حديقة الجاحظ ليلاً
في الإجازات الطويلة نسبياً متّسعٌ من الوقت للقراءة والنشاط الثقافي، وكذا الاطلاع على حياة الناس. مع الجزء الثالث من رحلة الشام.
رحلة مع الكتب والفن التشكيلي..
من محاسن الصدف في طائرة القدوم تعرُّفُنا إلى سيدة ناضجةٍ صبيحة الوجه جلست أمامنا. وبتجاذبٍ سريع لأطراف الحديث، عرفنا أنها الإعلامية والأديبة اللبنانية ناريمان علوش التي أصدرت كتابها الثامن روايةً بعنوان “على مدى قبضتَيْن”، ولما لم تكن تحمل نسخة ورقية منه، طلبتُ أن ترسله نسخة إلكترونية، وكم سرّتني سرعة استجابتها في الصباح التالي، فالعادة أن علاقات الطائرة مهما بدت ودودة أو حميمةً سرعان ما تنقشع كسحابة صيف.

كان من المفترض أن أتحدث عن الكتاب مبكرا؛ لولا أنه لم يُتَح لي الوقت لقراءته في غمرة انشغالات حدثتكم عنها. وإذ أستكشف عالم ناريمان علوش أجد أنها علمٌ في وسائط التواصل، أديبةً ومذيعةً وصاحبة مجلة ودار نشر باسمها.
في الرواية يكتشف القارئ أن الكاتبة مشبعة بالهم الإنساني، فهي تتحدث عن قبضتَيْن سحقتا الأفارقة في القرن التاسع عشر: “ملوكِهم المتخاذلين والغربِ”، مؤكدة على ظلم الغرب للإنسان عبر التاريخ، في إسقاط واضح على الحاضر المؤلم، من خلال رحلة العبودية المريرة لأهالي أفريقيا إلى العالم الجديد، إذ نالهم من العذاب حتى الموت {ما نال أهل ايرلندا (العبودية البيضاء) وكذا (من دُعُوا الهنودَ الحمر في أميركا وكندا والأبورجيين في أستراليا والسابميين شمال اسكندنافيا…)، وما نال الشعوب العربية وغيرها في عهود ما دعي (الاستعمار) وهو احتلال واستعباد}. [الفقرة بين قوسين كبيرين تعقيب مني].

تأتي كتابة الكاتبة من خلال رحلة إلى توغوفيل غرب أفريقيا، بأسلوب ممتع ولغة عربية سليمة، تنعكس فيه ثقافتها العالية وخبرتها الصحفية الاستقصائية وخيالها الخصب على شخصيات الرواية وأحداثها، مما ندعوكم لاكتشاف مجاهلها المثيرة بقراءتها.
***
وفي صدفة جميلة أخرى تعرفت إلى السيدة الراقية الرسّامة نجوى النحاس (أخت الزميلة الطبيبة ربيعة النحاس) وزوجة الفنان التشكيلي الشهير ممدوح قشلان، صاحب المدرسة الفنية الخاصة بدفء الألوان، وفنان الأمومة والطفولة الأول بلا منازع في سورية وربما العالم الذي توفاه الله عن ثلاثة وتسعين عاما سنة 2022. وكان أن أهدتني مؤلفين له على قدر كبير من الأهمية المرجعية وجمال الطباعة والإخراج:
-الأول، رسالة لونية من الشرق إلى الغرب 2008: وفيه يتحدث عن حياته الفنية وتراثه الكبير.
-الثاني، نصف قرن من الإبداع التشكيلي في سورية 2006: وفيه يستعرض مجموعة الفنانين التشكيليين الكبار في سورية.

الناس معادن
يثلج الصدر أنك ترى في دمشق أناساً في منتهى الروعة والعذوبة وجمال الروح، حتى لكأن هؤلاء ما مرّوا بشدة ولا رأوا ضيماً. تجد من هؤلاء كل الاحترام في الطريق، مع ابتسامة جميلة عذبة، تبعث فيك الحياة والأمل، وكذا في أماكن الانتظار حيث يقوم لك شاب ريان أو صبية غضّة احتراما. ذكرني ذلك برحلة مانشستر العام الماضي، مع أناس لطفاء لا تفارقهم البسمة، يلاقونك كأنك صديق قديم، مع أنك تراهم أول مرة.
وفي المقابل قد ترى بشراً ليسوا من طينة البشر، فيهم الجشع وقلة المروءة وقلة الاحترام، وقلب الوجه حتى مع إطلالة الصباح البهية، تصادفهم في الطريق، أو في محلات الطعام…، ويبدو أن هؤلاء يخشون تخريب وضعية الغضب والتشنج إن ابتسموا، فتضيع هيبتهم، أو يخشون التفاؤل بلا مبرر قوي فيصدموا، وكم ذكرني هؤلاء (مع فارق الفخامة) بموظفة أجنبية جافة في قسم الأواني الفاخرة في متجر هارودز اللندني الضخم، ويبدو أن تلك الفاضلة لمست بذكائها الوقاد أنني زبون طارئ على فخامة منتجاتها. إذن ليس للجلافة (كما للطف والدماثة) عرق ولا بلد.
مقارنة أخرى مؤسفة. أذكر مثلا الخرق البالية التي (تمشح) بها الطاولات والواجهات الزجاجية في أماكن، فيما تدمّى – في حادث مؤسف – رأس سيدة عربية وأنفها إذ همّت بدخول محل ملابس نسائية في وسط لندن، ولم تر زجاج المحل من فرط نظافته، لنكتشف حكمة أهل (التمشيح) الفطرية: حماية الزبائن.

الصيف والتسمم الغذائي.. احذروا البوظة والمايونيز..
مع ارتفاع الحرارة في الصيف وشح الكهرباء وبقاء عدد من المنتجات (لاسيما اللحوم والبيض ومشتقات الألبان.. والبوظة والمايونيز شائعتي الاستهلاك) دون تبريد مناسب، تصبح مرتعاً للجراثيم، فتتفسخ الأغذية وتصبح سامة عند تناولها، لتتظاهر بأعراض القيء والمغص والإسهال وربما الحمى، مع خراب المزاج والانحطاط البدني. ولم ننجُ مع الأسف من هذه الحالة رغم الاحتياط، كما حدث معي في سفرة سابقة عام 2019 إلى الشام ولبنان، وكانت من شر ما حدث معي في حياتي بسبب الإنهاك الشديد.
النصيحة إذاً هي ما يوجّهه الخبراء بالانتباه إلى الأغذية المشبوهة في الأماكن العامة، وتجنب المأكولات التي يصعب تنظيفها كالورقيات (تبولة، سلطة) عندما يقل مستوى النظافة أو ينعدم، لاسيما مع شح المياه، علما ان المياه (مياه الصنابير) في دمشق كافية وطيبة الطعم، يمكن للمرء أن يشرب منها ويطبخ بلا محاذير.
في الإجازات لا تلفاز أو طب أو قيادة للسيارات
عندما أذهب في إجازة أنسى تماماً أنني طبيب، أو أنني قدت سيارة يوما ما، كما أنسى التلفاز إلى حد كبير.
التجارب (القيادية) التي قمت بها سابقا تجعلني لا أفكر مطلقا بتكرارها. نقل سيارة من الخليج إلى بلادنا فكرة مؤلمة لما فيها من تعب وعواقب بدءا من الشركة الناقلة الكاذبة على الأغلب، ومروراً بقضايا الحدود (ولها قصصها)، وانتهاء بنوع البنزين الذي يمكن أن يعطل المحرك إن كان مغشوشا، وكنت لا تميز الغش أيام توفر البنزين في كل مكان، ناهيك عن قصص أخرى مثل مقاومة الجيران لحقك في صف السيارة وغير ذلك. على أية حال صار هذا الخيار مع “سعادة الربيع العربي” شبه مستحيل. المسألة الأخرى هي استئجار سيارة مما لم يكن تجربة ممتعة مع غياب الثقة والشفافية في التعامل مع المؤجرين وطمعهم وإخفاء العيوب أملا في إلباسك إياها.
يبقى الخيار الأمثل هو المشي وسيارات الأجرة.
المشي (الطبيعي) الذي نكاد نفتقده في الجو الحار هو الأمثل صحيا ونفسيا خاصة إن كنت تقيم في مكان يسهل الوصول منه إلى حيث تريد، فتكون مسيرتك مشاهدة لمعرض حي في الهواء الطلق.
المشاوير القصيرة بالسيارات وقت الحر عقوبة بالغة تشوى فيها وتزخ عرقاً إذ لا يتوفر التكييف.. وإن كانت معك سيارة تعال وجد لها مكان اصطفاف. ذات يوم سعيد أوصلت أولادي الصغار إلى مسبح في اوتوستراد المزة، وبقيت أبحث عن مكان أصف به حتى وجدته في طريق العودة قرب البيت (مسيرة نصف ساعة في الزحام).
تأتي سيارات (التكسي) حلا مقبولا ينقلك من مكان إلى آخر، لا تستطيعه مشيا، وكل سيارة هي حلقة (مرايا) مختلفة، تبعا لحالتها وسائقها. تخشى أحيانا أن تتفكك السيارة وهي ماشية لسوء حالتها، وهي تخرخر وتبربر، ومع ذلك يتعامل معها سائقها ببراعة تصعب على غيره في السيارات المنعمة. تظن أحيانا أن السائق داخلٌ حتما بالسيارة التي أمامه، لكنه يعرف سيارته ومقاييسها أفضل منك أنت المعتاد على سيارات أكبر أو ذات نهايات حساسة Sensors. القصص الإنسانية عموما ممتعة أو مدهشة وربما مؤلمة، لكن أسوأ العادات هي التدخين والتلهي بالهاتف، ودع عنك الآن ذوق السائق فيما يسمع من أغان، وماذا يطربه ويضرب أعصابك. لكنك في الختام لا تملك إلا أن تتعاطف مع الذين يكدون من أجل لقمة العيش.

غزو مفردات الكهرباء .. من الصغير إلى الكبير
من الشمعة ومصباح الكاز واللوكس إلى بطارية الليثيوم، ومن موقد الحطب (وكل ما لا يخطر على بالك ويمكن حرقه للطبخ) وببور الكاز إلى موقد الغاز والليزر والكهرباء.. وكأن الناس كلهم خلقوا كهربائيين أو مهندسي كهرباء.. فلا تسمع إلا: فولت، أمبير، لدات، محولات، بطاريات، مولدات، طاقة شمسية، مصابيح موفرة للطاقة.. إلى ما هنالك من تعابير. هذه كلها عواقب حظر عالمي طويل الأمد.
ولا عجب في ثقافة الكهرباء، فالمسألة حيوية مهمة جدا، لارتباطها الوثيق بكل مفاصل الحياة، إن لم يكن أهمّها شحن الهواتف الذكية وغيرها، فإن الإضاءة والتبريد أو التسخين (حسب الفصل السائد) وتشغيل الغسالات، ناهيك عن الحواسب والآلات في الأعمال المختلفة الطبية والاقتصادية… أمور لا يستغنى عنها في الحياة.. ورحم الله أديسون وتسلا وفولت وأوم وآمبير وغراهام بل على ما فعلوه بنا، وما جعلونا ندمن عليه، فما عدنا نتحمل يوما بلا كهرباء، بل ساعة أحيانا في الأجواء الملتهبة.
وكم يتكهرب معظم الناس عند حساب التكاليف والأسعار و”تقريشها” بالعملات المحلية، فترجو لو أن أشعة الشمس تتسلل إلى أجهزتنا وعتمات قلوبنا، أو أن ضوء القمر يبقى سمير ليالينا، ولكنه عنيد لا يظهر كل ليلة، ولا يدخل كل غرفة.
لقاء الأصدقاء وحديث الطب
قصة الأصدقاء طويلة ذات شجون. قصة الطب كذلك في معظم دول العالم.
ليس سهلاً اكتساب صديق.. لكن ما أسهل خسارته. الصداقة الحقّة علاقةٌ روحيةٌ متينةٌ ثابتة وليست تبادل منافع أو مدائح. هي علاقة لا يرقى إليها الشك حتى في ظروف تدعو إليه، فالصديق الحقيقي يجد العذر لصديقه. كل ما عدا ذلك هو وهمُ صداقةٍ أو خيال أو حتى خيلاءُ أناسٍ لا يرون سوى ذواتهم المتضخمة.
لا أشك في أن عندي عددا مهما من الأصدقاء، أعرفهم ويعرفون أنفسهم، فالود لا يخفى مثلما الحب.
ولا بد أن حديث الطب قائم ما وجد الطبيب، وحتى إذا غاب، فكل الناس يمرضون ويعانون. الطب بشكل عام لم يعد أمرا سارّا، وأقول بأمانة: إنني صرت أخجل (وكثير من زملائي) من بعض الزملاء ومن انتمائي إلى هذه المهنة التي كانت سامية وصارت تجارية بحتة. كتبت في أربعة عقود الكثير عن ذلك، وكتب من
يفوقني علما وأدبا عن ذلك، وقد ذكرت بعضهم في الجزء السابق. أفهم أن الطبيب (وغيره) إنسان لديه متطلبات للعيش، لكن ليس بابتزاز الناس، واختراع ما هو غير موجود أو مستطب (على سبيل المثال قيصرية بلا لزوم، جراحة كاذبة، رفض علاج المرضى الفقراء أو الانتقاص من كرامتهم، تخريب الأسنان باسم التجميل لأن المراهقة مصرة على ذلك… ولك أن تلحظ تشوه أوجه النسوة والصبايا لمجاراة أطباء الكسب غير المشروع لهن).
وهنا أؤكد أن حديثي هذا لا يخص مكانا أو بلدا معينا، كما أؤكد أن هناك زملاء كرام أنحني احتراما لهم (لا أحب تعبير رفع القبعة)، فبورك هذا النوع النبيل من البشر.
جنى العمر في بيوت مهجورة
من المؤسف أن العقد الماضي (بدءا من 2011) شهد أحداثا دموية مؤسفة ودمارا هائلا. وإن ننسَ لا ننسَ لحظات الرعب التي عشناها في أيام زيارتنا الشام. في 2015 مثلا كانت قذائف الهاون (أو مدافع جهنم) بالعشرات على المدينة، تأتي بغتة بصفير مميز، لتسمع بعده انفجارات تهز الأركان، من الصباح إلى المساء. كان الأولاد يختبئون تحت الأسرة وفي الزوايا التي يظنونها آمنة. بقي ذلك يحدث لسنوات مخلفا رعبا في النفوس وحاصدا آلاف الأرواح. قبل 2018 لم يكن بإمكاننا الابتعاد عن وسط المدينة، مع المحاذير السابقة؛ ولا الوصول إلى أهلنا في حلب.
غبنا كثيرا وطويلا عما بقي من بيوتنا وسلمه الله.. وزادتنا كورونا عام 2020 وما بعده وجعا.
وفي عقد ونصف من الزمان كبر الأولاد وتوزعوا في بقاع العالم، بحيث صار اجتماعهم في الوطن حلما.
محزن أن بعض البيوت الكاملة المكملة (بعد عمرٍ من شقاء وتعب واصطفاء هذا الغرض من آلاف الكيلومترات ونبذ ذاك…) لم يبق فيها سوى أب كبر مع أم لا تساعدها قوتها على صعود الدرج أو إنجاز أعمال البيت. الأولاد كلهم والأحفاد خارج البلاد.
وكم هي الوحدة موحشة! مع تزايد أمراض كبار السن وازدياد مخاوفهم، فإذا بهم يدركهم اليأس ويفكرون بالهجرة، إذ ضاع كل حلم وكل أمل بأن يمتلئ بيت العائلة والأولاد والأحفاد، وكم يفاجئك أحدهم اليافع (أو إحداهن) بأنه يريد – بتفكيره الغض – أن يدرس فرعا يمكنه من العمل خارجا، وهو لا يعرف شيئا عن الخارج ومصاعبه، وأن الأرزاق مرهونة بالإخلاص والصدق وبمشيئة خالق العباد.

الطريق إلى دمشق..
الطريق إلى دمشق Road to Damascus مصطلح عالمي يعني نقطة تحول جذري في حياة شخص ما، في الموقف أو المعتقد. وقد بني المصطلح في الأصل على لحظة اعتناق بولس الرسول المسيحية، في أثناء توجهه من القدس إلى دمشق التي انطلقت منها دعوات المحبة والتسامح والسلام والتعايش.
وهذه هي دمشق التي نعرفها مدينة الإخاء والمحبة والسلام. مدينة الود والحب والجمال.. التي انصهرت في بوتقتها أطياف من البشر من بقاع الأرض القريبة والبعيدة.
لا يليق بكبرياء دمشق أن يهجرها ناسها وهي التي آوت في الماضي والحاضر كل غريب.
ولا يليق بمقامها الإنكار أو الإهمال وهي أعرق مدن التاريخ:
أحبك يا أرضـي ولستِ بخيرها
ففي غيرك الأشجار والخصب والفـنن
ولكنك الأغـلى فأنتِ حبيبتي
وأنت لي الـتاريـخ والأهـل والوطـن
وقد تُعشق الأرض التي لم يطبْ بها
هواء ولا ماء ولكـــنها وطن.
وإلى لقاء قريب بعون الله .
د. غالب خلايلي
دمشق في 25 حزيران 2024