الكاتب مع زميلٍ عزيز في أحد المؤتمرات العلمية
د. غالب خلايلي
مضى وقت طويل لم نحضر فيه مؤتمراً طبياً، وقد جاءت الفرصة المناسبة لحضور مؤتمر كرنفالي ضخم في المدينة التي لا تنام.
***
وشدَدْنا الرِّحال أنا وأم العيال، ترافقنا الخالة العزيزة مطمئنّةَ البال، بعد أن وصلتنا بخير حال، من حلب الشهباء، بلد الأحبّاء والكرماء، التي تتعافى بعد طول محنةٍ وبلاء، طارت إلينا على أجنحة الشام، تلك التي تكاد لا تنام، قلنا: فرصة ترى فيها معنا مدينة الضياء، في رحاب مؤتمر الأطباء العلماء، ولما كان الموعد بعد ظهر جمعة، لم نرَ ما يعيق فالأمر متعة، خاصة وأن آثار العواصف الغريبة، قد زالت من منطقتنا الحبيبة، فصار بإمكاننا الخروج، والتمتّع برؤية المروج، قبل أن يلج الصيف، ويا له من ضيف.
ساعة ونصف من السير الحثيث، بمعونة عمّنا غوغل المغيث، كانت أكثر من كافية، لسيارتنا رافقتها العافية، حيث وصلنا إلى الفندق الفارِه وسط مدينة الاحتفالات، المُحاطة بأجمل المنشآت، وبالبحر الجميل من كل جانب، فإذا هي للمتسوّقين الأجانب وكذا للمؤتمرين خير جاذب.
وركنّا سيارتنا بالعرض، في ثالث طابق تحت الأرض، وصعدنا بالمصعد الوسيع البهيج، ترافقنا صبيّتان يفوح منهما أريج، صبيتان غضّتان كغصن البان، في صمتهما رقّة وحنان، وإذا تكلّمتا فكأنهما تغرّدان، وإن قالتا للبدر: دع مكانك لنجلس فيه، لما تردّد في الاستجابة وراح في تيه.
تلك كانت أولى عيّنات المؤتمر، وما أدراك ما غاب عنك من فتنةٍ وما حضر، مؤتمر توزّع حضورُه المهيب في طابقين واسعين، بمصاعد متعدّدة ودَرَجين متحرّكين، هو فندق فخم، ذو عراقة وزخم، تزاحمت فيه الشركات التي لولاها لما قامت مؤتمرات، ممثلةً بأصبى المندوبين والمندوبات، في أحلى حللٍ وأجمل هيئات، فبدا المؤتمر كأنه زفاف الأمير إلى صاحبة الحظّ الوفير، كلّف ما كلف الاشتراك (الطوعي) من أموال، فما قبل ذلك ولا بعده موّال، خاصة وأن الغاية نبيلة شريفة، والطرق إليها لطيفة وعفيفة: تمويل البحث العلمي الخلّاق، وترفيهٍ لا (تضيق) معه الأخلاق، يقابله حُسْنُ دعايةٍ وسعةُ انتشار، هذا كلام ما عليه غبار.
ولا تسل يا سيدي عن الحضور، من كلّ فئات الأعمار كالورد والمنثور، أتَوا في أبهى حلّة وأجمل طلّة، تزيّن الصدور وردةٌ هنا وهناك فلّة، أطباء وطبيبات، وصيدلانيين وصيدلانيات، وممرّضين وممرضات، يجول بينهم فتيان للضيافة وفتيات، بصحون وفناجين ومقبّلات، يسمّونها (سناك) وهي خفائف لطائف، يتخاطفها الحاضرون أي تخاطف، لا لبخل لا سمح الله أو تقصير، فالخير كثير بل وفير مثير، لكنّ هناك من عضّه الجوع في المحاضرات الدّسمة، وصارت نفسه للطعام والسجائر خرِمة، ناهيك عن أن الأجواء المخمليّة تفتح الشهية، فتحصد ما أمامها من شايٍ وقهوة، لتستعيد ما فقدت من قوة، والأهم أنها بهذا القدر المحسوب لا تخرّ أو تنام، كما يحدث عادة بعد دَسِم الطعام.
***
أما المعلومات والمحاضرات، فهيهات اللحاق بها هيهات، ولو قضيتَ أياماً تتابع، فلا شك أنك بعدها ضائع، وذلك بالطبع عائد إلى غزارة المحتوى، وتعدّد الأمكنة وعلوّ المستوى، لا يبلغها إنسان مهما بلغ من الفِطنة، فما بالك إن كان ذا همّة ثقيلة أو بِطنة، اللهم إلا إذا قُدّر له الاستنساخ عدة نسخ، كل نسخة في مكان، عندها يكون في العلم قد رسخ.
ومع هذا وذاك وذياك، لا ملجأ إلا هناك، ذلك أن كثرة الساعات التعليمية، جذابة للمجتمعات الطبية السَّنِيّة، والهيئات الصيدلانية العَليّة، كالنحل يجذبه الرّحيق، والفراش يغريه البريق، فبها يكتمل الترخيص، وما دونها من محيص.
وفي المعرض الطبّي الصيدلاني المرافق، كثيرٌ من المعروضات البهيّة والمرافق، تلك التي تبتهج لها النفوس، إن توفّرت (المراهم) والفلوس، كل يحاول اجتذاب جزء من الحاضرين، لعله يكون من الزبائن الدائمين، فتنتعش الشركات، وتطرح البركات، وتدور العجلات، وتعمّ الخيرات، ويتزوج العازبون والعازبات، ويكثر البنون والبنات.
ها قد هدأت الروح واطمأنّت، بعد أن أشبعت عقلها وبطنها وظمأها روّت، وتشبّعت بآراء العلماء، وحملت أكياس الدعاية والدواء، ورأت الأصحاب في أكبر مهرجان، ممن غابوا في تلافيف الزمان، فما بقي سوى التصوير قرب درّاجة المؤتمر الفخمة، والحنين لأوقاتٍ انسلّت في الزحمة بلا رحمة، ترى: أتستعاد تلك الأيام والليالي، ويعود وقت اللهو والتسالي؟ أم أضحى التنائي هو البديل، والذكرى هي السبيل؟
ها قد جنّ الليل يا أصحاب، وحان وقت الرجوع يا أحباب..
وقبل العودة، جلسنا في البهو الشاسع جلسة مودة، مع وردة وأمّها من ربوع لبنان، شاركتانا بهجة المهرجان. رحنا نتحدث عن طب الأطفال، وهموم الأعمال، وجنى العيال، ومستقبل الأجيال، متسائلين (متشائلين)، وعيوننا ترقب الرائحين والغادين، من كل الأشكال والألوان، إذ يصعب أن تراهم في غير مكان.
ها نحن أولئك ثانية في السيارة، نصعد طوابق تلك العمارة، وعلى هدى غوغل الأثير، والبدر المنير، نعود أدراجنا إلى العين، أو كما تسمى (دار الزين)، نستعيد في الطريق ذكرى المهرجان، وما كسبنا من علوم الزمان.
دمتم بخير وأمان.
العين في 29 نيسان 2024