د. خلايلي وزوجته وابنه الأصغر سامي في مطار دبي
د.غالب خلايلي
بعد أشهر من جو غريب ماطر حاصب، راح صيف الخليج يصبّ جام حممه في شهر أيار، ليفتح الأبواب على مصاريعها في حزيران.. وفيما آذن ذو الحجة على قدوم العيد، غصّت الطرق بالسيارات وأصحاب الحاجات.. فأدركني السأم من شدة الحرّ وانشغال الناس، لأتخذ قرار السفر الى الشام مروراً ببيروت، وسط دهشة معظم من سمع واستغرابه!.
***
ورشة ما قبل السفر. ومع انتهاء ابني الأصغر سامي من امتحاناته الجامعية، قمت خلال ربع ساعة بحجز تذكرتيّ سفر بالهاتف المحمول!. للتقنية أيضا حسناتها.
والحق أن أكثر ما يشغلني قبل السفر ليس ترتيب الحقيبة، فأنا قليل المتاع مع وجود معظم ما يلزم في الشام، لكنه ترتيب أمور العمل والملفّات، الوظيفية منها (وما أكثرها رغم تناهي عيادتي في الصغر مقارنةً بما حولها من عظائم المنشآت)، والكتابية مع نشاطي غير المحدود، وإن بدا لي أنه لم يعد يجذب سوى نفر قليل من البشر مع تدني كل ما هو حضاري أو ثقافي أمام تحديات الحياة الصعبة، أو مغرياتها عند أقلية من خليّي البال، ومع ذلك لا أتخلّى عن هوايتي وهويتي ولو لم يقرأني أحد سواي.
ومع أن العم “غوغل” العظيم يتولّى مهمة إخبار الناس بغلق عيادتي، إلا أنني أخبر كل من يزورني بذلك، ولا أنكر استغراب عدد منهم وجهة السفر، لما يسمعونه من أخبار ساخنة، حتى إن آخر مريضة رأيتها قالت مستهجنة: الحين؟!! لكنها أردفت بسرعة وبحكمة فطرية: “لا بديل عن الوطن.. حماك الرحمن”.

على متن بوينغ الإمارات 777 وقواسم مشتركة بين اللبنانيين والسوريين.. بعد الإفطار صباح الأحد التاسع من حزيران استغاث بي أحد مرضاي، فقمت بزيارة منزلية له ريثما تجهز زوجتي نفسها.
انطلق بنا ولدي سامي في شوارع العين الجميلة (شبه الخالية يوم الأحد) نحو مطار دبي الدولي، حتى إذا ما صرنا في بهو المطار المكيّف (Terminal 3) أحسسنا أننا (مقارنة بالجو الخارجي) في جنان النعيم، لنستقر في مقاعدنا بعد ساعتَيْ إعداد وسط زحمة مسافرين إلى بيروت، أتى عدد كبير منهم من أستراليا، لبنانيين وسوريين، فما ترك معظم المسافرين وزنا مسموحاً دون حمله، حتى غصت خزن الطائرة بمحتوياتها، وما كان لها أن تغلق دون مساعدة المضيفات بأوزان الفراشات ونشاط النحلات العاملات.
ومع أن أربع ساعات مقرّرة للرحلة، غير أنني لم أجد ما يشجّع على القراءة، خاصة مع اتكاء سيدة عجوز أمامي بمقعدها نحوي، فما كان لي سوى استعراض فيلمين قديمين (بعد أن زاد اهتمامي بالصنعة المتقنة لهذه الأفلام) أولهما فيلم (نساء في حياتي 1957) من بطولة يحيى شاهين وهند رستم وزبيدة ثروت، مع تنويه بسيط إلى طريقة أكل الفراخ المميزة في معظم الدراما المصرية، وفيلم (نهر الحب 1960) من بطولة فاتن حمامة وعمر الشريف، حتى إذا ما هبطت الطائرة على مدرج مطار بيروت، صفّق معظم الركاب تحيةً للقبطان وجهازه الملاحي، ولما قاربت على التوقف، قام الجميع من مقاعدهم وعقدوا حلقات حوار، ليعيدهم المضيف بسرعة، إذ إن الطائرة توقفت مؤقتا فاسحة المجال لطائرة أخرى تستعد للإقلاع،
وكم وجدتُ في ذلك الطبع تشابهاً غير قليل بين اللبنانيين والسوريين، أكّده لي (مهما اختلفوا على ذلك) ما رأيته خلال ثلاثة أيام قضيناها في ربوع لبنان.
بلد جميل لكنّه ملوّث سمعيا وبصريا وشمّيا..لبنان بلد جميل جدا دون شك بطبيعته متعددة الأشكال من بحر وسهل وجبل، وبقاماته الفنية والأدبية (فيروز والرحابنة ووديع ونصري وصباح.. وسعيد عقل…..) والصحفية والسياسية (دون تسميات) والعلمية… الخ.

لكن يؤلمك أن ترى التلوث الكبير فيه شمّيا (روائح الشواطئ والقمامة ومولدات الكهرباء.. ناهيك عن روائح التدخين والأراجيل التي تلوث البيوت والأماكن العامة..)؛ وبصرياً (غلالة التلوّث السوداء فوق المدن المنخفضة)؛ وسمعيا (أصوات السيارات المسرعة والدراجات النارية العجيبة التي تمشي كالصواريخ بين السيارت بل عكس السير أحيانا..)، ناهيك عن أنواع أخرى من التلوث يعرفها أهلها وتسبّب معاناة كبيرة للناس مع هبوط قيمة العملة إلى حد لا يغتفر.
ومع ذلك تمتلئ الأسواق بما لذّ وطاب من فواكه الصيف (المشمش والكرز والدراق…) والفواكه المستوردة وكل ما يخطر على البال، لكن بأسعار مدولرة أمام رواتب ملبننة يصعب حملها واستيعابها في جيب أو حقيبة.
والحال هذه لا تستغرب اعتياد الناس حتى على اختراق جدار الصوت بين وقت وآخر تحمد الله أنه لا يكسر الشبابيك ولا أسطح الطاقة الشمسية المكلفة التي اعتلت كثيراً من الأبنية للتغلّب على شح الكهرباء وغلاء أمبيراتها وقهر موجات الحرّ والقرّ؛ تبريدا وتسخينا، حال أجوائهم حال الوضع كله هناك.
على أن الحديث عن زيارة لبنان لا يكتمل دون ذكر أمرين ولو على عجل:
-أولهما، زيارة الصحفي فضلو هدايا في الأشرفية (القريبة من الوسط التجاري) للسلام عليه في مكتب (تأمين ومصارف) ظهر الإثنين العاشر من حزيران، فترجو أن تجلس معه أكثر وأكثر وهو يجود بمعلوماته من خزّان الذكريات، وهو يحضّر لك القهوة التركية أو أي قهوة تحب أو العصير أو الفواكه الطيبة.. بتلقائية محببة وكرم فطري.
-وثانيهما، زيارة تمّت بمحض الصدفة لمنشأة طبية فاخرة في الأشرفية أيضا، تُدعى (واحة الحياة Oasis de Vie) بطوابقها الستة عشرة تحت الأرض وفوقها من أجل عناية مثالية بالمرضى لاسيما من كبار السن، ومتابعة الحالات المرضية المختلفة مثل الزهايمر وغيره، في بيئة مثالية راقية طبيا واجتماعيا، وحسبك الاستقبال الحسن الذي لقيناه من قبل مديرة المنشأة التنفيذية السيدة (سيدة معلم نصار) ذات الدماثة والخبرة الواسعة، ومن السيد ناجي نهمة المدير المالي الذي عرّفنا إلى أقسام المنشأة بكل محبة. الحقيقة أنها منشأة ترفع الرأس في زمن التنكيس والانحناء، ولو أن تكاليف الإقامة بمنشأة كهذه أكثر ما توافق المرتاحين ماديا.

بقي أن أذكر أن إنتاج لبنان المحلي من الخضر والفواكه وما يتبع ذلك من صناعات، هو انتاج ممتاز، ولو أن شيئا غريبا لفت نظري ألا وهو أن سعر الثوم المستورد يعادل ضعفي الثوم المحلي (365 ألف ليرة لبنانية للكيلو مقابل مئتي ألف حيث إن الدولار ثابت حالياً على تسعين ألفا)، ولست أدري لماذا تستورد أية مادة ما دام لها نظير محلي أفضل.
من بيروت إلى الحدود.. الحر والمتسولات أول المستقبلين والمستقبلات..انطلقنا ظهر الأربعاء الثاني عشر من حزيران برّا من بيروت إلى الشام.. وكانت الحمّى واضحة حتى في المناطق الجبلية مثل بشامون وعاليه وصوفر وبحمدون ناهيك عن الحدود، ويبدو أن موجة حرّ تجتاح المنطقة كادت تخرب مزاجنا نحن الهاربين من حرّ لا يطاق، فإذا به أول المستقبلين.
ها نحن أولئك أخيراً في شتورا آخر نقطة قبل الحدود، وفي ذات استراحة جديدة يحلو الجلوس في مكان جيد الإعداد والتبريد، كما يحلو تناول منقوشة (الزعتر والجبن) المميزة مع ما ترغب به من خضر أو شراب، وقد فضلنا قليلا من المشمش البلدي. وفيما وجد السائق الفرصة مناسبة لشراء أدوية أوصي بها من صيدلية قريبة؛ وكذا تعبئة سيارته بالبنزين (التنكة بنحو 17.8 دولار)، وصلنا إلى مباني الأمن العام اللبناني الحدودية، وكانت معاملة الضباط والأفراد لائقة كعادتهم.

وفي المنطقة الفاصلة بين لبنان وسورية، انتشر عدد لا يستهان به من المتسوّلات الصبايا والطفلات، والشبه الشكلي بينهن كبير، ناهيك عن اتقانهن الصنعة. ومما قالته لي إحداهن مثلا: أعطني لأدعو لك!
ويبدو أنها دعت عليّ لا لي.. إذ وصلت بيتي مساء، وكانت الكهرباء مقطوعة وكذا الهاتف الثابت وحتى هاتفي المحمول، فما عاد بإمكاني التواصل مع أي شخص كان، قبل يوم جديد سطعت فيه الشمس بشدة بعد ليلة من تعرق غزير.
وإلى الملتقى في الحلقة الثانية في أجواء أبرد نسبيا.
دمشق السبت 15 حزيران 2024
وقفة عيد الأضحى المبارك
