عطلة الأسبوع).
بأحلى حللنا، الثقيلة نوعاً ما اتقاءً للبرد، انطلقنا مع حرمنا المصون في رحلةِ الساعة ونصف الساعة في الطرق الفسيحة باتجاه دبي، مواكبين عددا كبيرا من السيارت التي سوف تملأ الطريق ناحية الجميرة، حتى ليبدو غصصُها واضحا في شبه توقّف تام، كأنها (برمة الدولاب) في حمراء بيروت. وبحركة التفافية خبيرة من وراء المباني، بحذاء البحر، وصلنا وجهتنا (مطعم الديرواندي) الشهير في السابعة والنصف مساء، أي قبل نصف ساعة من الموعد. الجميل جداً أن مكان الاصطفاف متوفر، قريب، ومريح.
سهرة مخملية على نغمات العود الشجية ونبضات القلوب (الفتية):
المكان الجميل في الطابق الثاني والمفتوح على سماء دبي المزروعة أبراجاً وأضواءَ خالٍ من أيّ من الأصحاب. لا مؤنسَ سوى شبّان السويداء بكامل وُدّهم وأناقتهم، يشرحون لنا ما نريد معرفته عن المكان، وهم يعدون العدة، ومن ذلك إشعال مدافئ الغاز الموزّعة بانتظام. أول القادمين بعدنا كان الزميل أحمد دباغ، استشاري العيون وحَوَل الأطفال في لندن، وزميلي في ثانوية ابن خلدون بدمشق منذ 1975. لقاء حار بعد أربعة عقود، تلاه قدوم استشاري القلب في شيكاغو نوري الخالد وزوجته، ثم الزميل إبراهيم الزعبي أستاذ أمراض النساء والولادة في إربد (وزميلنا في ابن خلدون). وتتالى الحضور: رانية دياب (مختبر، سوريا)، ريمة خوري باخوس (علم الأمراض والطب المخبري، شيكاغو) وزوجها، سوزان مغربي (ممارسة عامة، أبو ظبي) وابنتها، غزل ماهري (نسائية، العين، ضيفة من مجموعة 1982)، غياث صندوق (حساسية أطفال، أبو ظبي)، فاتنة طحان (أشعة الثدي التشخيصية والتداخلية، الرياض)، نبال بيطار (أطفال، الشارقة) وابنتها، نفن ليبزو (هضمية، لندن)، هبة غنام (جلدية، أبو ظبي) وزوجها طبيب العيون حسان إمام، هويدا رزوق (الطبيبة النسائية، والرسّامة الموهوبة، سوريا) وزوجها، وهدى قطاع (هضمية، أبو ظبي، ومشرفة اللقاء المتفانية في التحضير لأشهر).
وفي لقاء الفرح بَدَوْنا وكأننا نعرف بعضنا بعضاً منذ وقت قريب، خاصة وأن مجموعة التواصل المصغّرة أسهمت بردم هوّة الغياب أربعين عاماً بالتمام والكمال. أحاديث العمل والتقاعد والعائلة والتشتت والبلاد والعباد والأشواق سادت لقاءنا الحميم، تخلّلت ذلك أطايب الطعام الشامي البيروتي (ما أشدّ التشابه!)، كل يأكل على قدر الاستطاعة (فالمِعَد لا تتحمّل أو تستوعب قدر محبّتنا).
كانت مدافئ الغاز تحيط بنا من كل جانب، فما شعر بالبرد من خالَ أن ليل الخليج معتدل، وإن أجّجته مدافئ العواطف طيلة الوقت (نحو خمس ساعات)، وزاد الحرارةَ عزفٌ على العود وغناء شجي لشاب شآمي الملامح اعتمر برنيطة سوداء، وغنى فيروزيات البنت الشلبية والحلوة دي وكيفك أنت بإحساس عالٍ، جذب الحاضرين الذواقة والحاضرات، وإن لم يشغلهم عن حديث الذكريات.
بعدئذ حانت التفاتة من الزميلة فاتنة طحان الممتلئة حيوية وحماسة، فألقت كلمة جميلة معبرة أتبعتها بهدية لطيفة من المِسك الغالي والقهوة الفاخرة، ثم سلّمتني الميكروفون لألقي كلمة، فوجدتها فرصة مناسبة لأعبّر عن فرحي بولادة روحية جديدة، وأقدم بعض نتاجي الأدبي إلى الزملاء، تلت ذلك كلمة معبرة أخرى للزميل المرح أحمد دباغ، حتى إذا ما انتهى فوجئنا بقدوم قالب غاتو مستطيل الشكل مزدان بلوحةٍ بصرية جميلة تخلد ذكرى اللقاء، قدمته الزميلة سوزان مغربي.
وفي اللقاء الجميل افتقدنا زملاء كراماً لتأخّر وصولهم أو تعذّره (ومن ذلك بيئات العمل الضاغطة)، وكان وصولهم سيجعل اللقاء أغنى وأجمل.
الوداع والعودة إلى العين:
مهما بلغ حجم الشوق والمتعة في أي لقاء لا بد من ختام. كل ما ابتدأ لا بد أن ينتهي، خاصة وأن أمام أكثرنا واجبات لا بد من إنجازها. ومع أن برنامج الزيارة سوف يمتد نحو أسبوع لبعض الزملاء القادمين من أماكن بعيدة (ومن ذلك رحلة بحرية، وأخرى صحراوية، ناهيك عن التسوّق المغري)، إلا أن قطفتنا الأولى كانت الأشهى، وكان جناها عذباً سوف يخلد في البال ما شاء الرحمن لها الخلود (3).
دمتم بخير.
العين، صباح الأحد 26 كانون الثاني 2025
هوامش:
- الأبله البغدادي: محمد بن بختيار بن عبد الله البغدادي. شاب ظريف وشاعر محسن، شعره في غاية الرقة والحسن. عاش في العصر الأيوبي (توفي عن 93 سنة عام 579 هجرية). كان بالغ الذكاء فدعي بالأبله على عادة العرب يسمون المرء بما ليس فيه فقد دعي الأعشى (صناجة العرب) مثلا أبا بصير،
- تجمع كلمة عنوان على عنوانات (مثل جمع المؤنث السالم) وعناوين (جمع تكسير).
- في التعبير الأدبي يقولون: تكرار الإبداع ليس إبداعاً.