فورسمان الألماني طبق القثطرة على نفسه
د. غالب خلايلي
يمرّ كثيرٌ من الدارسين لمختلف العلوم مرور الكرام بما درسوه، غايتُهم الاطّلاع على المنهاج، دون الوقوف كثيراً عند ما يدرسونه، ليحصلوا في النهاية على شهادة تخوّلهم ممارسةَ المهنة التي درسوها، وقد يضعونها على الرفّ، ليمارسوا مهنةً أخرى.
***
لكن هذه ليست حال كل الدارسين، فهناك صنفٌ مجدٌّ مفكّرٌ موهوب، أو حتى مشاغب غريب الأطوار، (وقد يوصف بالجنون)، يُعمِل الفكرَ فيما يدرس، فيقوم بالبحث والمطالعة، وربما بالتجربة غير المألوفة، تبعاً لما أُلهِم به، وهنا إما أن يجدَ يداً تساعده ليتقدّم (وما أندرَ ذلك)، أو أن يُهاجَمَ ويُقمَعَ، ليجدَ نفسه خارج الجامعة أو حتى البلد، وهو يبحث عمّن يفهمُه.
ولنذكر هنا أن معظمَ الروّاد في مختلف العلوم هم من هذه الطبيعة، وقوبلوا بالشك والنقد حتى استطاعوا إثبات صحة تجاربهم.
هذه هي حال روّاد علم الأشعة التداخلية Interventional radiology، الذين فتحوا صفحةً جديدة في علاج الشرايين المتضيّقة والمسدودة، في الأماكن الصعبة (الدماغ، القلب، الكلى، الأطراف)، ففي الماضي القريب لم يكن هناك غير السبيل الجراحي (الإسعافي أحياناً خلال ساعات قليلة قبل تموّت القسم مقطوع التروية) بعد أن يصل العلاج الدوائي إلى طريق مسدود.
القثطرة، بِداءات: عرفت القثطرة البولية منذ آلاف السنين عند الإغريق والعرب، أما تطويرها واستخدامها في مجال القلب، فيعود إلى ستيفن هالز (1677-1761م) وكلود برنارد (1813-1878م) اللذين استخدماها على نماذج حيوانية، فتدخل من خلال الشريان السباتي إلى البطين الأيسر، أو الوريد الوداجي إلى البطين الأيمن.
الألماني فرنر فورسمان صاحب فكرة القثطرة القلبية عند الإنسان
في بدء طرحه لفكرة القثطرة القلبية عام 1929، وجد الدكتور الألماني فرنر فورسمان Werner Forssmann اعتراضاً ورفضاً من كل الذين حوله مع اتهامات بالجنون، فوجد أن السبيل الوحيد للإقناع هو أن يجرّبها على نفسه، فوصل القثطرة بساعده الأيسر، ووجهها بالمنظار إلى الأذينة اليمنى، والتقط لها صورة بالأشعة السينية، فأقيل على أثرها، لأسلوبه غير التقليدي، لكنه لاحقاً استطاع أن يقنع الأطباء أن يسمحوا له بتجربتها على بعض المرضى ذوي الحالات الميئوس منها، فأدى ذلك إلى تحسن كبير جدًا في حالتهم، وفي النهاية اقتنع جميع الأطباء بها، وحاز على نوبل في الطب عام 1956.
الأميركي تشارلز دوتر أبو الأشعة التداخلية وقثطرة الشرايين:
تشارلز دوتر Dotter (1920- 1985) اختصاصي رائد في التصويرالشعاعي للأوعية الدموية في الولايات المتحدة، ويُنسب إليه الفضل في تطويرعلم الأشعّة التداخلية. فبعد أن حصل دوتر على الإجازة في الآداب عام 1941 من جامعة ديوك، ذهب إلى كلية الطب في كورنيل، وأكمل تدريبه في المستشفى البحري في نيويورك، ثم إقامته في مستشفى نيويورك، وشغل لاحقاً منصب رئيس كلية الطب قسم الأشعة التشخيصية بجامعة أوريغون ثلث قرن (1952 حتى وفاته 1985)، لتفتخر الجامعة بمعهد دوتر التداخلي المسمّى على شرفه.
وقد وصف الدكتور دوتر مع تلميذه د. ملفين جودكنز Judkinsرأب الوعاء angioplasty عام 1964، إذ قام بالرأب بعد أن اخترع الدّعامة التي يتم توصيلها بالقثطرة catheter-delivered stent، والتي استخدمت أول مرة لعلاج أمراض شرايين الأطراف،عندما قام في 16 كانون الثاني1964 ، في جامعة أوريغون، بتوسيع تضيق عن طريق الشريان الفخذي السطحي SFA لامرأة مسنة ذات 82 عاما تعاني من نقص تروية الساق المؤلم، والمُوات (Gangrene) بعد أن رفضت البتر. عادت الدورة الدموية إلى الساق بعد التوسيع الناجح بسلك توجيه وقثطرة تفلون، وظل الشريان مفتوحًا حتى وفاتها بالتهاب رئوي بعد نحو عامين. وفي وقت لاحق طوّر دوتر خزعة الكبد عبر الوريد الوداجي، في نماذج حيوانية، لتطبق على البشر عام 1973.
الأميركي توماس فوغارتي سحب الخثرات الشريانية بالقثطرة والبالون
توصل توماس فوغارتي T. Fogarty لاختراعه الرائع عام 1969م، وقثطرته أنبوب داخل أنبوب بطول متر، ينفتح في نهاية الداخلي منه بالون صغير؛ فإذا نفخ بالهواء أو الماء انتفخ البالون، وبسحب القثطرة تأخذ معها الخثرة، وبذا يكون الخلاص للمريض والطرف عملا رائعا، يتحرر فيه الشريان، وتعود التروية إلى مجاريها الطبيعية. وقبل ذلك كان لا بد من جراحة، نسبة الوفيات فيها لا تقل عن نصف الحالات.
الألماني أندرياس رولاند غرونتزغ حقق ثورةّ بالبالون في علاج القلب:
والرائد أندرياس رولاند غرونتزغGruentzig في الأصل هو اختصاصي أشعّة وقلب ألماني، ومهتم بالبحث في علم الأوبئة وعلم الأوعية، لكنه حقق ثورة في علاج القلب والشرايين، فإليه يعود الفضل في تطوير علاج التضيق الشرياني، إذ إنه أول من استخدم البالون لتوسيع الشرايين الإكليلية الضيقة دون تخدير، في العالم.
ولد أندرياس غرونتزغ في درسدن بألمانيا 1939، وفي أواخر الستينات تعلّم (في محاضرة في فرانكفورت) قثطرةَ الأوعية الدموية (الذي بدأها تشارلز دوتر عام 1964، واتهمه معظم جراحي القلب وقتها بالجنون)، واضطر – في مواجهة البيروقراطية في ألمانيا لاستكشافه تقنيات رأب الأوعية – إلى الانتقال إلى سويسرا عام 1969، وهناك أجرى في زيورخ أول رأب ناجح للأوعية الإكليلية عند إنسان مستيقظ في 16 أيلول1977 (للسيد أ. باخمان)، إذ قام بتوسيع نحو 3 مم من الشريان الإكليلي الأمامي الأيسر النازل (LAD) المتضيق بشدة (80٪)، وقدم نتائج أول أربع حالات رأب في اجتماع جمعية القلب الأمريكية (AHA) عام1977 ، مما أدى إلى الاعتراف على نطاق واسع بعمله الرائد.
كانت النتائج الفورية لهذا العلاج جيدة جدًا، على الرغم من استخدام قثطرة مصنوعة بعناية في المطبخ، وغدا المريض خاليًا من ألم (الذبحة الصدرية أو خناق الصدر Angina) بعد هذا العلاج لسنوات طويلة، وأُكّد ذلك بإعادة تصوير الأوعية في جامعة إيموري، في الذكرى العاشرة للعلاج الأول، ووجد أن التوسع بقي على حاله طيلة عقد من الزمان، مع حد أدنى من التضيق المتبقي، ربما أقل من 10٪.
كانت النتائج الممتازة للمرضى الأولين واللاحقين حاسمةً في التطور السريع والقبول المتزايد لخيار علاج رأب الوعاء بالبالون. وقد ذكر غرونتزغ العديد من القضايا المهمة في وقت مبكر:
- إن معظم الأطباء، وخاصة جراحي القلب، لن يقبلوا الطريقة الجديدة بسهولة.
- قد تؤدي القثطرة إلى نتائج سيئة إذا لم تبذل عناية كبرى في اختيار المرضى أو الآفات التي يجب علاجها (أي الاستطباب المناسب) وكذا الأطباء المعالجين.
- يتطلب الأمر تعليم الأطباء تعليما دقيقًا للتقنية وصعوباتها المحتملة ومزالقها، للحد وقائياً من النتائج السيئة.
ها قد أثمرت جهود أندرياس غرونتزغ، فبعد نحو عقدين من أول علاج، أي بحلول عام 1990 شاع علاج تضيق الشرايين الإكليلية عن طريق تقنية (رأب الوعاء بالبالون القديم البسيط POBA: Percutaneous Old Balloon Angioplasty)، أكثر منه عن طريق جراحة مجازة الشريانCABG: Coronary Artery Bypass Graft) )، ومع النهج الجديد أمكن إجراء المزيد من التحسينات، مثل استخدام دعامة فوق البالون Stent، إذ ينفخ البالون بعد إدخال القثطرة بضغط يتراوح من 6 إلى 25 ضغطًا جويًا، ثم يفرغ ويسحب بينما تظلّ الدعامة في التجويف المتبقي، محافظة على الشريان مفتوحاً. ومن ميزات هذه الطريقة سرعتها (دقائق بسيطة)، وعدم حاجتها للتخدير بل للتسكين البسيط وربما التهدئة، ومن ثمّ قلة خطورتها، إذ يمكن للمريض أن يعود إلى العمل خلال أيام قليلة، بينما تكون الجراحة أطول وأصعب (تحتاج العملية الواحدة من ساعتين إلى ست ساعات وسطيا)، وأكثر إيلاماً بعد العمل الجراحي، لمدة تختلف من أسبوعين إلى شهر، بسبب نشر عظم القص، ولا يعود المريض إلى عمله قبل مرور 4-8 أسابيع، منوّهين إلى أن الجراحة تتم في أماكن متطورة ومجهزة بعناية مشددة عالية المستوى، وتجرى في حالات منتقاة أيضاً بعناية.
ويبقى نجاح غرونتزغ إنجازاً كبيراً في مجال طب القلب والأوعية، يثبت أهمية الأطباء المبدعين، ومعاناتهم عندما تكون الأوساط حولهم غير متفهمة (ولو كانت ألمانية كما في حالة طبيبنا).
ومن خلال استخدام الدورة الدموية الشريانية طريقاً علاجياً سريعاً، يمكن الآن توصيل الكثير من الأجهزة والأدوية مباشرة إلى القلب والكُلى والشرايين السباتية والدماغ والساقين والشريان الأبهر دون الحاجة إلى جراحة كبرى وتخدير عام، وهذا فتح كبير في عالم الطب.
توفي غرونتزغ وزوجته مأسوفاً عليهما في حادث تحطم طائرة كان يقودها غرونتزغ نفسه (إذ كان طياراً أيضا) في فورسيث (جورجيا الأميركية) يوم 27 تشرين الأول 1985، لكن أثره باقٍ إلى ما شاء الله.