د. غالب خلايلي
ما فائدة أن نكتب: هذا الطبيب رأى آلاف المرضى، وجنى ثروة؟ كلّ الأطباء يشاهدون آلاف المرضى، وقد يجنون ثروات أو لا يجنون، لكنّ الثروة الأهم (الخبرة الموثقة) هي المفقودة، لأن صاحبَها لم يهتمّ ولم يكلّفْ من يساعدُه، ناهيك عن أن معظم الأبناء لا يوثقون مسيرة آبائهم اللامعين.
نتناول في هذا الجزء ما يختص بتدوين الأحداث، على أن تكون لنا وقفة ثانية على التدوين الطبي الورقي والالكتروني (ما يجري للمريض) والتدوين الاجتماعي الإلكتروني (فيس بوك وغيره).
***
لا جدال في قيمة العمل بالنسبة لكل البشر، وفي أن كلّ إنسان يأخذ أهمّيته من عمله، ليصبح العملُ المعادلَ الحقيقيَّ للحياة، فيما الكسلُ والنوم عديلا الموت. ولا جدال أيضاً في أن المقصود هو العمل الصالح البنّاء المفيد للبشر، فيتحقّق التعريف العمليّ لـ “المؤمن”، ويتعرّف نقيضُه “الكافر” بعمله المؤذي لخلق الله، دون أن نتعمّق في المعنى الدقيق للإيمان والكفر.
ومع تسليمنا بقيمة العمل، إلا أن لتوثيق مراحله، بتجرّد ونزاهة، أهمية لا تقل عن العمل ذاته، لا سيما بعد مرور الوقت عليه، ومن هنا تبرز أهمية الكتابة في الحياة، بما قد يعادل (للأجيال الجديدة) الحياة ذاتها، ذلك أن الكتابة الصادقة هي التي تحفظ لنا التاريخ والعلوم الدينية والدنيوية، وتنقل لنا الخبرات المتراكمة، وتحفظ ذاكرة الوطن في ضمائر أبنائه (وهذا أكثر ما يخشاه المتربّصون ويحاولون تشويهه)، فنستفيد منها، وإلا عُدّت كل أعمال السابقين ميْتةً، وعُدّ الوطن غائباً، وبات علينا أن نبدأ من الصفر دائماً.
لولا الكتابةُ مثلا، هل كنا نعرف شيئاً عن أبي الطب أبقراط، أو عن أبي بكر الرازي أو ابن النفيس الدمشقي؟ ولولا زهير وباقي أصحاب المعلّقات، ومن خلّد أشعارهم كتابةً، هل كنا نعرف عنهم وعن حياتهم في الجاهلية شيئاً؟ ولو لم يوثّق شعر المتنبي وأبي فراس هل كنا نتذكّرهما وسيف الدولة الحَمْداني؟
والموضوع ذو شجون، لن أتوسّعَ فيه حتى لا نضيع في تشعّباته، ولكن الذي دعاني إلى التفكير به هو المطبّاتُ التي وقعتُ بها وأنا أحاول معرفة أشياء لصيقة بي مثل تاريخ مدرستي، أو تاريخ نشوء طب الأطفال في سورية، وكم أضنتني ندرة المعلومات؛ ولولا نتفٌ من هنا وهناك، عرفتها من بعض أساتذتي ذوي الباع في الكتابة والحياة، لما توصّلتُ إلى ملامح صورة. عندما حاولتُ مثلاً أن أعرفَ شيئاً عن الأستاذ تيسير الرفاعي مدير مدرستي (ثانوية ابن خلدون: المنبثقة عن مدرسة تجهيز البنين الأولى)، عجزتُ، ولولا بعض الأشياء التي عرفتها عنه تلميذاً لما تكوّنت لدي معلومة، وكم ندمتُ أن فكرة الاستقصاء لم تأتني مبكرة، فأدوّن عنه، ليصعب التدارك لاحقاً، نظراً لما حلّ بالشام، وحلّ بالرجل إذ توفّاه الله. فإذا كان هذا هو حال مدير أعرفه، فما هو حال الأساتذة والأجيال التي تعاقبت على المدرسة الأهمّ؟
ينطبق جزء كبير مما أسلفتُ على نشأة الطب في سورية، وإن ثبّت عدد من الأساتذة الكبار معلوماتٍ مهمة تخص الكليّة منذ إنشائها، أو الاختصاصات التي عملوا بها، أذكر منهم الأستاذ عدنان تكريتي (في مجموعة كبيرة من مقالاته عن تعريب الطب)، والأستاذ برهان العابد (في مقالاته ثم في كتابه: الطب رسالتي والتاريخ هوايتي)، والأستاذ إبراهيم حقي (في موسوعته: دمشق في ثمانين عاماً 2018، وسيرة مواطن دمشقي في القرن العشرين 2021)، وآخرين. لكن المعضلة وقعتْ حينما أردتُ معلوماتٍ عن نشوء طب الأطفال، وعن الدفعات الأولى التي تخرّجت فيه، وعن كبار الأساتذة، فلم أجد إلا النزر اليسير، ساعدني في البدء فيه الأستاذ عدنان تكريتي، وأكد لي صحّته الأستاذ صادق فرعون، وأضاف الأستاذ إبراهيم حقي من خبرته الشخصية الكثير، لكنني بذلت جهداً بالغاً (مع بعض الزملاء) لوضع قائمة الدفعات الأولى من خريجي طب الأطفال.
أما السبب الرئيس لضحالة المعلومات فهو قلّة الكتابات (الشخصية أو الرسمية)، أو ندرتُها وحتى انعدامها، فأنت بالكاد تجد كتاباً علمياً مطبوعاً (عدا الكتاب المقرّر)، أو بحثاً علمياً موثّقاً في مراجع معتمدة، أو حتى مقالاً واحداً (ولو إخبارياً) لأساتذة وأطباء كثيرين مرّوا على كلية الطب، وأستطيع الجزم بالأمر عند أغلب من أعرفُهم، دون أن أجزم فيمن لم أتعلّم على أيديهم، فلعلّ لهم كتاباتٍ لم أصادفها. وعلى المستوى الرسمي، يصعب الوصول إلى معلوماتٍ في المؤسّسات المعنيّة، وهي المطالَبة بحفظ ذاكرة الأمكنة المسؤولة عنها، حتى مع التنامي الهائل لعلوم البرمجيات وبرامج التواصل. وللمقارنة، تعود إلى ذاكرتي رحلةُ كلية طب حديثة العهد في العين، والتي صادف التحاقي بعملي الوظيفي ابتداءَ دروسها السريرية أوائل 1989، فما إن مرّت خمس سنوات، حتى فُرِّغ البروفيسور ماكسويل أكبر أستاذ في طب الأطفال (مؤلف المراجع العلميّة المهمّة) سنة كاملة، ليوثّق إنشاء الكلية وتطورها في كتاب بلغ نحو 500 صفحة.
هنا يبرز تساؤل طرحتُه مبكراً في مقالات لي عمرها اليوم ثلاثة عقود ونيف، يوم لاحظتُ في حفل تكريم الأطباء المتقاعدين، أصحاب الرؤوس البيض (الحمد لله أن الثقة بالنفس كانت أعلى، وأن صبغ الشعر لم يكن شائعاً): لماذا لا نعرف شيئاً عن هؤلاء؟ وماذا لو كتب كل منهم مقالاً يلخص تجربته الطويلة؟ وأتساءل ثانية: هل يعقل أن آلاف الأساتذة والطلاب مرّوا من مدارس عريقة، وكليات عريقة (مثل الطب والحقوق والأدب العربي، والتاريخ…)، ولم يفكّر كثيرٌ منهم بإثراء المكتبة بموضوع ما، أو كتيّب يتناول فيه مدرسته، أو حارته، أو قريته، أو مدينته، أو بلده، أو حتى المكان الذي عمل فيه؟
يخطر على بالي كثيراً أن أكتب عن شخصية معينة، ولكني – مع الأسف – لا أجد معلوماتٍ، ولا يتبرّع صاحبُها بشيء عن نفسه حتى وإن سئل، ولا أدري أهذا زهد أم لا مبالاة، أم ماذا..؟!، وهل نكتب (في الطب مثلا): إن هذا الطبيب رأى آلاف المرضى، وجنى ثروة؟ ما الفائدة؟ كلّ الأطباء يشاهدون آلاف المرضى، وقد يجنون ثروات أو لا يجنون، لكنّ الثروة الأهم (وأعني الخبرة الموثقة) هي المفقودة، لأن صاحبَها لم يهتمّ بالكتابة عنها أو بنقلها، ولم يكلّفْ من يساعدُه في كتابتها، إن لم يكن صاحب خبرة كتابية، ناهيك عن أن معظم الأبناء لا يكملون مسيرة آبائهم اللامعين، ولا يوثّقونها، ولعلهم لا يفهمونها، ولا يهتمون بها في زمن الضياع (ونضع جزءا من المسؤولية على آبائهم لِمَ لمْ يدرّبوهم في الوقت المناسب).
من المهم هنا أن أشير، بعد أن استشرتُ عدداً من أصحابي الثقات منهم الأستاذ إبراهيم حقي قبل وفاته رحمه الله، إلى أننا نعيش عصر انحطاط لا يهتم الناس فيه إلا بأنفسهم وحاجاتهم البسيطة، ومن ثم لا يمكن للعلم (ولا لغيره) أن ينمو، وإذا وجد من يكتب، فإنه يواجه مشاكل مختلفة، مادية (إذ لا يوجد قراء يشترون الكتب)، أو معنوية (إذ تودي بعض أنواع الكتابة بصاحبها). ثم إن الكتابة موهبة لا تؤتى إلا قلة من البشر، وتحتاج إلى الحافز والوقت والتدريب، ناهيك عن أن الذاكرة قد تخون صاحبها الراغب بالكتابة في وقت متأخر. أما الجيل الجديد، فمدعاة للرثاء، لأنه جيل هلاميّ الشخصية، بعيدٌ عن لغته وتراثه، ولا ينتشي برائحة الحبر والورق أو يفرح بملمسه.
من المؤسف أخيراً أن أشير إلى الهوة الكبيرة بين الأساتذة الكبار، وبين الأجيال الحالية، التي تختلف قدراتها العلمية واللغوية (العربية والأجنبية)، وطموحاتها المادية، اختلافاً بيّناً عمّن سبقها، فأنت بالكاد تجد رفيع الثقافة والعلم بينها، مثل من ذكرت، وبعض من لم أذكر، لتُسهم (الفوضى الخنّاقة) التي طالت بلادنا بمزيد من التعثّر. كما أنه من المؤسف ألا تهتمّ الجهات الرسمية بموضوع التوثيق الدقيق، وحفظ السير المضيئة لأصحاب الإنجازات، ممّن لم يكتبوا عن أنفسهم شيئاً، تواضعاً أو استصعاباً.
يأتي مقالي هذا من قبيل الرّجاء لمن يهمّه الأمر من الزملاء، لا سيما الكبار في كل مجال، طبي وهندسي وتاريخي وأدبي… كي يبدؤوا بالالتفات إلى نقص التوثيق (الورقي قبل الإلكتروني، القابل للتزوير والامّحاء في أي وقت) في المعلومات والأبحاث العلمية، بدلاً من إضاعة الوقت فيما يسمّى المجموعات (Groups في وسائط التواصل)، من أجل ردم الهوّة المعرفية (وهذا هدف صعب المنال بغير جهود جبارة مخلصة لا تجعل المادة نصب أعينها)، وكذا ردم الهوة اللغوية التي نشأت بيننا وبين سابقينا.
ويبقى أن العمل (الجاد، الصادق، المفيد) هو أصل الحياة، كما ابتدأنا، على ألا ننسى دور القلم النزيه، المجرّد من الأحقاد المدمّرة.
العين في 12 آب 2024